لم تقولون ما لا تفعلون


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

إن الإيمان ليس مجرد كلمات يقولها الإنسان بلسانه، أو عبادات، إنما  الإيمان سلوك ومعاملة وأخلاق تترجم إلى واقع حي يراه الناس، فصاحب الإيمان الصحيح تظهر آثاره في السلوك والالتزام مؤشراً على صدقه وصلاحه.

ومن ناحية أخرى فالعبادات في الإسلام لها حكم أخلاقية سلوكية وقلبية، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والصيام يغرس التقوى والرحمة للفقراء والمساكين والزكاة طهارة من الشح والبخل والأثرة والحج يغرس التواضع وحب المسلمين وكراهية الشر بأنواعه.

والمؤمن لا يخالف قوله فعله، وهو الذي يبدأ بنفسه أولاً فيحملها على الخير و البر، قبل أن يتوجه بهما إلى غيره ليكون بذلك الأسوة الحسنة والقدوة المثلى لمن يدعوهم، وليكون لكلامه ذلك التأثير في نفوس السامعين الذين يدعوهم، بل إنه ليس بحاجة إلى كثير عندئذ، فحسبُ الناس أن ينظروا إلي واقعه وسلوكه، ليروا فيهما الإسلام و الإيمان حياً يمشي أمامهم على الأرض وليشعّ بنوره على من حوله، فيضيء الطريق للسالكين، وتنفتح عليه العيون ويقع في  القلوب، فيحمل الناس بذلك على التأسي والإتباع.. فهو يدعو بسلوكه وواقعه قبل أن يدعو بقوله وكلامه..

ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير أسوة، فقد كان -عليه الصلاة والسلام- إذا أمر الناس بأمر كان أشد الناس تمسكاً به، وكان يحمل أهل بيته على ذلك قبل أن يدعو غيرهم.

وما أعظم ذنب أولئك الذين يصدون عن دين الله ويقفون حجرة عثرة أمام الدخول فيه والتمسك بأحكامه لأنهم بسلوكهم ذاك ينفّرون الناس من الدين، وتنطلق الألسنة المتبجحة لتقول: انظروا إلى فلان.. إنه يدعونا إلى شيء ويخالفنا إلى غيره، ولو كان ما دعونا إليه حقاً لاتبعه وتمسك به؟ فيتركون -عندئذ- الدين، بسبب سلوكه ذاك!! وكم يتحملون من أوزار الذين تابعوهم في سلوكهم ذاك، إذ أنهم حملوهم على المخالفة والإثم بالإيحاء والقدوة العملية، ولولاهم ما وقعوا في ذلك، فهم الذين سنَّوا هذه السنة السيئة فكان عليهم إثمهم وآثام من اتبعهم فقد: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي أخرجه مسلم: «من سنَّ في الإسلام سنَّة سيئة يُعمل بها من بعده، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض(48) من نار، قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: خطباء من أهل  الدنيا، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون؟)).

قال الهيثمي: "وأحد أسانيد أبي رجاله رجال الصحيح.. اهـ. انظر: مجمع الزوائد (7 / 276) وفي الصحيحين من حديث أسامة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((يجاء برجل فيطرح في  النار فيطحن فيها كما يطحن الحمار برحاه، فيطيف به أهل  النار فيقولون: أي فلان، ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: إني كنت آمر بالمعروف ولا أفعله، وأنهى عن المنكر وأفعله)) صحيح البخاري: كتاب الفتن، باب (17رقم 7098) وصحيح مسلم (4/ 2290 رقم 2989).

وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "يا حملة  العلم، اعملوا به فإنما العالم من عمل بما علم، فوافق عمله علمه، وسيكون أقوام يحملون  العلم لا يجاوز تراقيهم، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه إذا جلس إلى غيره" في الآداب الشرعية (2 / 53).

وقد ذكر الحافظ ابن عبدالبر عن بعض السلف مقولات في هذا الشأن منها:

1.    "من حجب الله عنه العلم عذَّبه على الجهل، وأشد منه عذاباً من أقبل عليه العلم فأدبر عنه، ومن أهدى الله إليه علماً فلم يعمل به".

2.    عن أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: "تعلموا  العلم واعملوا به، ولا تتعلموه لتتجملوا به، فإنه يوشك إن طال بكم زمان أن يتجمل ب العلم كما يتجمل الرجل بثوبه".

3.    عن عبدالله بن مسعود قال: "إن الناس أحسنوا القول كلهم فمن وافق فعله قوله فذلك الذي أصاب حظه، ومن خالف قوله فعله فإنما يوبِّخ بنفسه".

4.    عن الحسن البصري قال: "اعتبروا الناس بأعم الهم، ودعوا أقو الهم فإن الله لم يدع قولاً إلا جعل عليه دليلاً من عمل يصدقه أو يكذبه، فإذا سمعت قولاً حسناً فرويداً بصاحبه، فإن وافق قولُه فعله فنعم ونعمة عين".

5.    وقال أبو الدرداء: ويل لمن يعلم ولم يعمل مرة، وويل لمن علم ولم يعمل سبعين مرة "جامع بيان  العلم وفضله (1 / 143).

وما أجمل الحكمة التي أجراها الله -تعالى- على لسان أبي الأسود الدؤلي، عندما قال:

يا أيها الرجل المعلم غيره *** هلا لنفسك كان ذا التعليم

تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى *** كيما يصح به وأنت سقيم

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإن انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يقبل ما تقول ويهتدى *** بالقول منك وينفع التعليم

لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم

وقال آخر:

يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً *** إذ عبت منهم أموراً أنت تأتيهـا

كالملبس الثوب من عريٍ, وعورته *** للنـاس بـادية مـا إن يواريهـا

وأعظم الإثم بعد الشرك نعلـمـه *** في كل نفسٍ, عماها عن مساويها

عرفانها بعيوب الناس تبصرهـا منهم*** ولا تبصر العيب الذي فيها

وقال ابن هرمة:

يا واعظَ الناسٍ, عما أنتَ فاعلُه *** يا من يعدٌّ عليه العمرُ بالنَّفَسِ

احفظ لشيبِك من عيبٍ, يدنسُه *** إِن البياضَ قليلُ الحملِ للدنسِ

كحاملٍ, لثيابِ الناسِ يغسلُها *** وثوبهُ غارقٌ في الرجسِ والنَجسِ

واختم بما قاله  الشافعي -رحمه الله تعالى -:

إِن الفقيهَ هو الفقيهُ بفعلِهِ *** ليس الفقيهُ بنطقِه ومقالهِ

وكذا الرئيسُ هو الرئيسُ بخلقِه*** ليس الرئيسُ بقومهِ ورجالهِ

وكذا الغني هو الغني بحالِه *** ليس الغَنِيٌّ بملكهِ وبمالهِ

وينبغي للمؤمن أن يكثر الفكر فيه هو قبول العمل، فكم من الناس يؤدي العمل ولا يلتفت إلى قضية القبول، وكأن عنده ضمانا من الله بالقبول، بينما يصف ربنا -تبارك وتعالى- حال العباد الصالحين إذ يقول: (وَالَّذِينَ يُؤتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُم وَجِلَةٌ أَنَّهُم إِلَى رَبِّهِم رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيرَاتِ وَهُم لَهَا سَابِقُونَ)(المؤمنون: 60، 61).

وأخرج الإمام أحمد أن أمّنا أم المؤمنين  عائشة -رضي الله عنها- سألت  النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المذكورين في الآية: أهم  الزناة والسرّاق وشربة الخمر، يفعلون ذلك وهم يخافون الله؟! فأجابها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ((لا يا بنت الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو مع ذلك يخاف الله عز وجل)).

وقد كان هذا دأب سلفنا الصالح، فهذا محمد بن واسع يقوم ليله يبكي حتى إن جيرانه لم يناموا من بكائه، فلما كانت صلاة الفجر كلّمه جاره فقال له: ارفق بنفسك وبنا، فوالله ما نمنا البارحة من بكائك، قال: "والله، إني عندما صففت قدميّ بين يدي الله البارحة تصورت أن الجبار جلّ جلاله يناديني فيقول: يا محمد، اعمل ما شئت، فلن أتقبل منك".

ولله در بن الجوزي وهو يقول كما في صيد الخاطر: "ولقد تاب على يدي في مجالس  الذكر أكثر من مائتي ألف، وأسلم على يدي أكثر من مائتي نفس. وكم سالت عين متجبر بوعظي لم تكن تسيل.

ويحق لمن تلمح هذا الإنعام أن يرجو التمام. وربما لاحت أسباب الخوف بنظري إلى تقصيري وزللي.

ولقد جلست يوماً فرأيت حولي أكثر من عشرة آلاف ما فيهم إلا من قد رق قلبه، أو دمعت عينه. فقلت لنفسي: كيف بك إن نجوا وهلكت، فصحت بلسان وجدي: إلهي وسيدي إن قضيت علي بالعذاب غداً فلا تعلمهم بعذابي صيانة لكرمك لا لأجلي، لئلا يقولوا عذَّب من دل عليه".

نسأل الله أن يجعل أعمالنا صالحة ولوجهه خالصة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply