نظرة الإسلاميين إلى الأدب ( دعوة للمراجعة )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

اطّلعتُ على مقالة نشرتها مجلّة (العصر) في السّنة الماضية، ولم تكن قراءتي لها إلا مؤخّراً، في هذه المقالة ذات العنوان الصّارخ (طه حسين.... نجيب محفوظ....) إلى أسماء أخر، ذيّلت بعبارة(لماذا يعادون الإسلام؟).

وقد حسبت أنّ الأستاذ الكاتب، سيتناول شيئاً من أعمال أولئك، إذ يتعذّر تناولها جميعها في عجالة كهذه، من منظور قراءة أدبيّة علميّة، مع وجود التزام كاتب المقالة بما يعتقده حقاً.

لكنّني فوجئت بكلام هلامي، لن تنفع قراءته أحداً، سوى أولئك الذين يحملون (رؤية جاهزة)، وهؤلاء ليسوا بحاجة إلى مقالة أو غيرها، إذ أنّ الأحكام قد صدرت، وفرغوا من البحث في مثل هذه الأمور، وغالباً ما يتم ذلك دون الاطّلاع على أعمال هؤلاء الأدباء.

والشيء الوحيد الذي أعجبني حقّاً في المقالة، هو تلك اللفتة الجيّدة لنا معشر الإسلاميين،، بألا نكون مطيّة لأعمال غثّة، تتسلّق الشّهرة على ظهورنا.

ولست هنا في سبيل الرد على المقالة تلك، ولكنيّ أثير مسألة نظرة الإسلاميين إلى الأدب، لا من منظور الالتزام بالدّين، ولكن من منظور الكيفيّة التي تتم بها معالجة الأعمال الأدبيّة، وكذلك الطريقة التي يتم عبرها عرض وجهات النّظر في حق هذا العمل أو ذاك، أو هذا الأديب أو غيره.

كما قرأت مؤخّراً حواراً أجرته (السّاخر) مع الدكتور(محمّد عبّاس) صاحب الضجّة المشهورة، حول رواية (وليمة لأعشاب البحر)، ومع احترامي الشديد للأستاذ الدكتور، واحترامي لغيرته على ديننا ومقوّمات أمّتنا لكنّ الطريقة التي تناول بها المواضيع الأدبيّة، وأفكار الأدباء، بل وأشخاصهم، طريقة لا تمت إلى الأدب بصلة، بل ولا تمتّ إلى الأسلوب العلمي الذي ينبغي سلوكه في النّقاش مع الآخرين.

فما معنى ذكر أنّ فلاناً أو غيره من الأدباء، هو (تمرجي) أو عامل في السّجّاد، أوغير ذلك من المهن، ترى أيرى الدكتور في ذلك عيباً؟

أينظر الدكتور إلى المهن والحرف الشريفة (وكل المهن التي (رمى) بها الأدباء أولئك هي مهن شريفة!!) كعامل تحقير للإنسان، فضلاً عن الأديب؟

وما معنى ذكر أنّ أولئك الأدباء دون شهادات عالية؟

هل غاب عن الدكتور العدد الغفير من علمائنا (ولا أقول الأدباء) ممّن كانت لهم حرفهم، التي لم تنقص من أقدارهم، في تأريخنا الإسلامي؟

وهل غاب عن الدكتور أنّ هناك الكثير، اليوم وليس بالأمس، من كبار علمائنا، من ليس لديه شهادة تذكر من جامعاتنا الموقّرة؟ (1)

كم كنت أتمنّى من الدكتور الفاضل، أن يكون في حديثه شيء من الموازنة، والإنصاف في تناول الآخرين، مهما كانت أفكارهم وتوجّهاتهم، كما علّمنا ديننا الحنيف.

والأدباء الذين تناولهم الدكتور بالقدح المبالغ فيه، لم تستوِ أفكارهم في الخطورة، وكم كنّا نتمنّى أن يتم مناقشة أفكارهم، بطريقة علميّة واعية، بدلاً من تلك الطريقة الخطابيّة، التي لن تنفع من يريد بناء أفكاره على أساس علمي صحيح.

إنّ علينا أن ندرك أنّ القول بأنّ الإسلام رسالة عالميّة، ليس شيئاً من قبيل نافلة القول، أو الزخارف اللفظيّة، بل هو قول يجب حضوره بشكل جدّي، في ما نعمله ونكتبه أو ندافع عنه أو نهاجمه. ما أقصده أنّه كما لا يتصوّر في نقاش غير المسلمين، بسرد أدلّة الكتاب والسنّة التي لا يؤمنون بها، كذلك لا يتصوّر نقاش أي فئة عبر مفاهيم لا ينتمون إليها.

كما أنّ الكتابة يجب أن تكون للجميع، بغض النظر عن اتّجاهاتهم، واختلاف مدارسهم، لذلك فحصر الكتابة في نطاق ضيّق، لا يخدم القضيّة نفسها التي ندافع عنها.

إنّ هناك الكثير من عشّاق الأدب، مـمّن يحملون وعياً وغيرة وتمسّكاً بدينهم، لا يرضون لأنفسهم بالانتماء إلى أي تيّار، ينتظرون ممّن أوتي علماً في الصّناعة الأدبيّة، من الغيورين، أن يقوم بنقد الأدب من منطلق (نقدي) يقوم على أصول علميّة، تناقش العمل الأدبي نقاشاً قائماً على الحجّة (النقديّة)، لا الشعارات الخطابيّة من غير المتخصّصين، الذين قد لا يحسنون قراءة عمل أدبي بطريقة سليمة، مع احترامنا لغيرتهم التي تنبع منها مثل هذه الهلاميّات، التي إذا أفادت الإسلامي صاحب التصوّر (الجاهز) (2)، فلن تفيد غيره من المتعطّشين لمعرفة الحقيقة، بطريقة علميّة صحيحة.

إنّ العصر الغريب الذي نعيشه اليوم، أوجد في صفوف أهل الأدب الكثير ممّن نختلف معهم (ديانة)، لكنّ لديهم من المواقف المشرّفة والحريصة على حضارة أمّتنا، وحمايتها من حملات مسخ الهويّة، ما يجمعنا معهم في صعيد واحد.

إنّ هناك الكثير من المنتمين إلى الأدب، من يتبنّى رؤية مخالفة للرؤية الإسلاميّة، كالعلمانيّة وغيرها، ولكنّ لدى هؤلاء مواقف مشرّفة تجاه الكثير من قضايانا المهمّة:

كالتطبيع مع العدو الصهيوني، والموقف من الحضارة الإسلاميّة، والتراث واللغة العربيّة، والرفض لمسخ الهويّة بكافّة أنواعه، والحرّيّة الفرديّة، ورفض الحكم الطّاغوتي، وغيرها من الجوانب التي يحرص الإسلاميون على أن تكون لهم فيها مواقفهم النّابعة من دينهم.

يؤسفني القول أنّ الكثير من المتصدّرين من الإسلاميين، للتحذير من الأدب والأدباء، ليسوا على معرفة جيّدة بالصّناعة الأدبيّة، لذلك يأتي موقفهم غاية في السّذاجة التي تركب حماساً أجوف، يزيد الوضع حرجاً أكثر ممّا هو عليه.

ولعلّنا نرى اليوم، بوادر طيّبة، هنا وهناك، تمارس النقد الأدبي كما ينبغي أن يكون، دون الولوج إلى الأساليب الخطابيّة التي لا تمت إلى العلم بصلة.

والشيء الغريب عند أساتذتنا الكرام، من علماء ودعاة الإسلاميين، أنّهم ينتقدون غير المتخصّصين، في خوضهم في قضايا فقهيّة أو غيرها، وهم لا يملكون الأدوات التي تمكّنهم من تناول هذه المواضيع الشرعيّة. ولا شك أنّ لدى أساتذتنا كل الحق في ذلك.

لكنّنا نفاجأ على الجانب الآخر، بهؤلاء المشايخ، يريدون الحديث في السياسة والأدب والاجتماع والاقتصاد وغير ذلك، وهم لا يملكون أدوات الخوض في هذه الجوانب!!

وإذا حدثت محاولات نقديّة، فإنّها تأتي غاية في الشدّة، ممّا لا تترك مجالاً للتفكير الهادىء، الذي سيقود إلى نتائج تفيد القارىء والكاتب معاً.

فعلى سبيل المثال، كانت هناك جهود الأستاذة (سهيلة زين العابدين حمّاد)، ودراساتها عن الكثير من الأدباء، لكنّنا نجد لغة شديدة القسوة، ذات لهجة عنيفة، لا يمكن للقارىء حيالها، اتّخاذ الموقف الصّحيح القائم على رويّة في التفكير.

وكذلك كتاب الأستاذ (عوض القرني) عن الحداثة، ترى من سيستفيد من كتابه، سوى قارىء اتّخذ قراراته من قبل، وليس بالضرورة وجود كتاب أو عدمه، لاتّخاذ مثل هذه القرارات.

إنّه لمن المؤسف أنّ مدخل الإسلاميين على الأدب، هو كتب الدكتور العلاّمة (محمّد محمّد حسين) - رحمه الله - التي أخرجها قبل أكثر من ثلث قرن.

ولقد جدّ الكثير اليوم، في الأدب والدراسات الأدبيّة، وبدلاً من أن ينشط الغيورون، فيقومون بما قام به الأستاذ - رحمه الله -، يُكتفى اليوم بإحالة الشباب الإسلامي على هذه الكتب، التي كانت صورة لمرحلة سابقة، لم تعد نفسها اليوم، بمثل التفاصيل، ولا الهموم، بل جدّ في الأدب ماهو أخطر من ذي قبل، ووجد ما هو وثيق الصّلة بأمّتنا، وإن اختلفنا معه في بعض التوجّهات والأفكار. (3)

وإذا ما قارنّا ما قام به أمثال الأستاذ(إحسان عبّاس)، أو الأستاذ (محمد مصطفى هدارة) - رحمهما الله -، أو الأستاذ أبي عبدالرحمن الظاهري)، من دراسات أدبيّة، أدركنا الفائدة العائدة من أعمال هؤلاء النقّاد، على القارىء والأديب في آن واحد.

ولقد وجد في تأريخنا الأدبي، الكثير من الأدباء والكتب الأدبيّة، التي تعجب لسعة صدر الأوائل، في قبول هذه الكتب، بل والحث على قراءتها، كما نجده عند ابن خلدون في المقدّمة، عند حديثه عن أصول الأدب وأركانه، وأنّ ما سمعه من مشايخه أنّها تقوم على أربعة كتب، ذكرها في المقدّمة(4)، وإنّا لنتساءل:

ترى لو كانت طريقتنا في تناول الأدب هي السّائدة في الماضي، هل سيسلم من أدب العرب كتاب؟!

وألم يكن المهتمّون برواية الشعر الجاهلي، هم خيرة هذه الأمّة ديناً وورعاً وتقوى؟

أمثال (أبي عمروبن العلاء) - رحمه الله - (5)، أحد القرّاء السّبعة، وأئمّة اللغة في زمنه، والذي يذكر (الأصمعي) عن شدّة احتفاله بالشعر الجاهلي:

(جلست إلى أبي عمرو عشر حجج ما سمعته يحتج ببيت إسلامي!!)

وذكر أنّ أبا عمرو قال مرّة:

(لقد كثر هذا المحدث (يقصد الشعر في زمانه) وحسن حتّى لقد هممتُ أن آمر فتياننا بروايته) (6)

ووجد من بين نقّاد الأدب في الماضي، الكثير من العلماء، أمثال القاضي(علي بن عبدالعزيز الجرجاني) صاحب كتاب (الوساطة بين المتنبي وخصومه)، وهو فقيه وقاضٍ, شافعي، وموقفه من الفصل بين الدين والشعر، معروف في كتابه، وهو موقف موجود من قبل الجرجاني (ولكنّ الجرجاني قد وضعه بشكل واضح لا يتحمل لبساً) كما قال الأستاذ (إحسان عبّاس) - رحمه الله -(7).

والأمثلة إذا أردنا الإتيان بها كثيرة في هذا الجانب.

إنّنا على علم أنّ هناك الكثير من المتخصّصين في الأدب، من أصحاب التوجّهات الإسلاميّة، لكنّهم (كسالى)، لا يقومون بواجبهم تجاه آداب أمّتهم، ويتركون السّاحة فارغة، إمّا لكل هادم ليس لديه أدنى رابط بأمّتنا، أو كل متحمّس جاهل، لا تتعدّى معرفته بالأدب، معرفة أولئك اللادينيين بالدين!!

ويريد هؤلاء الإفتاء في الأعمال الأدبيّة، بطرق غاية في السذاجة، لم تجرّ علينا سوى المصائب والمتاعب، وخسارة قطاع كبير مؤثّر هو قطاع الأدباء، وما أكثر من نحمل معه الهم المشترك بينهم، ولكنّ غبار المعارك حجب كل رؤية سليمة.

أملنا أن يعيد الإسلاميّون النظر في رؤيتهم إلى (الأدب)، وأن يتولّى المتخصّصون نقد الإنتاج الأدبي، بطرق علميّة، تزرع لدينا معشر القرّاء معرفة واعية، وثقافة عالية، تقوم على أساس متين من العلم والحجّة والبرهان.

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــ

1-كان الأولى لمن هو مثل الدكتور في علمه وغيرته، أن يناقش ما يراه خطيراً من منطلق علمي، لا حماسي يعتمد على تهييج المشاعر الجاهزة لأي تهييج عندنا!!

وليرجع القارىء الكريم، إلى هذا اللقاء الذي نشرته (الساخر) في موقعها على الشبكة الدولية.

2-مع أنّه يلزمنا الانتباه إلى أنّ هذه الطريقة لن تفيد شيئاً، بل الأولى أن يتعوّد هذا الإسلامي على أخذ مواقفه، من منطلق العلم، لا التقليد المريح للتصوّرات الراكدة في العقول، والتي لا تقبل أن تتزحزح من أماكنها!!

3-هل نستطيع إنكار أهميّة ما قام به الدكتور(سهيل إدريس) وغيره من فضح عمالة بعض المجلات، مثل مجلّة(شعر) الذي تولّى إصدارها يوسف الخال وأدونيس؟!

4-انظر ص522 من طبعة دار الشّعب.

5-ذكر الجاحظ في البيان والتبيين (1/321)، أنّ كنية(أبي عمرو) هي اسمه.

6-انظر المصدر السّابق، نفس الصّفحة.

وقد رأيت الدكتور(عبدالله الغذامي) يستدل بالقول الأخير، على تعصّب أبي عمرو للقديم، في سياق ما يردّده الدكتور عن هذه المشكلة التي أرّقته!!

والذي أفهمه-والله أعلم- أنّ أباعمرو كان يفسّر القرآن ويستدل لمعانيه بالشعر الجاهلي، لذلك فإنّ موقفه من الشعر في زمنه سيتّضح إذا فهم في هذا السّياق.

وقد ذكر الغذامي قوله ذاك في كتابه (الموقف من الحداثة) وقدغاب عنّي رقم الصّفحة.

7-تأريخ النقد الأدبي عند العرب، للدكتور إحسان عبّاس، ص309. ط. دار الشروق. عمّان. وانظر عن الجرجاني ص304 وما بعد من نفس الكتاب.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply