آراء وتحليلات


 

بسم الله الرحمن الرحيم

لغز (الجزيرة).. مع من؟ وضد من؟

 منذ زمنٍ, بعيد والمواطن العربي يعي بأن إعلامه الرسمي ليس إلا قوالب جامدة تتكرر كل وقتٍ, في رتابة مميتة، وجمود عقيم، يفضي بمتابعيه إلى بلادة متناهية، وشللٍ, فكريº ولذا فإن البحث عن المصدر الموثوق للخبر كان الشغل الشاغل للباحثين عن الحقيقة، أيًّا كان مصدرها، أو قائلها.. وإلى عهدٍ, قريب كانت إذاعة (صوت أمريكا)، وإذاعة (البي بي سي) أهم مصادر تلقي للخبر على جميع المستويات، وبمختلف الشرائح والفئات.

ولم يكن انطلاق قناة (الجزيرة) في العام 1996م يمثل بالنسبة للكثيرين في بداية الأمر وحتى وقتٍ, ليس ببعيد سوى أنها بوق إعلامي لبعض التوجهات الفكرية التي تخدم المصالح الأمريكية، أو أنها سرطان صهيونيّ خفيّ زرعته إسرائيل في وسط الوطن العربيº لكي يؤدي دوره في اللعب بثقافة المشاهد العربي، والمساعدة في خلخلة البنية القومية لديه، وهدم الثقة في نفسه، والقيام بدور صهر المعتقدات الإسلامية وإذابتها في قالب عالميّ حتى يستطيع التكيف مع محيطه دون مبادئ أو عقائد.

كسرت قناة (الجزيرة) القاعدة العربية المتبعة في تناولها لعدد من القضايا السياسية الهامة والحسّاسة، التي كان الإعلام الرسمي بمنأىً عنها، ولهذا فإن أول من هاجمها هو الإعلام الرسميº بل كان له دور في تعميق ونشر الإشاعات حول مصداقية هذه القناة وما تقوم به من زعزعة الثقة بين الشعوب والحكّام، ولأن نظرية المؤامرة محيطة بكل جهدٍ, قد يكون خارج المألوف في عالمنا العربيº فإن هذا الأمر كان حاجزاً صلباً يقف حائلاً دون التعامل معها بأي نوعٍ, من الثقة أو الاطمئنان، وسرعان ما تشكَّل لدى الكثيرين بأن قناة (الجزيرة) ما هي إلا لعبة إعلامية تبنتها قطر، وبدعم أمريكي، لنشر الثقافة الصهيونية في العالم العربي.

ولأن الصحافة في عالمنا العربي بعيدة كل البعد عن معناها المهنيّ الذي يسعى إلى الخبر أينما كان وكيفما كان فقد كان هذا سبباً كافياً في عدم التفريق بين الإعلام كعمل مهني بحت، وبين الدعوات الأيديولوجية المختلفة، ولهذا فإن قضايا عدة ساعدت على بلورة قناة (الجزيرة)، ودفعها إلى أن تحتل مكان الريادة في عالم الإعلام العربي، يمكن إجمالها في النقاط التالية:

- تجاوزت قناة (الجزيرة) الحالة النمطية والتقليدية للإعلام العربي، في وقتٍ, بات المشاهد ينظر إليه بشيء من الريبة خاصة فيما يتناوله من أخبار مُعلَّبة، وبرامج ذات طابعٍ, راكد.

- اعتمدت قناة (الجزيرة) طابع البرامج الحوارية والتي تجمع أصحاب الفكر المضاد، والرأي المعاكس، واستطاعت بذكاءٍ, إعلامي يؤكد مهنية القناة أن تستقطب العديد من الأسماء السياسية والفكرية العالمية من شتى الاتجاهات والتوجهات، والتي تحظى بتأييد شعبي عربي واسع من جميع الشرائح المثقفة والغير مثقفةº مما لامس شيئاً من حالة التعطش الفكريّ، الذي كان يبحث عنه المشاهد العربي.

- ساهمت (الجزيرة) في تشكيل رؤية إعلامية جديدة كسرت من خلالها القيود الرسمية التي كانت تحيط برسالته.

كما أن هناك عوامل مباشرة أخرى ساعدت إلى حدٍّ, كبير في تكوين القناة، وهي في المقابل نفس العوامل التي أذكت نار السخط على القناة ومنها:

- التمويل الضخم والغير طبيعي للجزيرة، وهذا العامل تحديداً هو ما أحاطها بهالة من التوجس والحذر من طبيعة الجهة الممولة والداعمة..

- الحرفية الإعلامية العالية لدى كادر القناة، والذين في أغلبهم كانوا ضمن العاملين في هيئة الإذاعة البريطانية الـ(بي بي سي).

- هامش الحرية غير المسبوق والتي تتمتع به (الجزيرة).

لذا فإن قناة (الجزيرة) ربما أنها المشروع الذي يحمل في جوانبه غموضاً كبيراً يكتنفه حتى الآن، إذ إنها جمعت التناقضات من الاتهامات التي توجه إليهاº فالقوميون يتهمونها بالعمالة الأمريكية حيناً والإسرائيلية حيناً آخر، وأمريكا تتهمها بأنها تثير مشاعر العداء والبغض، وإسرائيل تتهمها بتأجيج حماس الانتحاريين. كما واجهت أثناء مسيرة عملها عددًا من الإشكالات والتصادمات مع الحكومات العربية، ولكنها بلغت أوجها، في مواقفها التي برزت في مواقع كانت أكثر حساسية بالنسبة لتلك الحكومات عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث تعد (الجزيرة) المنبر الإعلامي الوحيد الذي صاحب خطوات الحملة الأمريكية منذ هجمتها على أفغانستان وحتى احتلالها العراق، وكان لنتيجة نقلها لوقائع تلك الهجمات التي تشنها أمريكا على المسلمين في كل مكان أثرٌ بالغٌ في تأجيج مشاعر التعاطف لدى الشعوب العربية والإسلامية مع بعضها البعضº ولهذا فإن نتائج ووقائع هذا النقل المرئي والحي لحالات القتل، والهدم، والتشريد التي تقع على المسلمينº جعلت من المحطة عدوًّا لدودًا لهذه الحكومات العربيةº بل وحتى الأمريكية والإسرائيلية على خلاف ما أثير عنها.

ففي ديسمبر من العام 2001 تم اعتقال مراسلي (الجزيرة) في الأردن أثناء قيامهم بتغطية مسيرة مؤيدة لـ(أسامة بن لا دن).. متزامناً مع توقيف مراسلة أخرى في العاصمة الأردنية أيضاً.

وفي مارس العام 2002 احتجزت السلطات المصرية الطاقم التلفزيوني للقناة أثناء أدائه لعمله الصحفي في تغطية مظاهرات طلابية نُظِّمت دعمًا للانتفاضة الفلسطينية في جامعة الإسكندرية.

وفي مايو من نفس العام شن وزير الإعلام البحريني (نبيل الحمر) هجومًا شديدًا عليها بسبب ما وصفه \"بالإساءة للبحرين وشعب البحرين\"، وقال: إن بلاده لن تتعامل معها لا في الحاضر ولا في المستقبل. وأبلغ (الحمر) حينها صحافيين عربًا وأجانب أن (الجزيرة) طلبت المشاركة في تغطية الانتخابات البلدية التي أجريت في البحرين - في ذلك الحين - لكن المنامة لم تستجب لطلبها. وأضاف \"نحن نعتقد دائمًا بأن (الجزيرة) تتعمد دائما الإساءة إلى البحرين وإلى شعب البحرين\".

وفي أكتوبر من نفس العام أيضاً أوصى وزراء الإعلام في مجلس التعاون الخليجي في اجتماعهم في مسقط بضرورة مقاطعة (الجزيرة) الفضائية لما تبثه من أخبار وبرامج تسيء إلى منطقة الخليج على حد قولهم.

وفي نوفمبر أعلن مدير مكتب (الجزيرة) الفضائية القطرية في الكويت أن وزارة الإعلام الكويتية أبلغته شفهيًّا بإغلاق المكتب.

وعلى المستوى الإسرائيلي وفي يونيو من نفس العام انتقد وزير الخارجية الإسرائيلي (شيمون بيريز) بشدة محطة (الجزيرة)، متهماً إياها بزرع الحقد، وقال في المقابلة: \"أنها تحرض على الحقد، وإن لها نفوذاً أقوى من نفوذ الشيوخ والأئمة\"، وقد استدل على قوله هذا في نفس اللقاء الذي بثته الإذاعة الإسرائيلية بأن قناة (الجزيرة) تبث باستمرار - خمس أو ست مرات في اليوم نفسه - الصورة ذاتها لمنزل فلسطيني مدمّر من قِبل القوات الإسرائيلية، وبالتالي فإن ما يحصل من هجمات انتحارية يُقتل فيها رضيع يهوديّ على حد قوله º فإن هذا ناجم عن الدعاية وليس فقط عن تربيته.

كما واجهت (الجزيرة) بعد احتلال العراق انتقادات لاذعة على لسان رامسيلفد يتهما بأن لها دوراً في تأجيج وتعميق الكُره ضد قوات بلاده.

كل هذه الجهات المختلفة والمتناقضة تماماً التي تكيل الاتهام إلى هذه القناة، ليس له تفسير إلا أنه ينبئ عن ضعفٍ, في شخصيتنا العربية، مع توجسٍ,، وترقٌّبٍ, حذر لكل ما يحيط بنا، مهما كانت درجة استقاء الفائدة منه..

ومن جانب الطاقم والكادر الإعلامي لقناة (الجزيرة) فإنه قد تعرض لعدد من الضربات الموجعة التي تُحتِّمها المهنة، ففي مايو من العام الجاري 2004 قُتِل في كربلاء بالعراق (رشيد حميد والي) أحد مراسلي القناة أثناء تغطيته لقتالٍ, دائر بين القوات الأمريكية ومقاتلين عراقيين، حينما أطلقت عليه دبابة عراقية قذيفة أَودَت بحياته على الفور، كما قُتل قبله في العام الماضي 2003 بعد دخول قوات الاحتلال ثلاثة من طاقم العمل الصحافي في الجزيرة.

وأيضاً لم يسلم بعضهم من توجيه الاتهامات إليه بالعمالة الصهيونية المطلقة، ومن ذلك ما حدث عند اعتقال (ابن الشيبة) في باكستان أحد قياديي تنظيم القاعدة والمطلوبين لدى الإدارة الأمريكية بعد إذاعة (يسري فوده) برنامجه (سري للغاية) والذي اعتبره البعض دليلاً موجهاً بشكل مباشر أو غير مباشر للكشف عن هوية الشخص المطلوب، وربما أن في وضعٍ, كهذا لا يمكن أن يُلقى اللوم بأكمله على قناة (الجزيرة) إن لم يتم النظر إليها بمهنية مجردة كأي وسيلة إعلامية تبحث عن الخبر أينما كان، إذ يتحمل عبء المسؤولية أيضاً الطرف الآخر في عدم التحرز من إجراء مثل هذه المقابلات.

كما اعتُقل مراسلها (تيسير علّوني) في إسبانيا بعد توجيه تهمة تواطؤه مع القاعدة، وذلك عقب إجراء لقاءٍ, تلفزيونيٍّ, مع (أسامة بن لادن).

لقد تفردت قناة (الجزيرة) بعدة مزايا على الصعيد المهني، وعلى الصعيد الموضوعي، بشهادة خبرات إعلامية عالمية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ومن ذلك ما ذكرته وكالة (رويترز) في تقرير لها: \"إن قناة (الجزيرة) التليفزيونية الفضائية صنعت لنفسها اسمًا على المستوى العربي ببث ما لم تكن تجرؤ معظم الشبكات العربية على تقديمه\".

وفي أكتوبر من العام 2001 وعندما بدأت المعركة بين أمريكا وقوات طالبان الأفغانية حققت (الجزيرة) نصرًا على أكبر القنوات التليفزيونية العالمية ببثها اللقطات الحية الوحيدة للضربات التي تقودها الولايات المتحدة ضد أفغانستان والأحاديث المصورة لـ (أسامة بن لادن) وأقرب مساعديه وهم يهددون بالمزيد من الدمار، حتى وصل ثمن بيع الدقيقة الواحدة من أحاديث ابن لادن للشبكات التلفزيونية بمبلغ عشرين ألف دولار.

كما أنها في نفس العام أيضاً تفردت ببث فيلم تسجيلي لزعيم تنظيم القاعدة (أسامة بن لادن) وإلى جانبه زعيم تنظيم الجهاد المصري الدكتور أيمن الظواهري خلال احتفال بتخريج دفعة جديدة من مقاتلي القاعدة، وقالت الجزيرة حينها: إن الاحتفال كان أيضًا بمناسبة الإعلان عن اتحاد التنظيمين.

وفي العام 1998 أعدّت لقاءُ انفردت به مع (أسامة بن لادن) لإلقاء الضوء على فكر وأهداف زعيم القاعدة. وقد كانت الجزيرة القناة الفضائية الإخبارية الوحيدة التي تعمل من داخل الأراضي الأفغانية التي تسيطر عليها حركة طالبان.

كما انفردت (الجزيرة) بالكثير من الموضوعات من بينها لقطات لأحداث مهمة مثل قصف طالبان لتمثالي (بوذا) العملاقين الأثريين في مايو من العام 2000.

وإجمالاً فإن قناة (الجزيرة) مثّلت حضوراً جمع بين المهنية الصحفية، وبين الواجب الإنساني، في عددٍ, لا يستهان به من بؤر الصراع الساخنة، ابتداءً من أفغانستان، ومروراً بفلسطين ومجازر نابلس ورفح وجنين وأخيراً في العراق، وتحديداً ما حصل في الفلوجة.

ولهذا فليس أمر إغلاق (الجزيرة) في العراق تحديداً بالأمر المستغرب، فإنها منذ بدء تغطيتها لأحداث القصف الذي كان يتعرض له العراق من الاحتلال الأمريكي، وهي متهمة من قبل (عملاء أمريكا في ذلك الحين) بأنها متواطئة مع (صدام حسين)، وممَولَة من قبل حزب البعث الاشتراكي مع أنه كان قد صدر أمر توقيفها أثناء الحرب من (الصحاف) في ذلك الحين لاتهامه إياها بعدم الصدق في نقل الحقائق º ولذا فإن إشارات كانت ترسل من وقتٍ, لآخر من الحكومة المؤقتة إما مباشرة في حين أو بتوجيه ونصائح من الإدارة الأمريكية في حينٍ, آخر إلى مكتب قناة الجزيرة بأنه سيتم إيقافها عن العمل إن لم تغير من طريقة نقلها وعرضها للأحداث.

ولذا فقد كانت (الجزيرة) بمثابة المندوب السامي الأوحد، والمُمثل الرسمي المعتمد للمواطن العربي لنقل وقائع الصورة الحية المعاشة في العراق، وبشهادة العراقيين أنفسهمº فعلى شاشتها فقط كانت تنقل صور القصف العنيف الذي كانت تتعرض له المدن العراقية، والمداهمات، التي كان يتلقاها المواطن العراقي..!! ولكن الواقع يثبت باستمرار منذ أن جاءت قوات (الحرية!!) بأن كل ما فعلته هذه القوات الأمريكية هو أنها أبقت على نفس مضمون وجوهر وسياسة نظام الحكم، ولكنها فقط غيَّرت في الأوجه والمسميات..

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply