قيادة الأزمة في العمل الإسلامي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

كثيراً ما تمر بالجماعة المسلمة أزمات تهزها هزاً وتعصف بها وتضعها في محك اختبار دقيق لمدى قدرتها على الثبات واجتياز المحن، وللقائد في الأزمات أهم الأدوار حيث يشعر الأفراد في وقت الأزمة بحاجتهم إليه كأشد ما يكون، بل إن جميع الأفراد في الأزمة يبحثون عمن يقودهم ليخرج بهم منها إلى بر الأمان، حتى إنه في بعض الأحيان يتخلى الأفراد عن القائد القديم ويلتفون حول قائد جديد يبرز في وقت الأزمة ويشعر منه الجميع القدرة على القيادة والنجاح..

 

ونستطيع أن نقول أن القيادة الناجحة وقت الأزمة هي أكبر محك لاختبار مدى فعالية القيادة ومدى قدرتها على تحقيق الأهداف، بل إن القيادة الرشيدة في وقت الشدة هي المراد الأول من اختيار العاملين لقيادتهم.

إن قيادة اليسر الرشيدة محك هام ولاشك، ولكن قيادة العسر الأرشد هي النموذج الفعال..

 

وفي العمل الإسلامي هناك اختلافات تخص العملية القيادية عن غيرها من العمليات في الأوساط والساحات المختلفة، ومن أهم تلك الاختلافات أن القائد قد يكون عنصرا غائبا أو مختفيا أو العميل رقم (صفر) كما يحلو للبعض تسميته في العمل الحزبي أو الساحات السياسية والجماعات المحلية، ولكن القائد في العمل الإسلامي لابد وأن يكون ظاهرا أمام الناس ليقتدوا به ويتقلدوا بسلوكه ويتثبتوا بقوله وفعله ولتتمثل فيه التوجيهات الشرعية المرجوة، إذ يصبح القائد في العمل الإسلامي هو النموذج في الإقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو خير قائد قاد البشرية كلها..

 

إن القائد التقيّ الموفق ليوفقه الله - سبحانه وتعالى - إلى السداد في الخطى والتوفيق في الرأي والحكمة في القرار والشمولية في التصرف والمرونة في الأداء والثبات في الأمر كله

 

فقد روى مسلم عن أنس قال كان بالمدينة فزع فاستعار النبي - صلى الله عليه وسلم - فرسا لأبي طلحة يقال له مندوب فركبه فقال \" ما رأينا من فزع وإن وجدناه لبحراً \"، فانظر إليه - صلى الله عليه وسلم - كيف سارع بالنفرة والهبوب السريع إلى موطن الفزع حيث فزع الناس وما إن كاد الناس يخرجون ليعرفوا الخبر حتى وجدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائداً يطمئنهم قائلاً: \" ما رأينا من فزع ثم يسليهم بمدحه للفرس الذي يركبه قائلا \" وإن وجدناه لبحرا \"...

 

وقال علي - رضي الله عنه -: لما حضر البأس يوم بدر اتقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان من أشد الناس ما كان، ولم يكن أحد أقرب إلى المشركين منه، وعنه من طريق ثان قال: رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أقربنا إلى العدو وكان من أسد الناس بأسًا - رواه أحمد، فالقائد هنا - صلى الله عليه وسلم - هو أقرب الناس للمواجهة وهو أحرص الناس على الشهادة وهو أشجع الناس عند اللقاء..

 

 وعن البراء: أن رجلاً من قيس سأله: أفررتم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين؟ فقال: لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفر، كان هوازن رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم فاستقبلنا بالسهام، وفرت الأعراب ومن تعلم من الناس، ولقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بزمامها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: أنا ابـن عبــد المطلب أنا النبي لا كذب، وفي حديث: كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال ابن عمر: ما رأيت أشجع ولا أنجد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

 

وأكثر ما يجب على القائد المسلم في الأزمات أن يوليه اهتماما علاقته بربه وثقته به إذ إنها الدافع الأكبر في التثبيت وتسديد الأفعال والمباركة في القوة والقدرة وتوجيه الاختيار نحو الأصلح الذي قد يخفى على الناس، وكأني أنظر إليه - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعو ربه عشية بدر ويجرأ غليه بالدعاء ويلح ويبكي حتى يشفق عليه أبو بكر في ذلك قائلا له: \"يا رسول الله إن الله منجز وعدك\".. ولازال عمر ابن الخطاب يخطب في جنده قبل اللقاءات قائلا لهم: \"إننا لا ننتصر على عدونا بعدد ولا عدة وإنما هو التوكل على الله والثقة به فكونوا عندها ولا تترددوا \"، وفي فتح مصر لما تأخر عليهم الفتح أرسل إليهم أن \"انظروا إلى ما خلفتم من ذنب بغير توبة فإنه هو مانعكم، وانظروا إلى ما تركتم من سنة بغير عمل فإنما أنتم ممنوعون بركتها\".. فعادوا إلى أنفسهم، فرأبوا الصدع فحل النصر عاجلا غير آجل..

 

وقد ضرب النبي موسى - عليه السلام - مثلاً للقائد المسلم المتعلق بربه في الأزمات الواثق بنصر الله المتنزل على جنده، والقرآن يحكي لنا موقف الأزمة وعمل القائد فيها وكيف تنزل عليه الفرج وحل به النصر فور التوكل الكامل على الله والثقة به، قال الله - تعالى -: \"فَأَتبَعُوهُم مُشرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمعَانِ قَالَ أَصحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهدِينِ فَأَوحَينَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضرِب بِعَصَاكَ البَحرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلٌّ فِرقٍ, كَالطَّودِ العَظِيمِ وَأَزلَفنَا ثَمَّ الآخَرِينَ وَأَنجَينَا مُوسَى وَمَن مَعَهُ أَجمَعِينَ ثُمَّ أَغرَقنَا الآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكثَرُهُم مُؤمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ\" (الشعراء: 60-68).

وفي الأزمات يحتاج القائد الماهر إلى تركيز فكره وإرادته نحو تحديد الإجابة عن سؤالين هامين هما (ماذا نريد؟ وكيف نريده؟).

فالأول سؤال حول الهدف من التصرف في الأزمة والثاني هو سؤال حول الوسيلة المستخدمة للوصول إلى ذلك الهدف، وقد يضيع في زحمة الأزمة الشكل المؤطر لتحديد الهدف نتيجة الخوف أو التردد أو عدم التركيز أو عدم تصور المآلات التي ستصير إليها الأزمة، وواجب القائد هنا أن لا يجعل نفسه فريسة سهلة لتلك المعوقات وأن يستل نفسه خارجها ليستطيع تحديد هدفه بوضوح والتركيز على طريقة نيله.. بل إن قدرة القائد على الاحتفاظ بطريقة هادئة ومتزنة وعاقلة وحكيمة وواقعية في أثناء الأزمة هي مثمنة عند أصحاب الفكر القيادي، وهي الوصف الأهم من صفات قائد الأزمة الناجح..

 

والأزمات عموما تمر بثلاث مراحل (مرحلة الحدوث، ومرحل التعامل مع الأزمة، ومرحلة ما بعد الأزمة) و تختص المرحلة الأولى مرحلة الحدوث - ببعض السمات التي قد تؤدي لفقدان توازن الجماعة المسلمة ومن تلك السمات (المفاجأة، ونقص المعلومات، وتكاثر الأحداث وتتابعها، وفقد السيطرة).

 

وإذا كان من الصعب بمكان منع الأزمات من الحدوث فإنه ليس أقل من أن يعتبر القادة الإسلاميون في برنامجهم العملي ما يمكننا أن نسميه \"توقع الأزمة\" وهي توقع لما يمكن أن يستحدث واقعيا للجماعة المسلمة في ظل الواقع المحيط والظروف المتوقعة، وإذا كانت الأزمات تتسم بالمفاجأة فإن القيادة الحكيمة هي التي لا تهتز بتفاجئها للأزمة بل تمتثل قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - \"إنما الصبر عند الصدمة الأولى\" رواه مسلم، كما تمتثل قوله وفعله في أزمة حمراء الأسد لما أرسل له المشركون إنهم في الطريق إليه ليستأصلوه هو والذين آمنوا معه وجراح غزوة أحد لم يتوقف نزف الدم منها بعد فقال - صلى الله عليه وسلم -: \"حسبي الله ونعم الوكيل\" ثم نادى في أصحابه أن قوموا ولا يخرج معي إلا من خرج في أحد.. فقاموا فسدد الله سعيهم وأخسأ عدوهم، فنزل قول الله تعالى: \"الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَد جَمَعُوا لَكُم فَاخشَوهُم فَزَادَهُم إِيمَاناً وَقَالُوا حَسبُنَا اللَّهُ وَنِعمَ الوَكِيلُ فَانقَلَبُوا بِنِعمَةٍ, مِنَ اللَّهِ وَفَضلٍ, لَم يَمسَسهُم سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضلٍ, عَظِيمٍ,\" (آل عمران: 173، 174).

 

أما علاج نقص المعلومات في الأزمات فقد بينه الله - سبحانه وتعالى - في غيرما آية، قال تعالى: \"وَإِذَا جَاءَهُم أَمرٌ مِنَ الأَمنِ أَوِ الخَوفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَو رَدٌّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُم\" (النساء: من الآية83)، فهذا علاج أصلي وهو رد الأخبار في وقت الأزمات إلى القيادة وعدم تداولها بين الناس سواء كانت سلبية أو إيجابية.. وكذلك قوله - تعالى -: \"يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُم فَاسِقٌ بِنَبَأٍ, فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوماً بِجَهَالَةٍ, فَتُصبِحُوا عَلَى مَا فَعَلتُم نَادِمِينَ\" (الحجرات: 6)، يقول السعدي - رحمه الله تعالى -: \"وهذا أيضاً من الآداب التي على أولي الألباب التأدب بها واستعمالها، وهو أنه إذا أخبرهم فاسق بنبأ أي خبر أن يتثبتوا في خبره ولا يأخذوه مجرداًº فإن في ذلك خطراً كبيراً ووقوعاً في الإثمº فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل حكم بموجب ذلك ومقتضاهº فحصل من تلف النفوس والأموال بغير حق بسبب ذلك الخبر ما يكون سبباً للندامة، بل الواجب عند سماع خبر الفاسق التثبت والتبين\".

 

وفي مرحلة التعامل مع الأزمة ينبغي اعتبار عدة أمور من أهمها مدى تأثر الجمهور والعاملين بالأزمة وكذلك مراعاة الإطار المرجعي الذي يضعه العاملون لأنفسهم في تلك الأزمة مع حرص القائد أن يكون إطارهم المرجعي هم أهل العلم الأثبات.

 

وفي خضم معترك الأزمة قد ينفلت الأمر من بين يدي القيادة بسبب عدم معرفة الدور المطلوب في إدارة الأزمة فتتصاعد الأزمة وتتوسع هوة الخلاف والشقة بين الصفوفº مما قد يؤدي إلى ظهور تيارات وانقسامات داخل الجماعة المسلمة، ولذلك كان لا بد للقائد المحنك من العمل على الإمساك بزمام الأمر، وعليه - برغم كل الضغوط من جميع الاتجاهات - أن يبدو هادئاً في كيفية عدم الاستسلام للضغوط والهروب منها.

 

وتؤدي الأزمة في أغلب الأحوال إلى بروز مهارات وقدرات قيادية غير مسبوقة للقائد في الأوقات العادية، ويحتاج القائد في وقت المواجهة مع الأزمة إلى أن يستخدم ما يتوفر لديه من مهارات الابتكار والمرونة في الاستفادة من مشاركة الآخرين بالرأي والمشورة في خضم الأزمة مع ضبط النفس وعدم الثوران والغضب ومحاولة استجماع القوى والتفكير الصحيح في كيفية التفاعل الحكيم السليم.

 

وفي مرحلة ما بعد الأزمة ينبغي ألا يسيطر على القيادة شعور بالتراخي والراحة والدعة ناسية أو متناسية ما سببته الأزمة من ألم ووهن وإنما ينبغي تكوين ما أسماه الخبراء \"لجان التقويم بعد الأزمات\" وهي عبارة عن لجان تعقد لتقويم الآثار السلبية والإيجابية للأزمة على الجماعة المسلمة وكذلك تقويم مدى مناسبة التصرف والقرار في تلك الأزمة.

 

إن القائد التقيّ الموفق ليوفقه الله - سبحانه وتعالى - إلى السداد في الخطى والتوفيق في الرأي والحكمة في القرار والشمولية في التصرف والمرونة في الأداء والثبات في الأمر كله.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply