طيور الكناري في منجم الفحم


بسم الله الرحمن الرحيم

 

أتّم رايان Ryan سنواته الخمس وكان قد قضى منها سنتين في حضانة الحي تعرف فيها إلى الأحرف الأبجدية شكلاً ولفظًا، وتعلم كيف يكتب اسمه واسم بابا وماما وغير ذلك من الجمل البسيطة، ومارس بعض الأنشطة من رسوم بعض الأشكال، كانت أمه مجتمعه بكامله، وكان هو كل شيء في حياتها، كيف لا وهي تراه الخيط الوحيد الذي يصلها إلى شجرة الأبدية.

لقد طال انتظارها لذلك اليوم، اليوم الأول لدخوله المدرسة الابتدائية أولى درجات التعليم الجاد على حد تصورها، وكم بذلت من محاولات حتى تراه على أحسن حال صحة ونشاطًا وشكلًا، وقفت ممسكة بيده تنتظر مجيء الحافلة المدرسية، وما كادت تلمحها حتى خطت نحوها، ولم تكد تقف حتى ولجت به إلى داخلها، ولم تنس أن تتعرف على المشرفة وربما السائق أيضًا موصية بابنها خيرًا.

رجعت إلى البيت يملؤها الأمل بوحيدها، تنظر إلى الساعة مرات ومرات كي لا يفوتها موعد عودة رايان، وما أن ظهرت الحافلة في طرف الشارع حتى بادرت إلى لقائها وبالتالي إلى لقاء ولدها وهو موفور الصحة والنشاط كما تعهده.

لقد اعترتها الدهشة عندما وجدته يهبط من المركبة متثاقلاً عكر المزاج وبعيون حمراء دامعة وأنف يسيل فيمسحه بمنديله الورقي حتى درجة الامتلاء..لا بأس، قالت أمه إنك مصاب بالزكام يا عزيزي، هيا إلى البيت وأنا كفيلة بما يلزم لتعود صحيحًا معافى، وبالفعل لم يكد يمضي أكثر من ساعتين في البيت حتى عاد إلى طبيعته المعهودة، وتناول عشاءه على عادته إضافة إلى كأس الشاي الساخن وشيء من عصير البرتقال، وعادت السكينة إلى قلبها وزالت علائم القلق من عينيها.

ودعته صبيحة اليوم التالي وهي مطمئنة البال على صحته، لكنها فوجئت بعودته وهو يشكو من نفس الأعراض وعادت تقدم وصفتها التقليدية حيث شعر بشيء من التحسن، تكررت الحالة على هذا المنوال لمدة أسبوع بل أسبوعين، وكان ما يلفت النظر خلال هذه المدة ازدياد هذه الأعراض حدة بالإضافة إلى ظهور أعراض جديدة مثل تراجع قدراته التعليمية ورداءة الخط وآلام في الساقين وطنين في الأذنين ونقص الشهية، مع ملاحظة أن مثل هذه الأعراض تبدأ بسيطة في أول ساعات الدوام المدرسي وتزداد سوءًا في ساعات الدوام الأخيرة.

ولم تعد وصفات الوالدة قادرة على إعادة رايان إلى حالته الطبيعية، راجعت أمه إدارة المدرسة علها تفيدها بشيء يساعدها على محنة ولدها لكنها لم تظفر بشيء من هذا، وكان جواب الإدارة أن جميع من هم في غرفة صفه يتمتعون بصحة جيدة ولا يشكون من شيء، ونصحوها بمراجعة الطبيب.

عند ذلك وجدت أمه أنه لا بد من مراجعة طبيب وكان ذلك، لما أجرى الطبيب فحوصه التقليدية قال لها إن حالة ولدها لا تتعدى كونها حالة من التهاب الطرق التنفسية العليا، وإنه سوف يتحسن بعد تناوله الوصفة اللازمة مع استراحة بضعة أيام في الفراش.

وفعلًا تحسنت صحة رايان بعد مكوثه في البيت لعدة أيام ذهب بعدها إلى المدرسة ولم تلبث أن عادت الأعراض المرضية إلى الظهور بصورة متفاقمة حدة واتساعًا.

عادت إلى مراجعة الطبيب ثانية وثالثة وأخرى لكنها لم تستفد شيئًا، وأصبح الطبيب عاجزًا عن السيطرة على حالة الصغير خاصة بعد ظهور علائم فرط النشاط المرضي وتراجع قدراته التعليمية إلى حدود متدنية جدًا، وأوحى إلى أمه بضرورة عرضه على طبيب نفسي الأمر الذي أدخلها في دوامة اليأس والحزن الشديدين، قررت بعد ذلك مراجعة طبيب آخر لكن محاولتها هذه لم تكن ذات جدوى، ومما زاد المشكلة تعقيدًا أن صندوق الضمان الصحي لم يعد يوافق على صرف نفقات معالجة رايان لأن الأطباء المعتمدين لديه لم يعودوا يعترفون على الحالة المرضية لرايان سوى أنها حالة من حالات الهلوسة والتصورات الخاطئة.

هنا وجدت أم رايان نفسها في نفق مظلم، فلا هي استطاعت أن تدفع ولدها نحو الشفاء بل العكس، فلقد ازدادت أوضاعه الصحية سوءًا، كما وقف الأطباء عاجزين حيال ذلك بالإضافة إلى تراجع صندوق الضمان الصحي عن دفع نفقات وتكاليف العلاج. وبالرغم من مرارة وضعها الصعب فإنها لجأت إلى البحث عن حالات مشابهة لحالة ولدها علها تجد في ذلك شيئًا من التعزية في موقفها، أو تجد من يدلها على طريق جديد يقودها إلى الخلاص من محنتها، وفعلًا وجدت أن الكثير من التلاميذ وبعض المعلمين أو العاملين في المدارس أصيبوا بحالات مشابهة أو أشد، لكن المدارس كانت تتكتم على ذلك خوفًا من إلقاء المسؤولية على المدرسة بشكل أو بآخر، ونصحها البعض باللجوء إلى طبيبة هي الدكتورة Doris patt التي تعالج مرضاها بطرق تختلف عن الطرائق الطبية التقليدية.

وبخطوات مترددة وشبه يائسة توجهت برفقة رايان إلى عيادة الدكتورة patt، عرضت عليها حالة طفلها وعلى وجهها كل علائم الحزن واليأس، غير أن الطبيبة هدأت من روعها وأفهمتها أنها واجهت العديد من الحالات المشابهة لحالة ولدها وقد تكون أشد. كلها تماثلت إلى الشفاء، وأن عليها المزيد من الهدوء والصبر. بادئ ذي بدء قامت الطبيبة بإجراء الاختبارات التي تبين نوعية المواد التي يتحسس منها رايان فوجدت بالنتيجة أنه يتحسس من مادة الفينول، وحتى تتأكد من ذلك قامت بتبليل قطعة من القطن بهذه المادة ووضعتها بالقرب من رايان دون علم منه فلم تلبث أن ظهرت عليه أعراض النوبات التي يشكو منها وبشكل حاد وآني، وتتراجع هذه الأعراض بمجرد إبعاد مادة الفينول عنه. وعندما كررت عملية التعرض والإبعاد لهذه المادة كانت تحصل على نفس النتائج، وتأكد لها أن رايان يعاني حالة تحسس نموذجية بمادة الفينول، وأن عليها الآن أن تبحث عن المصادر التي تنشر هذه المادة في الوسط الذي يعيش فيه سواء في البيت أو المدرسة بشكل خاص أو الأماكن الأخرى التي يرتادها بين حين وآخر.

وبعد البحث الدقيق تبين أن أغطية الطاولات التي تستخدم في مطعم المدرسة أو ندوتها تنظف وتعقم بمادة الفينول هذه. أو بمواد يدخل الفينول في تركيبها. وطلبت الطبيبة بشكل رسمي من إدارة المدرسة الاستغناء عن أمثال هذه المواد واستبدالها واستخدام مواد أخرى، وأن هذا الإجراء وحده كفيل بعودة رايان إلى مدرسته ومتابعة حياته العادية وتحصيله أيضًا، ولا حاجة لتناول أي شكل من أشكال العلاج الأخرى.

وعندما تساءل القائمون على إدارة المدرسة لماذا لم يصب غيره بمثل هذه الأعراض علمًا أن جميع التلاميذ يتعرضون لنفس المادة ولمدد قد تطول أو تقصر؟ كان جواب السيدة patt قاطعًا وعلميًا أيضًا، وهو أن الأشخاص يختلفون وإلى حد كبير من حيث قدراتهم المناعية من جهة ودرجة التحسس من جهة أخرى.

وبعد أخذ ورد لم تجد المدرسة بدًا من الانصياع لرأي الطبيبة والاستغناء بصورة تامة عن مركبات الفينول في جميع مرافقها. عندها عاد رايان إلى المدرسة وتحسنت حالته بصورة مطردة ورجع إلى حالته الطبيعية تقريبًا، إذ قدرت نسبة التحسن 97-98% على اعتبار أن التعرض لآماد طويلة للأذية من جهة وتزايد حدة المرض من جهة أخرى واتساع طيف الأعراض من جهة ثالثة ترك هذه البصمة من الأذى بهذه النسبة البسيطة، وغني عن القول إنه يجب إبعاد مثل هذه المادة المحسسة بجميع أشكالها ومركباتها عن جو البيت أيضًا وتجنبها ما دام ذلك ممكنًا، عند الذهاب إلى المرافق العامة كالأسواق والمطاعم وأماكن التنزه ووسائل التنقل وغير ذلك.

ولم تكن الطالبة الصغيرة ليزا بأحسن حالاً من رايان، ولقد عانت أعراضًا مشابهة وأشد أحيانًا من أعراض مرضية وتعلمية، لكنها شفيت بالمصادفة عندما غيرت العائلة موقد الغاز في البيت وتبين أن الموقد كان يسرب الغاز الذي يسبب مرض ليزا وتراجعها في سيرها الدراسي.

أضافت الطبيبة إضبارة ليزا ورايان إلى جملة الأضابير التي تحتفظ بها لتخلص منها إلى تأكيد وجهة نظرها التي تدعم خطًا جديدًا في التشخيص والمعالجة يسمى الطب البيئي، الذي يقول إن القسم الأعظم من أمراضنا إن لم يكن كلها ناشئ عن مسببات بيئية، وإنه يكفي في حالة مرض ما أن نتعرف على سببه أولًا ثم نزيله ثانيًا، وبهذا يكون العلاج جذريًا وغير قابل للانتكاس، حتى الأمراض الجرثومية تخضع إلى حد كبير لهذا المبدأ من وجهة النظر هذه.

ويجب أن نعرف أن المعلمين والعاملين في المدرسة لم يكونوا بمنأى عن مثل هذه الأمراض والأعراض المرضية التي وصلت إلى حد الخطورة الحقيقية، ولقد تبين أن العوامل الرئيسة الملوثة للبيئة والمدرسة بشكل عام يمكن حصرها بالمسببات التالية:

(الغبار العفن، غبار الطلع، المواد الكيميائية، المواد المشعة، الموجات الكهرطيسية، الضجيج) هذه الأشياء التي تلوث هواءنا ومياهنا وغذاءنا، ومن الواضح أنه لا يمكننا السيطرة على مصادر انتشارها بصورة تامة إلا في حدود محصورة جدًا ومكلفة عند الضرورة.

بعد هذا قامت الطبيبة بتعريف المرضى أو أوليائهم بعضهم إلى بعض وشجعتهم على تشكيل جمعيات رسمية لأنصار البيئة وليعملوا بصورة جماعية ويوحدوا جهودهم والاتصال بوسائل الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، وعرض قضاياهم الموثقة بغية الضغط على مسؤولي الصحة العامة والمدرسية لتحسين الواقع البيئي لأبنائهم حتى لا يكونوا كطيور الكناري الموضوعة في منجم فحم على حد تعبير دوريس. كما أقيمت الدعاوى على مؤسسات التأمين الصحي في دوائر القضاء لإجبارهم على دفع نفقات مثل هذه الأمراض التي لم يكن الأطباء المعتمدون لديها يعترفون بحقيقتها وبالتالي بقانونيتها.

أما الدراسة الأهم التي أجريت في شرق الولايات المتحدة عام 1998م والتي تناولت (14000) مدرسة تضم (25000000) تلميذ تمثل ثلث الحقل التعليمي في الولايات المتحدة، أوضحت أن (35000) تلميذ أصيبوا بأمراض مختلفة جرت معالجتهم بطريقة الطب التقليدي مات منهم (37) تلميذًا وبقيت (8000) حالة عصية على المعالجة لم تلبث عيادات الطب البيئي أن تناولتها وعالجتها بطرقها الخاصة والقائمة على معرفة السبب ومن ثم إزالته، وكانت النتيجة أنهم تماثلوا إلى الشفاء ماعدا ثلاثة ماتوا.

نتيجة لمثل هذا الأبحاث والدراسات ظهرت إلى الوجود ما يسمى بالمدارس الرائدة، حيث جهزت في كل مدرسة غرفة صف أو غرفتان إذا اقتضى الأمر تتخذ فيهما جميع الاحتياطات لتأمين جو بيئي مثالي إلى أقصى حد ممكن، وهذا يقتضي عزل هذه الغرف تمامًا عن الجو العام للمدرسة وتأمين هواء نقي يؤخذ من أماكن غير ملوثة وتجري تصفيته وتنقيته بواسطة أجهزة خاصة وتخليصه بصورة خاصة من الغبار وأبواغ العفن وغبار الطلع والعناية بأجهزة التوصيل وصيانتها وتنظيفها من وقت إلى آخر واستخدام أجهزة تكييف جيدة الأداء يضاف إلى ذلك استخدام مقاعد وكراس مصنعة من الخشب الطبيعي غير معالج بأي نوع من المواد الكيميائية المعروفة أو غيرها وعدم استعمال السجاد الصناعي أو غيره من المواد البلاستيكية التي يدخل في تركيبها زمر كيميائية معروفة مثل البولي فيلين وغيره.

عدم استخدام الطلاء التقليدي للجدران وإبعاد المواد اللاصقة التركيبية في الأسقف المستعارة أو المستخدمة لتثبيت صفائح الملاط الأرضي، واستخدام تقنيات معينة في تصنيع السبورة المدرسية وأدوات الكتابة والمحو لا تثير أي شكل من أشكال الغبار ولا يستخدم في صناعتها أي مادة كيميائية مثيرة للجدل بالإضافة إلى الستائر والإضاءة حيث يجب إبعاد وسائل الإضاءة المفلورة واستخدام الضوء كامل الطيف. ولقد قدرت تكاليف إنشاء مثل هذه الغرف بـ(50000) دولار للغرفة الواحدة التي لا تتسع لأكثر من ثمانية طلاب على الأكثر.

ومن الجدير بالملاحظة أن كلاً من كندا وبلجيكا عمدتا إلى إحداث مثل هذه المدارس «الرائدة» بصورة طوعية وقبل إحداثها في الولايات المتحدة وبدون ضجيج وسائل الإعلام واجتهادات القضاء وتسويف مؤسسات التأمين.

بعد هذا فلقد آمنت جميع المراجع التربوية في العالم طوعًا أو كرهًا بأهمية البيئة على تلاميذ المدارس ضمن مدارسهم أو في بيوتهم حتى إن السلطات التربوية في المكسيك تعمد إلى إخراج طلاب المدارس من مدينة مكسيكو العاصمة إلى خارجها خلال أسابيع معينة في السنة هي التي تبلغ فيها الرطوبة المختلطة بدخان المعامل وعوادم السيارات حدًا لابد من تلافيه وخصوصًا عند من هم في سني التعلم من الأطفال واليافعين.

وآمل أن يعمد أصحاب القرار في ميادين التربية في عالمنا العربي المعاصر والمستقبلي إلى المزيد من الاهتمام بعوامل البيئة المدرسية من حيث اختيار موقع المدرسة والمواد المستخدمة في البناء ووضع المرافق الصحية فيها حتى لا يكون أبناؤنا طيور كناري موضوعة في مناجم الفحم على حد تعبير السيدة «دوريس بات».

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply