مدحني الناس بما ليس بي فتوقفت عن البحث الأدبي


 
محمود شاكر من أكثر الشخصيات الأدبية صعوبة في إجراء الحوارات. فبسبب حدة مزاجه، مررت معه بتجربة مرهقة مما دفعني إلى أن أوسط بعض الشخصيات التي تحظى باحترامه مثل الكاتب الكبير يحيى حقي والفنان التشكيلي صلاح طاهر.. وغيرهما لكي يساعدوني في إقناعه. ولولا ذلك الإصرار والمحاولات الدءوبة لما كان هذا الحديث الذي أُذيعت مقتطفات قصيرة منه قبل ربع قرن من إذاعة الكويت وينشر كاملاً في الصحافة للمرة الأولى.

*يعتبر بحثك عن المتنبي من أهم الدراسات التي كتبت عن هذا الشاعر العظيم.. فلماذا لم تواصل جهودك في ميدان الدراسات الأدبية؟

 - ابدأ بالحديث عن المتنبي، وأدع الحديث ـ أيضاً ـ عن المواصلة. وهذا شيء يقره واقع حياتي: عندما صدر هذا الكتاب وتناقله الناس، كتبت عنه كلمات كثيرة، فيها إعجاب شديد وقد كنت في ذلك الوقت في الخامسة أو السادسة والعشرين من عمري. في هذه السن جاءني ثناء كثير من المهجر الأمريكي، ومن الشام ومن العراق، باختصار جاءني ثناء من كل مكان.. وعندما جمعت الصحف التي كتبت حول موضوع كتابي عن المتنبي وقرأت ما فيها، كنت أراها مبالغة شديدة، ذلك لأني أشتغل بالنقد، نقد الكلمات، وهذا أتاح لي أن أكون معرفة لما تحتوي عليه النفوس.. وخلصت إلى أن هذه المقالات التي كالت لي المديح وجدت أنها ظاهرة لا تعجبني! فهؤلاء الناس كأنهم قد اكتشفوا شيئا جديداً مكتوباً عن المتنبي في حين أنني انتقيت كل ما كتبت من داخل شعر المتنبي، ولم آت بجديد، وقمت بنقد كل ما روي عن المتنبي، وليس فيه ذكر للمصادر. فهذا كل ما فعلت! فلما قرأت الكلمات مع غرابة ما أتيت به من الآراء في تاريخ المتنبي سواء كان ذلك في أمر مولده، أو في أمر نسبته من أي القبائل هو أو في أمر «نبوته» أو في أمر ما انطوت عليه جوانحه من حب لامرأة ذكرتها في هذا الكتاب وهي أخت سيف الدولة.. هذه الأشياء وغيرها قد انفعل بها هؤلاء الكتاب وكتبوا كلاما كثيراً عندما نظرت إليه نظرة تدقيق، وجدت أنه كتب مجردا من كل شعور علمي حقيقي. ففهمت من هذا، أن هؤلاء هم أصحاب فضل علي، وهم الذين أعطوني هذه الشهرة، ولكنني شعرت فعلا أن هذا النوع من الكلام لا يرضي! مع أن كتابي عن المتنبي قد طبعت منه ثلاثة آلاف نسخة ومن المقتطف ثلاثة آلاف أخرى نفدت جميعها، وكان ذلك يعد شيئا عجيباً، لأننا كنا في سنة 1936م، أما لماذا لم أواصل البحوث الأدبية فلأنني وجدت الناس يثنون عليّ بغير حق.. ويمنحونني أكثر مما استحق!

 

* مع أن المفترض أن ذلك الثناء على كتابك عن المتنبي كان من الممكن أن يكون عامل تشجيع وتحفيز أكثر للاستمرار في البحث؟

- ربما.. ربما كل الناس يحبون الثناء والإطراء، وأنا أيضاً أحب الثناء ولكني أحبه إذا كان في موضعه، وللثناء مفهوم خاطئ عندنا إذ ينحو أحياناً منحى يكال فيه المديح ببذخ لا أصل له! الإعجاب والإجماع.

 

* عندما يكون هناك إجماع من المهجر ومن المشرق العربي، ومن المغرب العربي أيضاً على كتابك الذي شرحت فيه المتنبي، أظن أن الواجب يحتم عليك أن تأخذ ذلك الثناء كحافز للاستمرار في العطاء!

 - نعم حفزني بالتقدم، ولم يحفزني إلى احترام ما أنا فيه، لأني أعلم عيوب ما كتبت أكثر مما يعلمه هؤلاء.

 

*هذه نقطة غامضة؟

- للأسف.. لم أجد كاتبا إلى هذا اليوم قام بنقد هذا الكتاب نقدا صحيحا أو فهم طريقة ما كتبت. فليس هناك من نقد الكتاب كما ينبغي أن ينقد.. نقده الدكتور طه حسين في كتابه مع المتنبي نقدا لا أستطيع أن أعده نقدا في الحقيقة، لأنه لا أصل له. وقد كتبت عن كتاب الدكتور طه حسين في ذلك الوقت لأنه ألف كتابا غير ناضج أيضا وسلك فيه سبيلا قلدني فيه ورددت عليه في (البلاغ) ذلك الوقت بثلاث عشرة مقالة، وبحدود ثلاث وسبعين صفحة، قلت فيها أن كتاب طه حسين محشو بأشياء كثيرة تدل دلالة قاطعة على أن الدكتور طه لم يسلك هذا الطريق الجديد على كتبه في كتاب المتنبي إلا بعد أن قرأ كتابي. وما يؤكد ذلك أن كتاب طه حسين صدر في سنة 37 أو 38 بيد أن كتابي صدر في سنة 36. ومع هذا ففي أثناء العيد الألفي للمتنبي الذي إقامته جامعة الدول العربية، أخبرني الدكتور طه حسين مشافهة بثنائه الشديد على كتابي! ولكن كما قلت: أن كل هذا الثناء لا يؤثر علي ولا يغير شيئا من قناعاتي، كما أن الثناء لا يغير رأيي في الناس! وأقولها بأمانة: إنه لم يكتب أحد كلمة أستطيع أن أحترمها بشأن كتابي سوى رجل واحد كتب نقدا لي من وجهة نظره، وهذا النقد يحتوي على شيء من الحقيقة، أما الرجل فهو الأستاذ «الوديع تلحوم». وقد نشره في مجلة المقتطف، ولم أحتفظ بشيء مما كتب عني سوى هذه المقالة أو هذا النقد، بالإضافة إلى مقالة أستاذي الأستاذ مصطفى صادق.

 

* لماذا لم تستمر في كتابة الأبحاث الأدبية؟

 - لم أستمر لأني في ذلك الوقت كنت صغيرا، لقد كنت في سن السابعة والعشرين، والثناء علي كان كثيرا، وقررت مع ذلك أن أتوقف رغم الجديد الذي لم أكن أعهده في حياتي من الاحترام الذي لقيته من الكثيرين وخاصة صاحب البلاغ عبد القادر حمزة وغيره من الرجال الذين لقيتهم ووضعوني في مكانة لا أستحقها في ذلك الوقت.. وأقول لك ذلك صادقاً، وليس هناك ما يدفعني لمثل هذا القول إذ إنني لست متواضعا كما تعلم. فطبيعتي كما تراها اليوم أني لا أقبل شيئا لا أستحقه. معالجة النفس.

 

* الذي ألاحظه أنك شديد الكبرياء؟

 - بغير كبرياء.. أنا الذي أقوله لك، وكلامي يدل عليه، هو أني غير متواضع، ولكني في نفس الوقت أطلق حقائق. فهناك أشياء لا أستطيع أن أتخلى عنها في هذه الدنيا أبداً! وعلى رأسها حقيقة نفسي، فأنا قضيت حياتي أعالج أثرا يندب في، أعالج أثر الاستعمار في قلبي، في ضميري، في عقلي، في نفسي، في نظري، في رؤيتي.. أعالج أكبر المسائل في داخلي. شجون «الرسالة».

 

*المثقفون العرب، أحسوا بنوع من الجفاف بعد أن افتقدوا واحدة من أهم المجلات الأدبية، أعني مجلة «الرسالة»، وباعتبارك من كبار المساهمين في تحريرها منذ نشأتها و حتى توقفت.. وقد جرت محاولة لإعادتها أخيراً وصدرت بعض الأعداد ثم توقفت.. فهل لك من تعليق حول هذه القضية؟

- الحديث عن مجلة «الرسالة» ذو شجون! فهذه المجلة والتي ترى أعدادها مرصوصة وراءك في مكتبتي فيها أقلام ورجال وتحتوي على مئات الأسماء من فطاحل عالم الأدب، من كل مكان من الشام والعراق واليمن والمغرب العربي والجزيرة العربية.. والغريب بل المعيب أن بعض هؤلاء ممن كتبوا في الرسالة، لم نعد نرى لهم ذكرا، مع أن لبعضهم إبداعات تعد من أمهات عيون الأدب العربي المعاصر.. ومع ذلك فقد خفيت هذه الأسماء، ولم يبق منها إلا عدد قليل محدود، فالأقلام التي اجتمعت من كل مكان في البلاد العربية بعد الثورات المتتابعة والتي كان آخرها سنة 1919 ـ تلك الثورة الصحيحة الأصل والصحيحة المنبع ـ اجتمعت من جميع البلاد العربية، تلك الأقلام، وكتبت في مجلة «الرسالة» وصار لها تداول أكسبها شهرة ـ أي الأسماء ـ فانتشرت في كل بلد عربي. ونتيجة لصدق كثير مما كان يكتب فيها كان له تأثير بالغ على كثير من رواد الأدب المحدثين، ولو أن القليل انفصلوا عنها انفصالا كاملا.. ولكن مجلة الرسالة ظلت باقية إلى سنة 1952 أو 53م في ما أظن.

 

* في أي عام بدأت مجلة «الرسالة» في الصدور؟

- حوالي عام 35 أو 36 في ما أظن، والحقيقة أن الأستاذ الزيات - رحمه الله - قد أهملها في أواخر أيام حياته لأنه شغل عنها بشؤونه الخاصة، فكان الأمر أن تولى الإشراف على الرسالة من لا يصح أن توكل إليه أمور المسألة الفكرية، وهذا خطأ أساسي في تحرير المجلات الأدبية. لأن المجلة الأدبية ينبغي أن تقوم على صاحب الفكرة، ولما كان الزيات صاحب فكرة وصاحب جهود في الاتصال بكل أديب ومفكر في ذلك الوقت، كان لمجلة الرسالة مكانة رفيعة، عندما انفصل الزيات وترك الأمر لغيره، كانت الكارثة! فكان لابد من موتها! وبالفعل فقد ماتت، ثم أُحييت بطريقة مصطنعة سنة 64 و65 وطلب مني أو طلب مني الأستاذ الزيات أن أكتب فيها، ولكني رفضت، وبعد إلحاح منه، وجدتني أكتب فيها مجرد كتابة ولم أكن كما كنت أيام «الرسالة» الأولى إذ كنت أعد نفسي كصاحبها. ففي ذلك الوقت أعني أيام «الرسالة» الأولى كنت أكتب لأنني كنت أعبر عن ذاتي، أما في الرسالة المصطنعة فوجدت نفسي ملحقا بالماضي بسبب التزامي مع الأستاذ الزيات، ومعظم كتاباتي الأخيرة فيها لا ترضيني، لأنني كنت منفصلا عن حقيقة هذه المجلة وكنت غير راض عما فيها.

 

حدود القراءة * لماذا نجد أن معظم المجلات الأدبية لا تعمر في عالمنا العربي؟

- لعدم تعمير المجلات الأدبية في العالم العربي أسباب كثيرة، ولكن لا يصح أن نربط عدم تعمير المجلات الأدبية في بلادنا، وعدم تعمير المجلات الأدبية في البلاد الأخرى! والسبب في عدم بقاء المجلات الأدبية في بلادنا مرده في الحقيقة إلى أن الجديد الذي يصدر عن المدارس المصرية، والتي تتبعها سائر المدارس في البلاد العربية على اختلاف مابينها من القوة والضعف أن هذه المدارس مازالت مصرة على أن الفكر ليس متأصلا في حياتنا! والذين يصدرون عن هذه المدارس ما يزالون يعدون الأدب أو الفكر ليس أصلا في حياتهم.. لأنهم لا يبدءون بدءا صحيحاً، فالقارئ في بلادنا العربية لا يستطيع أن يقرأ إلا في حدود معينة!

 

* تعني الحدود المخصصة له في المراحل الدراسية؟

- ولذلك لا تستطيع المجلة الأدبية أن تعيش في مثل الحدود التي يطلبها هذا الطالب المتخرج في مدارس ثانوية بل المدارس العالية أيضا.

 

* هذا الكلام يحتاج إلى تفسير أكثر؟

  الحياة الأدبية الصحيحة سوف تدفن دفنا كاملا، فإن هذا الجيل الذي نراه منزوعا من أصوله نزعا كاملا.. الجيل الذي نشأ في السنوات الأخيرة كله منزوع من أصوله نزعا كاملا. وأنه لا بقاء لأمة.. لا بقاء لأمة بغير حصيلتها الماضية! بغير هذا التيار المتدفق من القرون الطويلة. وأعني بالتيار المتدفق ذلك التيار الفكري واللغوي الذي يعيش به الإنسان.. الإنسان يعيش بلغته.. فهذا الانفصال بين الماضي والحاضر قاطع بأن كل طريق في الحياة الأدبية سوف ينقطع أيضا، ولا أعني بالتيار المتدفق، ذلك التاريخ المزيف عن طريق الآثار أو سواه!

 

* كأنك بذلك تدق ناقوس الخطر؟

- نعم.. لا تستطيع أي أمة أن تعيش بغير تاريخها، والذي يريد أن ينشئ في هذا الزمن أمة أخرى عن طريق التوهم فهو مخطئ، فتأسيس أمة جديدة عن طريق التوهم ضرب من ضروب الخطأ، الأمم بلسانها فقط الأمم بحركاتها الأدبية واللغوية فقط.. أما الأشياء الأخرى من الصناعة إلى كذا، وكذا.. أو الآراء الاجتماعية وما شابه ذلك، فهذه زائلة ومتحولة.. أو يمكن أن تتحول في أي وقت من الأوقات. ولكن إذا تحول التاريخ، فلا يمكن أن يبقى إنسان على صورة صحيحة في هذه الحياة!

 

* تابع القراء معركتك الضارية مع الدكتور لويس عوض.. فكيف بدأت وكيف انتهت؟

- أولا أنا أنكر عليك توجيه هذا السؤال!

 

* لماذا؟

- لأنني لم أخض معركة، فهذا الشيء الذي كتبته سنة 64 و65م ليس معركة في الحقيقة، وإنما.. (مسترسلا).. إلا إذا عددت حياتي ـ وهي مسألة سيئة ـ كلها معركة، وهذا الذي ذكرت اسمه لا وجود له في الحقيقة! وقد ذكرت هذا في مقدمتي في هذه المقالات التي طبعتها، وطبع منها الجزء الأول والجزء الثاني ما زال في المطبعة.. فالرجل الذي ذكرته كتبت رأيي فيه، وأنا أعلم حقائق كثيرة عن هذه الدنيا، ومن هذه الحقائق أن كثيرا من الناس في كل زمان يرون ثم يختفون إلى الأبد! ومع الأسف أحب أن أقول لك: إني أرى الآن بشائرها كالضوء الذي مر، مئات من الأسماء التي تراها اليوم، إذا قدر لنا، إذا قدر لهذه الأمة البائسة التي أتوقع ضياعها إذا لم تستيقظ إذا قدر لهذه الأمة أن تستيقظ حقا فلن يذكر أحد من هؤلاء المئات قط.. لم يحترم إنسان في هذه الدنيا عقله إذا ذكر أسماء هؤلاء في التاريخ الأدبي. وأظنك تعلم أن التاريخ الإنجليزي ـ أعني تاريخ الأدب الإنجليزي وتاريخ الأدب الفرنسي ـ قد مرت به مثل هذه الفترات، إذ حفل تاريخهم برجال كثيرين في مضمار الأدب، ثم انتهى الأمر بهم أن أصبحوا صفرا ولم يعد هناك من يقرأ لهم كتابا. المعركة مع لويس عوض

 

* يعني ليست لديهم أعمال تخلدهم؟

- تخلدهم! بل قل إنهم لا يحظون باحترام.. التخليد أمره كثير عليهم.

 

* ليتنا نأتي على القضية بالتدريج كي نقف على الأسباب التي جعلتك تتخذ هذا الموقف من الدكتور لويس عوض؟

 - نعم.. الذي دفعني لموقفي هذا أني وجدت شيئا غريبا جدا كنت أراه مفرقا ثم رأيته مجتمعا.. وقد ذكرت ذلك في مقدمتي ـ أباطيل وأسمار قلت: «كيف تنبهت إلى هذا، فقد انفتحت عيناي على شيء مخيف، وهو أني أرى اكتساحا كاملا مرورا بالزمن للعقل العربي والمصري».. وأنا أذكر مصر هذه المرة، وأقول: أن الخطر آت من مصر، وإني أرى توجيها شديدا لمحق كل شيء يمكن أن يكون له صلة بالحياة الصحيحة للفكر الأدبي في المستقبل. ومعنى هذا أن هذه المعركة ليست معركة أدبية، إنما هي معركة سياسية بمعنى أنهم يمنعون الأمة مما يجب وينبغي أن تكون عليه وخاصة في مصر.. لأني كما قلت لك أعتقد أن تاريخ الأمم هو تاريخ النفس الإنسانية في تعبيرها عن ذاتها، فإذا محق هذا التعبير الحقيقي الصحيح، فقد انتهت الأمور، فالحرب من هذه الناحية إذن هي حرب الكيان السياسي لا الكيان الأدبي، إنما أنا أعتقد أن هذا الذي ذكرت اسمه في كلامك، لأنه لا يساوي شيئا في التاريخ الأدبي الصحيح ولا فهم له أو إدراك في أي شيء.. وقد شرحت ذلك بوضوح، وأي قارئ محسن يستطيع أن يرى أن هذا لا يحسن أن يقرأ الأشياء التي يقرأها باللغة العربية بل وباللغة الإنجليزية أيضا، لأني بالطبع درست الإنجليزية وأعرفها،.. وأنا أعرف أن الذي كتبه هذا الذي أترفع عن ذكر اسمه عن فلان وعن فلان، أعلم أنه كلام سخيف جدا ولا يقبل به أي إنجليزي في الدنيا، وإذا لم تصدقني وجه سؤالك لأستاذ إنجليزي، إذا أجابك بغير ما أقول لك، أكون مخطئا!

 

* أعود مرة أخرى لأؤكد أننا بأمس الحاجة لأن نبدأ بمسك الخيط من بدايته! لنشرح الخلاف بينك وبين الدكتور لويس عوض الذي أراك ترفض أن تأتي على ذكر اسمه؟

- أنا لا أريد أن أذكر هذا الاسم لأنه ثقيل علي، وهو ثقيل علي منذ زمن قديم.. وقد ذكرت هذه القصة: فأنا أقرأه منذ كان صغيرا، وأراه وأعرفه وأعرف كيف نشأ وكيف نشأ أستاذه أيضا، وكيف تكون أستاذه، ومن يليه، أعلمهم وأعرفهم جميعا، ولو كنا نعيش في وسط أمة أخرى. لو كانت لنا أمة حقيقية، لفهمت هذه الأشياء، لأن الأمم الأخرى تفهم كيف تحصن نفسها من سموم هذا وأشباهه! لكننا نحن للأسف لا نريد أن..

 

*هل من الممكن أن نأتي إلى بداية الخلاف مع الدكتور لويس عوض؟

 - قل لنأتي على هذا الخطر، ووجود هذا الخطر، لأني أرى أن هذا خطر سياسي، ومقالاتي تدل على هذا.. وإني أرى الناحية السياسية وليس الناحية الأدبية، أما من الجانب الأدبي، فلا شك أن هذا الإنسان الذي ذكرت اسمه لا يستطيع أن يقرأ أبياتا لأبي العلاء ولا يستأنس بأبيات أبي العلاء ولا غير أبي العلاء!! كما أنه لا يستطيع أن يقرأ شعر شاكر السياب على الوجه الصحيح، وهو معاصر له، كما لا يستطيع أن يقرأ كلام الجبرتي عندما قال: «إن النساء الجواري في بيوت المصريين لما جاء الفرنسيس إلى مصر.. يقول الجبرتي: إن هؤلاء الجواري كن يذهبن إلى الفرنسيس برغبتهن في مجرد أنثى بمطلق الأنثى برغبتهن في مطلق الأنثى، فظن أن هذا مطلق الأنثى... إنها مسألة تحرير المرأة.. بكلمة مطلق يعني إطلاق المرأة، أي المطلق الأنثوي، أي إمرأة بتعبير دارج على ألسنة العوام، فقد كتب هذا الكلام وهو لم يفهم ماذا يكتب، وماذا كان يعني الجبرتي وهذا الذي تشير إلى اسمه كتب مثل هذا الكلام في صحفكم المحترمة الوقورة التكنولوجية.

 

* هل اعتراضك على الدكتور لويس عوض لأنه تطرق إلى بعض رجالات العرب ومفكريهم وأشار إلى أن بعض الفلاسفة العرب قد استقوا ثقافاتهم من منابع غير إسلامية؟

 - لا.. لا.. هذا سخف أنا لا أريد أن أرد عليه، وكنت سأرد عليه لأوضح هذا الخلط ما بين السم والعسل! وهذا الكلام قيل على لسان من هم أكبر من هذا الذي لا أريد ذكر اسمه، لأنه تابع بسيط مبتذل مبهور في كتب من سبقوه من اليهود وأمثاله.. فمثل هذه الترهات تحتوي على كلام سخيف لا يعتد به.. وكنت سأتناول الرد على مثل هذه الأمور لولا أن حدث ما قطعني عن ذلك! كنت سأتناول أيضا أثر مثل هذه الترهات من الناحية السياسية لأبين كيف يقال مثل هذا الكلام ولم يقال! أما أن العرب قرءوا كلام الأوائل، فهذا شيء مقطوع به فهذه الأمة من أعظم الأمم، لا توجد أمة أخرى على ظهر الأرض احترمت العقل الإنساني كما احترمه العرب. رحلة مع الشعر.

 

* لنقفز على هذا الموضوع، ولنأت إلى الوقوف على قصتك مع الشعر العربي؟

- كما حدثتك فأنا قرأت أول ما قرأت شعر المتنبي وحده، ومنذ ذلك الوقت أحسست أن حياتي كلها منصرفة إلى الشعر.

 

* والآن؟

- قديما عندما نشأت، فقد كنت في الحادية عشرة وكنت أكتب الشعر بوفرة.

 

* في الحادية عشرة؟

 - في الحادية عشرة أو الثانية عشرة!

 

* هل تحفظ شيئا من هذا الشعر؟

- لا أحفظ شيئا منه لأنني مزقته كله! وأنا اليوم لا أنشر شعري.. فبدأت هذا البدء.. وكما تعلم أنه كانت في ذلك الوقت أشياء كبرى.. شوقي، وحافظ، ومطران، والعقاد، والتناقضات الشديدة بينهم.. وبينهم أئمتنا من كبار الشعراء في العالم العربي.. وكنت طفلا، وفي ما بعد نشأت بيني وبين المازني وأحمد شوقي صداقة، وعاشرته دهرا طويلا، وكذلك الأستاذ مصطفى صادق والعقاد، وكنت منصرفا بكل ما في نفسي إلى الشعر ولم أكن أبالي بشيء غير الشعر. ثم عرض لي وأنا أقرأ الشعر العربي ـ وأنا قرأته كما قلت لك عندما كنت طالبا في القسم العلمي ـ قرأته ـ أي الشعر ـ كما أقرأ أي مسألة رياضية، بمعنى أني بدأت أرى أنه ينبغي أن تسلسل تسلسلا علمياً، فبدأت بالشعر الجاهلي شاعرا شاعرا، وهذه الألوف المكدسة من الكتب التي تراها في مكتبتي اشتريتها وبدأت بجمعها منذ أول يوم وأنا في الحادية عشرة أو الثانية عشرة يغلب عليها الشعر العربي، لا ينقصني أي ديوان لأي من الشعراء، ولا ينقصني أي بحث كتب عن الشعر العربي. أبدا. وقد قرأت الشعر بتصنيف، والذي أذهلني خلال هذه القراءة الشعرية هو تاريخ القصائد.. فظللت أقرأ وأقرأ، ووجدت في نفسي حيرة.. فالكثير مما أقرأه لا أستطيع أن أفهمه فهما صحيحا، ولا أستطيع أن أقتنع أيضا أن هؤلاء الذين يقولون هذا الكلام هم عبارة عن ضرب من البلهاء. ومع كل هذه القراءات التاريخية، ظل الشعر جزءا هاما في حياتي أتغنى به في داخلي، ولكني لا أستطيع أن أحققه كما ينبغي لكثرة دوافعي إلى طلب المعرفة في وجوه مختلفة من كل فروع المعرفة الإسلامية والعربية، ومع انشغالي في ذلك الوقت بالأدب الإنجليزي وأنا طالب مع الكثير مثل الأستاذ توفيق البكري وزعيم حزب اللواء الأبيض الأستاذ عرفات عبد الله.. كنت في ذلك الوقت أقرأ معهم الشعر الإنجليزي، وكان اهتمامنا بطبيعة الحال نابعاً من اهتمام الأستاذ العقاد والأستاذ محمد السباعي ـ والد الأستاذ يوسف السباعي ـ وكثير غيرهم، وكانت هذه الدوافع.. ولكنني تخليت لاحقا عن هذه الأشياء لأنني وجدت طريقي الذي ينبغي أن أسلك فيه سلوكا صحيحا لتحقيق ذاتي.. فتركت الشعر ولكنني لم أنقطع عنه، فأنا أقول الشعر أحيانا وصلتي بالشعر وثيقة.. ومن أكثر أصدقائي في ذلك الوقت علي محمود طه فقد عمل معي طوال السنين الماضية إلى أن توفي. وكان من أصدقائي أيضا محمود حسن إسماعيل، وبالطبع أنت تعلم أنه من أعز أصدقائي، وهو يوميا عندي، فأنا أعيش في الشعر.

 

* عرفك الناس كواحد من الجهابذة في مضمار البحث والتنقيب والتصحيح في مجالات التراث واللغة، ولكن مكانك بين الشعراء المعاصرين لم يسلط عليه الضوء الكافي؟

 - أنا لا أستطيع أن أحدثك عن الشعر بالمعنى المفهوم له ولا عن آخر قصيدة كتبتها.. ولكنني أقول لك: أن كثيرا من شعري لم أنشره.. أما «القوس العذراء» فقد نشرتها لإيماني بمدى أهميتها وأهمية أن يقرأها أبناء هذا الجيل.. فهي ليست كلمة عابرة، وإنما لها قصة بدايتها نثرية وهي تتناول بعض الموضوعات التي تقتضي من قارئها أن يتأملها وأن يقرأها قراءة مركزة وليست سطحية. ولي قصائد أخرى كنت قد اهتممت بها اهتماما شديدا وهي قصائد طوال أفسر فيها معنى الحياة الإنسانية كما أراها من وجهة نظري، لم أنشرها بعد، ولي قصيدة بعنوان «اعصفي يا رياح» أذكر منها: وازأري يا رياح في حرم الدهر زئيرا يزلزل الأعمارا اعصفي وانسفي كأنك سخرت خضالا يساور الأقدارا اعصفي وازأري كأنك غيري قذفت حقدها شرارا فطارا اعصفي كالجنون في عقل صب هتك الغيض عزمه والوقارا اعصفي كالشكوك في مهجة الأعمى تخاطفت حسه حيث سارا اعصفي كالفناء ينسف الأوكار نسفا ويصرع الأطيارا اعصفي كالوفاء صاد به الغدر فأغضى إغضاءة ثم ثارا اعصفي كالأسى أفاق من الصبر فلم يستطع قراراً وفارا اعصفي وانسفي فما أنت إلا نعمة تنشئ الخراب اقتدارا عالم لم يكن ولا الساكنون فيه غير أشباح نقمة تتبارى.

 

* بذلت وتبذل الجهود لنفض الغبار عن كتب التراث، وتقديمها في إطار عصري.. فما هو السبيل للنهوض بهذا المرفق الحضاري التراثي والهام؟

- بقي عدد قليل جداً من الذين يحسنون نشر الكتب القديمة على وجه يعتمد، أما السبيل الأفضل للنهوض بإبراز التراث للمعاصرين.. فإن المسألة تقتضي تعاون الدول العربية والإسلامية في هذا المجال. أما أولئك الذين يجب أن يضطلعوا بالقيام بهذه المهمة فلابد أن يكونوا من المعروفين بدقتهم، وهم قليل جدا إذ لم يبق من أبناء الجيل الماضي، أعني الجيل الذي سبقنا ممن كانوا ينشرون الكتب التراثية في المطبعة الأميرية وسواها.. أمثال أستاذنا العظيم وهو كتبي يكاد أن يكون أميا أعني أستاذنا أمين الخانجي - رحمه الله -. وهو من أعظم الرجال الذين رأتهم عيني، مع أنه لم يتعلم قط ولكن كانت له معرفة وثيقة بالكتاب، لم أر أحدا يحب العمل على رواج الكتاب مثل هذا الرجل! والمعاصرون في مجال الكتب تنقصهم المعرفة أولا وليس في قلوبهم احترام للنص المكتوب، ويبدلون ما يقع تحت أيديهم تبديلا فاحشا.. فهم يتعاملون مع الكتب ليس من منطلق الالتزام الثقافي أو الأخلاقي.. إنما يدخلون هذا المجال من باب الارتزاق، وهذا كل ما في الأمر.

 

* هل هذه الظاهرة تقتصر على صناعة الكتاب فقط؟

- أبدا هي ظاهرة عامة شملت الهندسة والطب ومعظم المجالات الإبداعية في بلادنا مع الأسف.

 

* بمناسبة الحديث عن التراث، بماذا تنصح القراء من الشباب في قراءاتهم التراثية؟

- لا أريد أن أعطي للناس عظة، لأن كل امرئ مسئول.. بين يدي الله - تعالى -، لا يستطيع أن يعتذر عن شيء إذ أن الله جل وتبارك قد أعطاه عقلا، فكان ينبغي بهذا العقل أن يعرف شيئا من الطريق.. ولابد أن يسأل بشكل ما.. كل إنسان لابد أن يسأل.. فأنا لا أريد أن أعطي هؤلاء الشبان عذرا.. لا أريد أن أحمل نفسي المسئولية، ولا أستطيع أن أتخلى عن المسئولية. أنا نشأت كنشأتهم، والمتنبي نشأ كنشأتهم.

 

* هل تشاهد برامج التليفزيون؟

- نعم أشاهدها ولكنني أحتقرها احتقارا كبيرا لأنها تستعمل لغة ليست عربية، بل حتى الإعلانات فيها كأن هناك من يتعمد من يختار لها الكلمات السوقية وأحيانا الكلمات الأجنبية!

* للأسف؟

 - تصور في معظم البلاد العربية تجد أسماء الفنادق الأجنبية.. هيلتون.. شيراتون.. إنتركونتيننتال.. وهلم جرا.. هذا الاحتقار العام أصبح شيئا فشيئا أصيلاً في بلادنا وستنشأ عليه أجيال وأجيال من أبنائه مما يمسح شخصيتنا شيئا فشيئا. ولابد من إعطاء هذا الجيل هذا العذر.. فالمؤسسات التربوية والسياسية هي المسئولة أولا وأخيرا عن هذا الدمار.

 

* من المسئول عن التخلف في مجال اللغة العربية بالدرجة الأولى؟

 - هي مسؤولية الأمة بأسرها.. نعم، إن هذه هي مسؤولية أمة ينبغي أن تكافح من أجل بقائها بالحفاظ على تراثها ولغتها. ويكفي أن نتعلم من اليهود الذين يجزون اليوم أعناقنا أن نتعلم منهم أنهم أنشؤوا لغة من لا شيء! ولتأكيد ذلك اقرؤوا ما قالوه عن الجهود للنهوض بالأدب اليهودي الحديث.. وكيف صنعت هذه الجهود؟

 

* أستاذ شاكر.. لابد من ختام لهذا الموضوع.. وأترك لك الكلمة الأخيرة تتوجه بها لقرائك ومحبيك.. ومريديك..

 ـ أحب أن أقول لكل امرئ، أنه مسؤول أمام هذه الأمة التاريخية العظيمة المسماة بالأمة العربية، مسؤولية حقيقية،.. وأن على كل امرئ أن يبصر طريقه بوضوح قبل أن يفوت الوقت.. فإن الأمم ليست بالصورة التي نتصورها.. الأمم تفنى وتزول، وأنتم ترون بأعينكم أنكم تعاملون في العالم الآن معاملة شاذة جدا في تاريخ البشر، ولا يمكن أن يحدث في التاريخ القديم والمعاصر ما حدث لكم، لقد وصلت الأمور في بلادنا أننا طردنا من بيوتنا وشردنا من أوطاننا وانتهكت كل الحقوق في بلادنا دون أن يتحرك في العالم ضمير إنسان، ودون أن يتحرك حتى الضمير العربي. واللغة العربية من أشرف اللغات بين لغات العالم، فاللسان هو حياة الأمة لا حياة لأمة بغير لسان! واللسان كالنهر الجارف يجمع كل محصول الأمة وهو كالغيث منهمر آلاف القرون ليتكون منه هذا النهر العظيم..فإذا انقطع هذا النهر فقد وقعنا في أكبر خيبة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply