الأمن الإعلامي


 
 
 

بسم الله الرحمن الرحيم

المتغيرات المتسارعة والمؤثرة على الأوضاع الأمنية في مجتمعنا تشير إلى أهمية تكامل العلاقة بين مؤسسات المجتمع الحكومية والخاصة كافةº فالأمن مطلب الجميع، وكلٌ لا يتجزّأ، ومجرّد التغافل عن أي إخلال بالضرورات الخمس للإنسان (الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال) فإننا نفتح المجال أمام جرائم فكرية قابلة للتحوّل إلى جرائم إرادية تنهك المجتمع، خاصة \"المؤسسة الأمنية\" المعنية باجتثاثها في تلك الحالة.

ومهما تسارعت المتغيرات تبقى قيم المجتمع الثابتةº عامل الحسم في تحديد أسلوب التعامل مع المستجدات، وهذا التوجّه فطنت إليه كثير من المجتمعات المتقدمة إدارياً، حيث ظهرت فيها- توجّهات تنظيرية وتيارات فكرية إدارية تدعو إلى إبراز قيم مؤسسات المجتمع أياً كان مجالها وربطها بالقيم المتفق عليها في المجتمع الذي تعمل فيه.

إن المؤسسة الأمنية في مجتمعنا تكاد تكون المؤسسة الأبرز في تجسيد قيم المجتمع المستمدة من قيم الإسلام فهي المعنية بتطبيق أحكام الشريعة في الواقع، ورجال الأمن بمختلف رتبهم، ومستوياتهم الوظيفية، يُفترض أن يكونوا وهم كذلك إن شاء الله- من أكثر فئات المجتمع تجسيداً لهذه القيم، ومن أجل ذلك لا بد أن يمتلك رجل الأمن قائمة مكتوبة بالقيم التي يمثلها واقعياً -كما هو التوجه الإداري الحديث- ليراجعها بين الفينة والأخرى، ويعرض نفسه عليها، وتعرضه إدارته عليها، لبلوغ قمة تمثيل هذه القيم وتجسيدها في الواقع، وهذا كله خطوة أولى نحو تعميم هذه القيم في المجتمع لعلاقتها الوثيقة بحياة المجتمع، وأمنه، وتطلّعاته نحو المستقبل.

إن قيم المؤسسة الأمنية في مجتمعنا ليست قيماً جديدة على المجتمع، ولا على رجال الأمن، إنها قيم متوافقة مع أهداف المسلم وغاياته، وهي القيم ذاتها التي تتمحور حولها مناهج التربية والتعليم وأنشطة المؤسسات الشرعية، وهي القيم التي تلازم الفرد المسلم في مختلف وضعيات حياته، وتبقى الحالة الأمنية في المجتمع مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بدرجة احترام أفراده لهذه القيم وتجسيدها والإيمان بربانيتها (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَم يَلبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلمٍ, أُولَـئِكَ لَهُمُ الأَمنُ وَهُم مٌّهتَدُونَ) [الأنعام: 82].

وعلى الرغم من الاتفاق والإجماع الكبير في مجتمعنا على هيمنة قيم الإسلام على نشاطه العقلي (الجمعي)، ومن ثم سلوك وحركة أفراده وجماعاته ومؤسساته، إلاّ أن التطورات الاتصالية -الإعلامية تحديداً- استطاعت أن تخترق هذا التكامل وتقتحم أول وأقوى- مؤسسات المجتمع الأسرة- وبالتالي بدأت التنشئة الاجتماعية للأجيال الناشئة -في مجتمعنا- تتم في ظل مجموعة من القيم المتناقضة، وتنتسب إلى عدد من الأنظمة الأخلاقية المتصارعة وفق سنة الله الثابتة، حتى وصل الأمر إلى حد المصادمة قيمياً بين قيم مؤسسات المجتمع (الشرعية والأمنية والتربوية) وقيم غالب وسائل الإعلام والاتصال المتاحة أمام أفراد المجتمع.

في ظل هذا الوضع المتأزم وفي ظل الصراع القيمي العالمي، لا بد لمجتمعنا من إعادة رسم استراتيجية مؤسساته، وإعلان القيم التي تتبناها كل مؤسسة وعلاقتها بقيم المجتمع، وعلاقتها بقيم المؤسسة الأمنية، التي تتولى في النهاية تصحيح أخطاء الآخرين.

إن لدى \"رجال الأمن\" الكثير من الحقائق والأرقام والحالات الواقعية التي تدين الأسر التي فتحت أبوابها أمام \"الإعلام الهادم\" للقيم والأخلاق، ولدى \"رجال الأمن\" الكثير من ميادين وساعات العمل التي تُبذل تحت ضغوطات \"البث الفضائي\" اللامسؤولº كانت ستُصرف في البناء والوقاية لولا أن الإعلام قدم مصالحه المادية وطموحات (نجومه!!) الشخصية على مصالح المجتمع ورغبته في الحياة الآمنة.

إن الإعلام الذي يُستقبل في كثير من الأسر -بحالته الراهنة- مقوّض لقيم المجتمع وأهداف مؤسساته، ومفرخ للجريمة والعنف، ولئن كانت المؤسسة الأمنية أكثر مؤسسات المجتمع معاناة من الانحرافات الفكرية والأخلاقية الناشئة في بعض فئات المجتمع فإن ذلك لا يعني الاستسلام لهذه الوضعية، ولا يعني اقتصار دور المؤسسة الأمنية على الأدوار العلاجية، بل إن واجبها يعني التدخل وبقوة لتحقيق \"الأمن الإعلامي\" من خلال الخطط والبرامج الوقائية، القادرة بإذن الله- على استئصال \"الفصام النكد\" الذي تعانيه غالب المؤسسات الإعلامية التي تستهدف مجتمعنا.

إن المجتمع المتطلع إلى حياة آمنة مستقرة لا يقبل أن تتصادم مؤسساته قيمياً، ولا يتوانى في إصلاح الأخطاء ومراجعة الدوافع والقيم التي تحرك مؤسساته، والنموذج الماليزي يحكي واقع هذا الطموح، فالنظام الإعلامي والاتصالي الماليزي لا يسمح بالبث الفضائي المفتوح، ويشترط لاستقبال القنوات التلفزيونية داخل الأسر عبر \"الكايبل\" أن تخضع المواد الإعلامية للمواصفات القيمية والأخلاقية التي حددها النظام، وأنا أسوق هذا النموذج رداً على من يشكك في قدرة المجتمعات المسلمة والمحافظة على حماية أبنائها من المواد المتعارضة مع قيمهم وتوجّهاتهم.

لقد بات من السذاجة أن تسلم المجتمعات القوية قيمياً لآراء بعض الإعلاميين أو المتثيقفين - المنهزمين أمام التقنية الاتصالية الحديثة- الذين يرون أنه لا مكان للرقابة في زماننا، فالرقابة تحوّلت إلى واجب ديني يجب أن يمارسه المجتمع المسلم تعبداً لله.

إن مصالح الإعلاميين لا تنفك أبداً عن علاقاتهم مع السياسيين والقياديين في المجتمع، وكذلك علاقاتهم مع المعلنين ورجال الأعمال، وبالتالي فإن المجتمع يمتلك من أدوات الضغط على وسائل الإعلام داخلياً وخارجياً مما يؤهل بإذن الله- إلى تحقيق الأمن الإعلامي، والمعيار دائماً أن تتوافق قيم المؤسسة الإعلامية مع قيم المؤسسة الأمنية، وقيم الإعلامي مع قيم رجل الأمن، أما أن تدعو المؤسسة الإعلامية إلى ما تجرّمه المؤسسة الأمنية، ويسوّق الإعلامي لما ينهك رجل الأمن ويقلقه فإن المجتمع هو الخاسر، والخسارة ليست يسيره عندما يُفقد الأمن في أي من مكونات الأمن الشامل: (الدين أو الأرواح أو العقول أو الأعراض أو الأموال) دون تجزئة.

إن قائمة القيم التي يفترض أن يحملها رجل الأمن سواء كان بزيه العسكري أو زيه المدني، يُفترض أن تكون هي ذاتها- قائمة القيم التي يحملها كل إعلامي وتربوي في المجتمع، وعندها فقط- تتكامل الجهود في كافة مؤسسات المجتمع لبناء حياة آمنة راقية كما وصفها الحكيم الخبير (أُولَـئِكَ لَهُمُ الأَمنُ وَهُم مٌّهتَدُونَ).[الأنعام:من الآية 82].

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply