كل على ثغر


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن الثورة الإعلامية الكبيرة في هذا العصر فتحت المجال لانتشار الأفكار - أيا كانت - بسرعة مذهلة، بل وتسببت في تغيير الحقائق، وصناعة مصطلحات ومسميات لكثير من الأشياء على مراد أولئك الذين يملكون ناصية الآلة الإعلامية..

فقد تمكنوا من الوصول للمتلقِّي أينما كان وحيثما ارتحل، لكثافة ما يروجون له، وجاذبية أساليبهم وتنوعها وقوة تأثيرها..وأمام هذا الكم الهائل من الغزو الإعلامي الذي يمطرنا بسيل من الأفكار والمصطلحات المخالفة لديننا وعقيدتنا وتقاليدنا وقيمنا..

بات من المفروض على أصحاب المنهج القويم وحمَلة الرسالة الخالدة ودعاة الفضيلة ألا يكونوا في مؤخرة الركب يمثلون دور المستهلك والمتلقي فقط دون أدنى تأثير على الرأي العام، فإن ذلك مدعاة إلى أن تنصبغ حياتهم من حيث - يشعرون أو لا يشعرون - بما تمليه عليهم وسائل الإعلام..

إنما ينبغي لكل فرد من هذه الأمة شرّفه الله بخير دين، وأكمل شريعة، أن يساهم في صنع الحياة، ومسك زمامها، وقيادة دفّتها، وصياغة أفكارها على مراد خالق الكون، ومنهج خير البرية - صلى الله عليه وسلم -..

كلٌ بحسب مكانته وإمكانياته، مستأنسا بقول النبي صلى الله عليه سلم: (من رأى منكم منكرا فليغيره.. )، وقوله: (بلغوا عني ولو آية)، وأن يتعاضد أهل الحق بكل ما يملكون من وسائل وأساليب مشروعة لنشر وتوضيح وتطبيق المنهج الرباني الحكيم الذي تتحقق به سعادة الدنيا والآخرة ويعيش الناس في ظله حياة طيبة - ولو على الأقل - بين أتباع ملتهم ليحمونهم من فيضان الباطل المدمر..

فعلماء الأمة وفقهائها ووعاظها، مع ما يقومون به من جهود مشكورة - إلا أنها لا تكفي لوحدها للقيام بالواجب الذي أناطه الشرع بالأمة بعامة.. أفلا يقوم طلابهم وإخوانهم في الدين حتى وإن كان بعضهم متلبس بمعصية أو معاصي ظاهرة - وأينا يسلم من ذلك - بمساعدتهم في أداء هذه المهمة؟

قال الإمام بن باز - رحمه الله -: (فعند قلة الدعاة، وعند كثرة المنكرات، وعند غلبة الجهل كحالنا اليوم - تكون - الدعوة فرض عين على كل واحد بحسب طاقته) أ. هـ

وهذا لا يعني أن نفتح الباب على مصراعيه لكل متحدث أن (يهرف) بما لا يعرف، أو يقول على الله بغير علم، فللعلماء قدرهم ودورهم في قيادة الأمة وبيان الحق، ولكن مع كثرة المنكرات يعجز أهل العلم عن الإحاطة بها لكثرة الناس وتباعد أقطارهم..

والجهل المطبق الذي تعيشه الأمة وكثرة الأفكار الهدامة التي تحيط بها.. ونشاط دعاة الضلال وتعدد وسائلهم وأساليبهم، ولأن الناس مشارب متباينة وشرائح متفاوتة يحتاجون لأساليب مختلفة لإقناعهم بالحق وترغيبهم في الخير وإبعادهم عن مسالك الانحراف..

فلا يحق لنا حصر أساليب الدعوة والنصيحة والتوجيه والإرشاد على فئة أو صنف من الناس لا يملك غيرهم أن يشاركهم فيه، أو صياغتها في (قالب) واحد ومنع ما سواه..

أو أن نضع الحواجز أمام دعاة الحق وحملة الفضيلة ونملي الشروط التعجيزية حتى يكاد ألا يقوم بالدعوة إلا قلة معدودة لا تكفي للقيام بالواجب، في حين قد أجلب دعاة الباطل بخيلهم ورجلهم راكبين كل صعب وذلول لنشر باطلهم..

وهذا لا يمنع من التناصح فيما بيننا وتوضيح الخطأ إن وقع، بل ذلك يلزمنا، كما يجب علينا الحرص على العمل بما ندعو إليه، وقبل ذلك أن ننقي دعوتنا من أهواء النفس ورغباتها، فلا ندعو لتحقيق مصالح شخصية، ولا لتجمعات حزبية، بل مخلصين لرب البرية.

 

شعارنا في ذلك.. تلك السورة القصيرة في مبناها العظيمة في معناها التي قال عنها الإمام الشافعي - رحمه الله- : (لو ما أنزل الله على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم)، وهي قوله - تعالى -: (والعصر.. إن الإنسان لفي خسر.. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)..

وفي قصة القرية في سورة (يس) التي أرسل الله إليها ثلاث من المرسلين أوضح دلالة على ذلك.. فعندما كذبوا رسلهم، جاء من (أقصى المدينة)، أي من أبعد مكان فيها، (رجل) غير معروف ليس بنبي ولا رسول بل وليس بعالم ولا وجيه، وقيل أنه كان نجاراً، (يسعى) بكل جدٍ, واهتمام لينصر دين الله، و يؤازر أنبيائه ويأمر قومه بإتباع المرسلين وعبادة الله رب العالمين..

فلم يثبّطه بُعد المكان، ولا عناد القوم، ولا ضعف الإمكانيات أن يقوم بما قام به الأنبياء، ويسمعهم بكل قناعة وصراحة إعلان فخره واعتزازه بإيمانه فيقول: (إني آمنت بربكم فاسمعون)..

بل أنه من حرصه على هداية قومه، وصلاحهم بعدما قتلوه وقيل له أدخل الجنة: (قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين)، أي ليؤمنوا ويتوبوا، قال بن عباس - رضي الله عنه -: - رحمه الله - نصح قومه حياً وميتاً.

فنشر الفكرة الصحيحة والمنهج الحق ليست حكرا على العلماء فقط.. على فضلهم ومكانتهم.. بل هي حقٌ مشاع لكل مسلم ذكراً أو أنثى (علِمَ) الحق بدليله، بالضوابط الشرعية التي تحمي حوزة الدين، وتحافظ على الثوابت، وتراعي روح الشريعة الغراء..

فما الذي يحول بين كل صاحب علم صحيح أو رأي سديد أو أسلوب مؤثر أو قلم سيال أو تجربة سابقة وبين القيام بواجب البلاغ، والقيام بما يقدر عليه من شأن الدعوة إلى الله إذا ابتعد عن الابتداع في الدين، والقول على الله بغير علم، وحرص على الارتباط بالكتاب والسنة والرجوع إلى العلماء واستشارتهم فيما أشكل عليه، والتثبت مما يرويه من أدلة وأخبار..

وما الذي يمنع المفحِّط التائب أو المدمن المهتدي الذي عاش حياة الضلال والانحراف أن يحاول انتشال من استطاع من شباب الأمة بتحذيرهم من الوقوع في تلك المهلكات مستشهدا بشيء مما (يحسن ذكره) مما جرى له!

ولماذا لا يتبنى الطبيب الواعي توضيح ما يترتب على الولوغ في الرذيلة والانحرافات الأخلاقية من أمراض وأضرار.. ومن أوتي الصوت الحسن لم لا يتغنى بالقرآن في مسجد أو محفل - بصوت مؤثر- يلين به القلوب القاسية، ويوقظ الأنفس الغافلة، ويجذب من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد!

ولم لا يستغل الشاعر موهبته الشعرية في نصرة الدين بقصائد أدبية أو أراجيز تعليمية، ويصيغ الدعوة في قالب أدبي أخاذ.. وما أجمل أن يخاطب (شاب) الشباب بأسلوب يناسبهم.. ويوصل لهم المعلومة بطريقة يفهمونها، يقوم بشرح حديثٍ, ألمًّ بمعناه وتثبت من صحته.. أو يفسر آية فهم مراد الله منها..

وما أروع وأنفع الاجتماع إلى الشباب في مخيم على البحر أو في مجمع يسعهم أو في مركز يناسبهم، أو الوصول إليهم في مجالسهم إما مباشرة أو عن طريق القنوات والإنترنت لنخرجهم مما هم فيه من ضلال، ونوضح لهم معالم الشريعة الغراء..

وأولئك الذين يعملون خلف الكواليس في تسجيل محاضرة أو تغطية برنامج أو بث نشاط دعوي توزيع دعاية أو كان لهم دور في التنسيق والإعداد والتنظيم ونحو ذلك من أدوار مساندة لا يتم العمل إلا بها..

بل.. ما المانع أن يقوم صاحب كل تخصص بتسخيره في خدمة الدين من برمجة عصبية أو خبرة حاسوبيه.. فمن أوتي معرفة في جانب من جوانب التقنية فليسخرها في خدمة دينه الحق الذي شرفه الله به، بتصميم يُبدعه، أو عمل ينتجه يبثه عبر هذه الشبكة العنكبوتية، بل وينبغي على كل قادر على إنشاء أو المشاركة في منبر إعلامي من قناة فضائية أو شبكة عنكبوتية أو محطة إذاعية أو صحيفة أو مجلة أن يساهم في نشر الخير..

فقد يكون له من التأثير - على البعض - ما ليس لمحاضرة أو خطبة، وقد يكون المستفيد من الأنشطة المنقولة عبر الانترنت أضعاف من يستفيد منها مباشرة.. فقد جاء في تقرير المخيم الصيفي بجده لهذا العام أنّ عدد زواره في المقر (مليون) مستفيد، بينما عدد المستفيدين منه عبر الانترنت (مليونين).

والرجال والنساء في ذلك كله على حدٍ, سواء.. فكم من أخت داعية حملت من الهمّ ما ينوء عن حمله أشداء الرجال، وبل وكم من أخواتنا من تقوم بدور- يتناسب مع إمكانيتها - يفوق أدوار الكثير من الرجال!

فعائشة - رضي الله عنها - ما اختلف الصحابة في مسألة من العلم إلا وجدوا عندها في ذلك علماً، ونسيبة بنت كعب - رضي الله عنها - يقول لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة)..

فلنطور أساليبنا و نجدد في طرائقنا.. مع بقاء ثوابتنا.. وسلامة مناهجنا.. فكلٌ على ثغر..

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply