الحنين القاتل


 

بسم الله الرحمن الرحيم

قال إسحاق: خرجت امرأة من قريش من بني زهرة (1) إلى المدينة تقضي حقاً لبعض القريشيين. وكانت ظريفة جميلة، فرآها من بني أمية رجل فأعجبته، وتأملها فأخذت بقلبه، وسأل عنها فقيل له: هذه حميدة بنت عمر بن عبد الله حمزة. ووصفت له بما زاد فيها كلفه (2)، فخطبها إلى أهلها فزوجوه إيّاها على كره منها، وأهديت إليه فرأت من كرمه وأدبه وحسن عشرته ما وجدت به، فلم تقم عنده إلا قليلاً حتى أخرج أهل المدينة بني أمية إلى الشام، فنزل بها أمر ما ابتليت بمثله، فاشتد بكاؤها على زوجها وبكاؤه عليها، وخيّرت بين أن تجمع معه مفارقة الأهل والولد والأقارب والوطن أو تتخف عنه مع ما تجد به، فلم تجد شيئاً أخف عندها من الخروج معه مختارة له على الدنيا وما فيها.

 

فلما صارت بالشام صارت تبكي ليلها ونهارها ولا تتهنّأ(3) طعاماً ولا شراباً شوقاً إلى أهلها ووطنها، فخرجت يوماً بدمشق مع نسوة تقضي حقاً لبعض القريشيين فمرت بفتى جالس على باب منزله، وهو يتمثل بهذه الأبيات: من الطويل\".

 

ألا ليت شعري، هل تغير بعدنا

   صحون المصلى، أم كعهدي القرائن؟

 

وهل أدورٌ حول البلاد عوامرٌ

   من الحيِّ، أم هل بالمدينة ساكـــن؟

 

إذا لمعت نحو الحجاز سحابةٌ،

   دعا الشوق منّي برقها المتيــامــن

 

وما أشخصتنا رغبةٌ عن بلادنا

   ولكنّه ما قدّر الله كـــائـــــنُ

 

 فلما سمعت المرأة ذكر بلدها وعرفت المواضع، تنفست نفساً صدع فؤادها فوقعت ميتة. فحملت إلى أهلها وجاء زوجها، وقد عرف الخبر، فانكب عليها فوقع عنها ميتاً. فغسلا جميعاً وكفنا ودفنا في قبر واحد.

 

______________________

(1) بنو زهرة: قبيلة قريشية.

(2) الكلف: العشق والهيام.

(3) تتهنّأ: تستسيغ وتستمرئ.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply