هويتنا الإسلامية تحمينا من الذوبان في الغرب والانهيار أمامه


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

\'الهوية\'..مصطلح يتردد كثيرًا في الخطاب الإسلامي المعاصر وخاصة بعد الهجمات الشرسة ضد الإسلام وثقافته ومفاهيمه من قبل الغرب والعلمانية.فما هو معنى هذه الكلمة؟ وما هي الأصول والثوابت التي ترتكز عليها هذه الهوية؟ ولماذا عمل الغرب جاهدًا على تدمير هذه الهوية وإعادة صياغتها؟ ولماذا تغيظ الهوية الإسلامية أعداء الأمة ليشنوا عليها هذه الحرب؟ وكيف يمكن أن تكون هويتنا العربية الإسلامية حائط الصد الذي يحمي المسلمين من الذوبان والاضمحلال؟.

إن الهوية هي المفهوم الذي يكونه الإنسان عن فكره وسلوكه من حيث مرجعها الاعتقادي والاجتماعي وبعبارة أخرى فإن الهوية هي مجموع الأمور الفكرية والثقافية والسلوكية التي تميز إنسانًا عن آخر، وهي أيضًا مجموع الأمور التي تتحكم في تشكيل الشخصية مثل العقيدة التي يؤمن بها الإنسان ويقابلها في النظريات الوضعية الفكر الفلسفي، ثم القيم الأساسية التي يؤمن بها المجتمع مثل تصوره للكون والحياة والوجود ونمط الأخلاق والسلوك السائد فيه.

 

انتماء والتزام وولاء

وعن أركان الهوية الإسلامية ومقوماتها يتحدث د. مصطفى حلمي أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة فيقول: إن هوية أية أمة ترتكز على عقيدتها ودينها ثم على تاريخها ثم على لغة هذه الأمة، وبهذا كانت الهوية الإسلامية مكتفية بنفسها وليست في حاجة إلى عناصر أخرى من الخارج ولذلك صاغت أمة متميزة وأقامت حضارة متميزة.

فالهوية الإسلامية تنظر إلى الإنسان باعتباره عنصر البناء الأخطر والأهم في أية حضارة، فالإنسان في الفلسفة اليونانية وفي الفكر الغربي الحديث سواء عند أرسطو أو داروين هو حيوان ناطق أو حيوان ذكي، أما هذا الإنسان عند ابن تيمية مثلاً فهو كائن حي حساس متحرك بالإرادة.

وهكذا فإن السمات العامة لهذه الهوية هي أنها انتماء للعقيدة والدين يترجم إلى التزام وولاء، وهذه الهوية الإسلامية تعد انتماء إلى الله وإلى رسوله الكريم وإلى عباد الله الصالحين وأوليائه المتقين، والانضواء تحت هذه الهوية ليس اختياريًا حسب رغبة كل إنسان ولكنه فرض متحتم على كل بني آدم حتى قيام الساعة، لأن الإسلام هو دين الأرض كلها وهو آخر الأديان ولذلك فالأمة الإسلامية مطالبة بدعوة جميع البشر إلى الهوية الإسلامية.

ولأن الهوية الإسلامية هامة إلى هذه الدرجة، فهي تحدد لصاحبها هدفه ووظيفته في الحياة وغايته، وقد وعد الله المتمسك بهذه الهوية بأنها ستكون مصدراً لعزته وكرامته ونصرته، وهذه الهوية تختلف تمامًا عن هوية أعداء الأمة حيث كان يدعو رسول الله إلى مخالفة اليهود والنصارى في كل شئونهم.

والهوية الإسلامية تهتم بالأمة وتطلق هذا اللفظ على كل المنضوين تحتها مهما خالفوها في العقيدة وليست عنصرية ضدهم بل تجتمع معهم على أصول وثوابت عليهم أن يحترموها ولا يخونوها ثم تقوم هي بحمايتهم ومعاملتهم كباقي أفراد الأمة المسلمين.

 

هل الهوية الإسلامية في أزمة؟

يرى الكاتب الإسلامي جمال سلطان أن أزمة الهوية هي مشكلة عالمية، ففرنسا مثلاً ترى أن الأمركة خطر يهددها، وكذلك كندا ترى نفس الشيء رغم أن هذه الأطراف تنتمي إلى منظومة واحدة من الدين والثقافة والحضارة والقيم والسلوك. وكذلك فإن الصين واليابان وكثيراً من الدول الآسيوية والأفريقية تخاف من ذوبان هويتها الوطنية الخاصة في الهوية الأميركية خاصة والغربية عامة، وتريد هذه الدول الاحتفاظ بهويتها الخاصة وحماية ثقافتها وقيمها وعاداتها.

وإذا كانت أزمة الهوية أزمة عالمية فربما كان ذلك حديثًا، أما بالنسبة للهوية الإسلامية فهي مقصودة منذ فترة طويلة والحرب عليها شديدة ولا تهدأ.

وقد بلغت الأمة الإسلامية أوج قوتها وفتوتها في العصر العباسي ولكن للأسف كان هو العصر الذي شهد بدايات الانحراف عن الهوية الإسلامية بعدما تم ترجمة الفلسفة اليونانية في عهد الخليفة المأمون وما ترتب على ذلك من ظهور كثير من الفرق مثل المعتزلة والجهمية والقدرية والفرق الباطنية والزنادقة والفلاسفة. وكل ذلك نتج عنه فساد في الاعتقاد وظهر علم المنطق وعلم الكلام في ثوب غير إسلامي وأصبحا للأسف الشديد هما القالب الذي تقدم فيه العقائد الإسلامية حتى اليوم.

لكن بداية الهجوم الحقيقي على الهوية الإسلامية من الغرب كان على يد الحملة الفرنسية على مصر والتي ركزت على عكس الحملات الصليبية العسكرية السابقة على الثقافة والفكر بعدما تيقن الغرب أنهم لن ينتصروا على المسلمين عسكريًا، فبدأ التفكير في اختراق الهوية وإفساد العقائد والأخلاق والدين واللغة والتاريخ وتحطيم المرأة والأسرة المسلمة. ولذلك حمل نابليون معه مطبعة وجاء معه بالراقصات والرسامين والفنانين لإعادة تشكيل الشخصية المسلمة. وإذا كانت الأمة قد استطاعت ببعض المقاومة أن تجبر نابليون على الرحيل ولكن ما زرعه استمر وجاء محمد علي وسار على النهج العلماني وارتبط بالغرب ثم جاء أولاده وأعطوا للهوية الإسلامية ظهورهم وفتحوا لهوية الغرب وثقافته ونظمه وقيمه قلوبهم وعقولهم.

ثم جاء الاحتلال العسكري الإنجليزي الطويل فأكمل الطريق وبدأ التغريب الحقيقي من خلال هدم برامج التعليم وإقامة برامج أخرى تضرب الهوية الإسلامية في مقتل، ثم فتح الباب للمستشرقين ليلعبوا كيفما شاءوا بالمفاهيم الإسلامية، وإرسال نفر من أبناء المسلمين إلى الغرب ليتغربوا ثم يأتوا إلى بلادهم ليجهزوا على البقية الباقية من هويتهم بحجة التنوير والتحرر والثقافة.

وما حدث في مصر على يد الإنجليز كان يحدث مثله في الجزائر على يد الفرنسيين، وواكب ذلك سقوط الخلافة الإسلامية أو إسقاطها وضرب فكرة الجهاد ضد أعداء الأمة التي كانت الخلافة تدعو إليها. ثم استمرت الحرب ضد الهوية حتى الآن وآتت ثمارها في الشباب الذي يتهافت على تقليد الغرب في سلوكه وملبسه ومأكله ونظم حياته، وفي المثقفين الذين يسبون ثقافتنا العربية الإسلامية ويمدحون ثقافة الغرب وقيمه، وفي الفنانين والأكاديميين الذين لا هَمَّ لهم إلا الهجوم على الرجعية ويقصدون بها طبعًا الهوية العربية الإسلامية.

 

المسلمون لا يدركون أن هويتهم مستهدفة

أما د. محمود مزروعة عميد كلية أصول الدين السابق فينبه إلى مشكلة هامة وهي أنه رغم هذه الحرب الشرسة لاستئصال المسلمين وهويتهم والتي تمثلت في الحملات الصليبية والغزوة التترية ثم في الحملة الفرنسية والاستعمار الغربي واليهودي والهيمنة الإعلامية والاقتصادية والسياسية ومحاربة الإسلام وقضايا المسلمين في كل مكان والتعاون ضدها فإن الرد جاء على لسان أبا إيبان وزير خارجية إسرائيل عام 1967 في محاضرة له بجامعة بريستون الأمريكية بقوله: \' يحاول بعض الزعماء العرب أن يتعرف على نسبه الإسلامي بعد الهزيمة.. وفي ذلك الخطر الحقيقي على إسرائيل..

لقد ثبت للغرب أن هزيمة المسلمين مستحيلة إذا تمسكوا بهويتهم المتفردة، لذلك فإننا نعتقد أن مما يهدف إليه النظام العالمي الجديد هو ضرب هويتنا الإسلامية وإذابتنا في ثقافة عالمية غير محددة المعالم والاتجاهات كي يسهل احتواؤنا والتعامل معنا.

 

 وهذا أيوجين روستو رئيس قسم التخطيط بوزارة الخارجية الأمريكية يقول عام 1967 \'إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي بفلسفته وعقيدته المتمثلة في الدين المسيحي.. ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها\'.

وبهذا يتضح أن القوم يدركون خطورة ما في أيدينا من هوية ويحاولون تحطيمها.. ولكن رغم ذلك كله فما زال غالبية المسلمين العظمى لا تدرك هذا الأمر وخطورته ولا يدركون أنهم مقصودون وهويتهم مقصود استئصالها ودينهم مقصود الالتفاف عليه.

ولذلك فالغرب يساند الحركات والأفكار الهدامة التي تطعن في الإسلام مثل الماسونية والبهائية والقاديانية وغيرها. والغرب عن طريق مستشرقيه يثير الشبهات في الإسلام والعقيدة والسُنَّة، ويهز الثقة في السلف الصالح، ويعمل على عرض النظريات التي تناقض التوحيد مثل نظرية داروين ويعلي من شأن الأمم والحضارات الإقليمية قبل الإسلام مثل الفرعونية والفينيقية والآشورية والطورانية.. الخ، هذا فضلاً عن الحرب الإعلامية الشرسة عبر المسلسل والخبر والتحليل والفيلم.

 

الذين دعوا إلى هوية غير إسلامية فشلوا

بينما يعتبر د. محمد يحيي أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة طرح قضية الهوية في هذا الوقت بالذات مرتبطاً بمسارات ثقافية وسياسية معينة، فنحن هويتنا مستقرة على أنها عربية إسلامية منذ قرون طويلة، ولكن في العشرين سنة الماضية أعيد طرح قضية الهوية من جانب فصيل معين من فصائل الحركة الثقافية في مصر والعالم العربي وهو الفصيل الذي يميل إلى العلمانية والتغريب في فكره، وهو يرفض الهوية العربية الإسلامية ولكنه يحاول أن يلتف حول هذا الرفض بأن يطرح قضية الهوية على إطلاقها ليمهد السبيل إلى هوية أخرى، قد تكون أفريقية أو شرق أوسطية أو أوروبية بها عناصر عربية مهجنة أو فرعونية أو آشورية أو فينيفية.. الخ.

والسؤال عن الهوية لا يدل على تخلف ثقافي بقدر ما يدل على تحرك ثقافي من جانب فئة معينة تريد أن ترفض الهوية القائمة وتوجد هوية بديلة عنها، لكنها لا تستطيع أن تفعل ذلك مباشرة خوفًا من رد شعبي.

إن هويتنا عربية إسلامية وهي مستقرة وثابتة باللغة والتاريخ والدين والعادات والتقاليد والإنتاج الفكري والأدبي.. الخ. وطه حسين رغم طرحه للهوية الغربية والدعوة بحرارة إلى ثقافة الغرب إلا أن كل كتاباته كانت عن اللغة العربية، وله كتابات إسلامية كثيرة وشهرته جاءت بانشغاله بأمور عربية إسلامية رغم ما فيها من طمس وتشويه. أي أنه حتى الذين نادوا بهويات مضادة لهويتنا العربية الإسلامية لم يستطيعوا أن يعملوا وينتجوا خارجها وإنما كانت حركتهم داخلها، وإذا كان السؤال عن الهوية مطروحًا طوال القرن الماضي فهذا لا ينكر ثبات هويتنا بل يؤكد أنها أكثر رسوخًا، ويؤكد عدم نجاح الذين قادوا الدعوة إلى هويات أخرى.

 

تحديات في طريق الهوية والثقافة

ومن جانبه يرى د. إسماعيل مختار أستاذ التربية أن مصادر التحديات التي تواجه الهوية، تتعدد بقدر ما تضعف المناعة لدى الفرد والمجتمع، ولكن المصدر الأساس الذي يأتي منه التحدي الأكبر لهوية الأمم والشعوب كافة، يكمن في السياسة الاستعمارية الجديدة التي تسود العالم اليوم، والتي ترمى إلى تنميط البشر والقيم والمفاهيم وفق معاييرها الجديدة، والسعي إلى صياغة هوية شمولية تفرضها في الواقع الإنساني، في إطار مزيف من التوافق القسري والإجماع المفروض بالقوة.

والخطورة في هذا الأمر، أن قوة الإبهار التي تُطرح بها هذه الهوية الشمولية ذات المنزع الغربي، والأمريكي تحديداً، تعمي الأبصار عن رؤية الحقائق على الأرض كما هي، مما يؤدى إلى توهم أن هذه الهوية المغشوشة، هي الهوية العصرية، الهوية الكونية، هوية التحديث والمدنية، الهوية التي ينبغي أن تسود وتقود، ولا هوية الجمود والهمود.

أما كونها هوية عصرية، فهذا صحيح من بعض الوجوه، لأنها مفروضة على هذا العصر بقوة الهيمنة والسيطرة والغلبة، وأما كونها هوية كونية، فهذا أبعد ما يكون عن حقائق الأشياء لأن في العالم هويات متعددة، بقدر ما فيه من ثقافات وحضارات، أما أنها هوية التحديث والمدنية، فينبغي أن نفهم جيداً أن للحداثة دلالات ومفاهيم ومستويات، فمنها حداثة مادية، وضعية، مقطوعة الصلة بالدين، ومنها حداثة أخلاقية، إنسانية بانية للإنسان بعناصره المتكاملة وللحضارة في أبعادها المادية والروحية.

كذلك شأن المدينة فهي على درجات متفاوتة، فليست كل مدنية تُحمد، وهي على كل حال، حمالة أوجه، ففي الحرب العالمية الأولى والثانية، سقط ضحية المدنية في أوربا واليابان عشرات الملايين من البشر، وفى هذه المرحلة من التاريخ، تندلع الحروب، وتحتل الدول وتقهر الشعوب، وترتكب الجرائم ضد الإنسانية باسم المدينة أيضا.

لذلك كما يؤكد د. إسماعيل مختار- فإن إضفاء صفة المدنية على هذه الهوية الغازية المركبة من عناصر متناقصة والمنطوية على روح العدوان على السيادة الثقافية للأمم واستغفالها والاستهتار بها، تضليل للرأي العام العالمي، وتزوير لإرادة الشعوب، وتزييف للحقائق، واستهتار بالقيم الإنسانية، وانتهاك للقوانين الدولية، ودفع بالعالم نحو مزيد من الكوارث والحروب والصراعت0

إن إلزام العالم بأسره، بانتهاج نظام سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي واحد، هو عمل ضد سنن الله في خلقه، بقدر ما هو خروج على منطق التاريخ وقانون الطبيعة، ولئن كان مصير هذه السياسة الاستعمارية الجديدة سائراً إلى إفلاس لا محالة، فإن هذا لا يمنع من استمرارها إلى أمد قد يطول في طمس الخصوصيات الثقافية والحضارية للهويات الوطنية للأمم والشعوب في المدى القريب والبعيد. ولذلك نقول إن الخطر الذي يتهدد الهوية الحضارية والخصوصيات الثقافية، خطر حقيقي واقع فعلاً، ويزحف نحو المزيد من الغزو والاكتساح والعدوان، وهو حقيقة واقعية قائمة في حياتنا، نعيشها ونشاهد آثارها المدمرة للعقل والوجدان، والمهددة لسلامة الكيان الإسلامي بصورة عامة، باعتبار أن الحرب الهوية، يقصد بها تمهيد الطريق نحو فرض الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية والثقافية.

لقد استبدل الغرب، خاصة القوى الاستعمارية الجديدة، بالركائز الثقافية والدينية القديمة مقولات جديدة تضع الأخلاق في خدمة الهيمنة والعنف، والدين في خدمة نظام رأسمالي منتصر، والثقافة وقيمتها في خدمة فلسفة القوة، وقد باتت نظرة الغرب إلى ذاته تتسم بنرجسية مرضية يلازمها خوف دائم من فقدان السيطرة والدخول في مرحلة الأفول والانحطاط.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply