قصتي مع رقص السماح


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

لي مع رقص السماح هذا قصة هزت دمشق هزاً، وشغلت صحفها، وأبطال هذه القصة مدرسة (دوحة الأدب) في دمشق، وشيوخ الموسيقى في حلب.

أما مدرسة (دوحة الأدب) فهي ثانوية أهلية أنشأها بعض من يدعوهم الناس بالزعيمات النسائيات اللواتي يغلقـن عيناً وينظرن بالأخرى وحدها كما يفعل الصياد قبل أن يضغط على الزناد ينظرن إلى الغرب وعاداته بعين الرضا، ويغمضن العين عن عيوبه ومفاسده كما يغمضنها فلا يبصرن بها جمال ما في الشرق المسلم من فضائل ومكرمات.

استدعت هذه المدرسة من دمشق (أكابر مترفيها ففسقوا فيها)، أو ليس من الفسوق في نظر الشرع أن يرسل أب بنته البالغة متكشفة مبدية زينتها إلى حيث تختلط برجال أجانب عنها ليسوا بمحارمها؟ ولو كانوا أساتذة لها، وان لم يكن بينها وبين واحد منهم حب ولا غرام ولا اتصال بالحرام؟

كان فخري البارودي وطنياً صرفاً، وأميناً على المال، وكان الناس يتهمونه تهمة شائعة وقالة سوء قيلت عنه ما حققتها، وأستغفر الله من روايتها من غير تأكد منها، ولكن الذي حققته وتأكدت منه أن ولعه بالموسيقى وحبه للفن أوصله إلى فكرة شيطانية ما أحسب أنها خطرت في بال إبليس نفسه وهي أن ينقل رقص السماح هذا من المشايخ والكهول ذوي اللحى إلى الغيد الأماليد، والصبايا الجميلات من بنات دوحة الأدب التي دعوتها من يومئذ دوحة الغضب، فجيء من حلب بأستاذ كان في حفظ الموشحات ومعرفة الغناء القديم مفرداً لا يجاريه في ذلك أحد ولا يدانيه هو الشيخ عمر البطش.

وفصلت للطالبات ثياب من الحرير بأزهى الألوان، فضفاضة كثياب القيان والإماء في بغداد وفي مدن الأندلس، واستمر التدريب ونحن لا ندري به وما يدرينا بالذي وراء جدران مدرسة أهلية للبنـــات، ونحن لا ندخلها، ومالنا فيها قريبة ولا نسيبة تخبرنا بالذي فيها، حتى سمعت أنها ستقام حفلة كبيرة في دار أسعد باشا العظم وهي أوسع الدور الدمشقية، وقد صارت الآن متحف الفنون الشعبية،فكتبت أنقد إقامتها، وأحذر منها، وأنصح آباء البنات وأولياءهن أن يمسكوا بناتهم فلا يبعثوا بهن إليها، وكيف يرضى لبنته مسلم عربي أبي أن ترقص أمام الرجال الأجانب؟ تتلوى وتتخلع وهي تغني أغاني كلها في الغرام والهيام؟

ولكن الحفلة أقيمت وحضرها رئيس الوزراء وحضرها العقيد أديب الشيشكلي وحضرها قوم ممن يدعون بوجهاء الناس وكبرائهم، وعرفنا خبرها من الجرائد ومن الإذاعة ولم يكن قد جاءنا هذا الرائي (التلفزيون)، وكنت يومئذ القاضي الممتاز في دمشق، ولعل ذلك بمثابة رئيس المحكمة الشرعية الكبرى في المملكة وفي مصر، وكنت أخطب مع ذلك في مسجد الجامعة.

فلما أقيمت هذه الحفلة رقص فيها هؤلاء البنات رقصة السماح وهن صفوة فتيات دمشق جمالاًومالاً ودلالاً، وألبسوهن ألبسة حريرية ملونة فضفاضـة كالتي يلبسها الجواري قديماً، ولم يكن في هذه الرقصة عورة مكشوفة، ولا كانت رقصة هز البطن الظاهر التي تعرفها بعض البلاد، ولا كان فيها عرض الأفخاذ بحركات متزنة كالذي يدعونه رقص الباليه، ولكن فيها ما أظن انه أضر على الشباب من ذلك كله لأن فيها على الرغم من الثياب الواسعة من الإثارة ما كان يتعمد مثله في العصر العباسي الإماء الفاتنات المستوردات لإثارة ميول الرجال.

وكان من عادتي حين أصعد المنبر لأخطب الجمعة أن أعد الموضوع في ذهني لا أكتبه، ولم أكن أنوي التعرض للحفلة لأنني تكلمت فيها وكتبت وحسبت أني أعذرت بذلك إلى ربي، ولكني لما بلغت الدعاء في آخر الخطبة خطرت على بالي الحفلة وما كان فيها فخفت من الله أن يراني ساكتاً عن إنكارها، وأن أكون شيطاناً أخرس، وأنا لا أرضى لنفسي أن أكون شيطاناً ناطقاً بليغاً أفأرضى أن أكون شيطاناً وأخرساً؟

وأحسست أن شيئا قد نبض في قلبي فهزه مثل هزة الكهرباء، وسرى في أعصابي وعروقي، وحين أحس بذلك أعلم أني إن تكلمت كان كلامي لله، وأن الله لا يخذلني، وقع لي ذلك عشرات المرات ما تخلى الله عني في واحدة منها، أما حين أتكلم للدنيا وأفكر في نفع أناله من كلامي، أو ضرر أتحاشاه إن تكلمت في هذه الحال لم يكن في كلامي أثر في نفوس السامعين.

لما بلغت الدعاء قلت كلاماً صدقوني أنني لا أحفظه لأنني لم أعده ولم أرصفه، وإنما تكلم به إيماني على لساني، قال السامعون لي بعد ذلك: أنني قلت كلاما ما معناه: إن دمشق ظئر الإسلام، ومثابة الأخلاق لا ترضى بما يخالف الإسلام، ولا بما يذهب بمكارم الأخلاق كائناً ما كان قائله أو فاعله،وكانت منزلته بين الناس، وأن هذه الحفلة منكر، وإنها حرام، وإنها تنافي الإسلام، وإن كل من حضرها ورضي بها آثم، وإن الذي لا يغار على محارمه ديوث، وأقبل الناس علي بعدها داعين مهنئين خائفين علي، فقلت لهم: إني فعلت ذلك لله، والله لا يتخلى عمن يعمل له، وانقسم الناس قسمين:

أما أهل الدنيا وفيهم بعض الحاكمين وبعض الصحفيين فحملوا علي، وكتبوا عني ما شاؤوا وشاء لهم هوى نفوسهم، وأقسم لكم أنني إلى هذه الساعة لم أدرِ ما الذي كتبوه فيها، أما أهل الدين وهم الكثرة فهم معي، حتى إن القاضي محمد الأهدلي - رحمه الله - كتب مقالة عنوانها (كلنا علي الطنطاوي) ذهب فيها في تأييدي كل مذهب ممكن، ونشرت الهيئات الإسلامية بياناً طبعت منه أكثر من مئة ألف ووزعته في أرجاء البلاد عنوانه (بيان الهيئات الإسلامية إلى الشعب الكريم) كان مما قالت فيه: (إن الجمعيات الإسلامية وعلماء المسلمين تعلن للحكومة باسم الدين والكثرة الساحقة من هذا الشعب الذي تنكر أديانه على اختلافها، وتنكر أعرافه وأخلاقه الفسوق والدعارة والتهتك، وإقامة الحفلات الراقصة المتكشفة باسم الفن والذوق والرياضة، والتي غضبت من الحفلة التي أقامتها مدرسة دوحة الأدب، وعرضت فيها البنات المسلمات راقصات أمام الرجال، ونحن في مرحلة حرب مع اليهود ولا يستنزل نصر الله بمعصية الله، نعلن للحكومة أنه قياماً بواجب الدين الذي يأمر بإنكار المنكر،وتنفيذاً لأحكام الدستور الذي يحمي الخلق والعفاف، وذوداً عن عقائدها وأخلاقها لا ترضى بمخالفة شرع الله، والسماح للفئة التي تتبع أهوائها وشهواتها باسم دعوى التقدمية والتجدد أن تتحكم بأخلاقها وأعراض بناتها ومستقبل أبنائها، وتؤيد الشيخ علي الطنطاوي في كلمة الحق التي أعلنها في خطبته في مسجد الجامعة، وعبر فيها عن حكم الدين، وتنكر كل تحريف لها، وتطلب وضع حد لمؤازرة بعض رجال الحكومة لهؤلاء الناس، وحمايتهم للحفلات الماجنة... الخ)، ولما قابل وفود العلماء رئيس الوزراء قال لهم: إنه يحترمني ويقدرني، ولكنه أنكر لفظاً بذيئاً لا يليق بي قد استعملته هو لفظ الديوث، فصرخ به الشيخ عبد القادر العاني وكان جهير الصوت، حديد المزاج،صداعاً بالحق -: لقد كفرت وحرمت عليك امرأتك إلا أن تجدد إسلامك، أتقول عن لفظ استعمله رسول الله، وورد في الحديث أنه لفظ بذيء؟) فبهت ولم يجد بداً من الاعتذار.

ثم انتقلت القضية إلى المجلس النيابي، وأثيرت في جلسة 26يونيو 1951م الموافق 22/9/1370هـ وتكلم في هذه الجلسة محمد المبارك - رحمه الله - فقال كلمة طيبة جاء فيها: (إن رقص السماح أيها الإخوان الذي يريد بعض الناس أن يفخر به قد رافق عصر الانحلال والانحطاط في الأندلس وفي بعض البلاد العربية الأخرى، أفلا يجب أن نقلد عصور الحضارة والمد الذهبي الذي كانت فيه المرأة تجمع بين الخلق والكرامة والجهاد والكفاح...الخ).

هذه هي القضية التي شغلت الناس والتي لم أرد من إثارتها يعلم الله إلا إنكار المنكر، وقد حوكمت بعدها أمام مجلس القضاء الأعلى عليها، وعلى مقالة كنت كتبتها في نقد قانون العقوبات الذي يكاد يبيح الزنا، وقلت عنه: أنه قانون (القطاط في شباط).  

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply