حتى لا يتوقف عطاء الدعاة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 يشاهد المطلع على أحوال الدعاة إلى الله - تعالى -ممن يعانون من الفقر وقلة ذات اليد وهم كثر في عالمنا الإسلامي ظاهرة انتكاس بعضهم عن الطريق ووجود فتور كبير لدى عدد ليس بالقليل منهم.

 ونظراً لخطورة هذه الظاهرة على مسيرة العمل الدعوي، وما تدل عليه من ضعف الثقة بالله - عز وجل -، وعدم الرضا بالقضاء والقدر، بالإضافة إلى الجهل بسنن الله - عز وجل - في المنع والإعطاء...

بادرت مستعيناً بالله - تعالى -في كتابة هذه السطور محاولاً إلقاء الضوء عليها، راجياً أن تتضح الرؤية لأولئك فيعود من ضاع منه الطريق، ويقوى على السير من لبث في مكانه وفتر عزمه ولم يواصل المضي، عسى أن تكون كلماتي عامل تقوية وتثبيت لبعض من تتحرش بهم شياطين الجن والإنس، وتكاد ضغوط المعاناة وشدة الواقع أن تأتي عليهم، فتقعدهم عن مواصلة المسيرفي سبيل الدعوة إلى الله.

وسيكون الحديث بالأصالة متجهاً إلى من يعيش الأزمة ويكتوي بنارها كما أن جزءاً منه سيكون موجهاً لإخوانهم الموسرين الذين يشاطرونهم حمل هم هذا الدين، وهم على معرفة بأحوالهم وشدة معاناتهم.

 

من تلك حاله كيف يصنع؟

 وبما أن الأمر في ذلك وارد على كل داعية إلى الله، فلابد أن يوطن الداعية نفسه على الآتي:

1- أن يتذكر أن الله يبتلي عباده بالغنى والفقر، فيوسع على بعضهم في الرزق، ويهبهم من عظيم خيراته الشيء الكثيرº لكي يقوموا بواجب الحمد والشكر له، ويمنع - سبحانه - بعضهم من تلك السعة، ويقدر عليهم رزقهº لكي يقوموا بواجب الصبر وكمال الرضى، فيوفق للحمد والشكر من الأغنياء فريق، ويتجبر الفريق الآخر منهم ويطغى كما قال - تعالى -(كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى) [العلق: 56] كذلك حال الفقراء حيث يوفق للصبر والتسليم والرضى بالقضاء طائفة منهم، وتتجه الأخرى إلى التسخط والجزع، بل وربما إلى ممارسة كسب المال من طرق غير مشروعة.

 

 2- معرفة أن الله - عز وجل - قد تكفّل برزق الخلائق كما قال - تعالى -: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) [هود: 6]، وما تكفل الله به فلا خوف من تأخره أو ضياعه وعدم وصولهº ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه الذين تعرضوا له بالمسألة رجاء التوسعة عليهم: »...فو الله ما الفقر أخشى عليكم...[1]، وهذا راجع إلى كمال اطمئنانه وعظيم ثقته بموعود ربه، ويقينه التام بأن ما قدره الله للعبد من رزق فهو آتيه لا محالة.

 

 3- العلم بأن لهذا الابتلاء فوائد جَمة متى استطاع المرء تحقيقها تحول الأمر في حقه من محنة إلى منحة، ومن نقمة إلى نعمة، ومن تلك الفوائد:

 *أن العبد بصبره على الابتلاء ينال ما ذكره - تعالى -في سورة البقرة في قوله: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) [البقرة: 155-157].

*أن العبد المبتلى بذلك يتقلب بين مقامات العبودية المختلفة من صبر وتسليم ورضا وتوكل ورجاء وورع ولجوء وتضرع وسكينة وثقة...

إلى غير ذلك من المقامات العالية لذلك التي قد يحرمها لو لم يُصَب بذلك.

 بالإضافة إلى المقامات الأخرى من حمد وشكر وإحسان إلى الآخرين...

إلى غير ذلك مما يناسب النعم التي أعطيها العبد كنعم الإيمان والصحة والأخلاق الحميدة والاشتغال بما ينفع في الآخرة... الخ.

 *أن من ابتلي بذلك من الدعاة وصبر يصلب عوده ويقوى ويصبح أكثر قدرة على الثبات في مواجهة المحن والأزمات [2]، وبخاصة إذا كان السبب المباشر لمعاناته من الفقر وقلة ذات اليد تَمَسّكُه بدينه وثباته على دعوته وقيامه بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 *أن المصيبة والابتلاء في الدنيا لا في الدين، ومن عرف حقيقة الدنيا والدين وابتلي وكانت مصيبته في دنياه، عرف أنه قد سلم وعوفي وأن واجبه الشكر والثناء لا السخط وعدم الرضا [3].

 *أن كل مصيبة سببها المعاصي والذنوب كما قال - تعالى -: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) [الشورى: 30]، والمصائب والبلايا تُكَفّر الذنوب، ولولا رحمة الله - تعالى -بإيقاعها عليه في الدنيا لأجلت عقوبة ما اقترف من ذنوب إلى الآخرة، وعقوبة الآخرة ليست كعقوبة الدنيا مهما عظمت وجلّت، وعند ذلك يجب في حق العبد الشكر والثناء على الله - تعالى -.

 *أن المصيبة واقعة لا محالة لكونها مكتوبة على العبد، قال - صلى الله عليه وسلم -: (وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك) [4] وكونها قد وقعت فقد استراح منها إن انتهت ومن بعضها إن بقيت وهذه نعمة وتوفيق وفضل من الباري - سبحانه - [5].

 

 4- استشعار حقيقة الدنيا والآخرة والنظر في النصوص الكثيرة من قرآن وسنة التي تزهد في الدنيا، وتخبر بمصيرها وقلتها وانقطاعها وسرعة فنائها وشدة فتنتها من جهة، وتُرغّب في الآخرة وتخبر بشرفها ودوامها ومن ذلك قوله - تعالى -: (قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى) [النساء: 77]، وقوله - عز وجل -: (بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى) [الأعلى: 16، 17]، وقوله - سبحانه -: (ما عندكم ينفذ وما عند الله باق) [النحل: 96]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) [6]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم) [7].

قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -بعد كلام له جميل حول هذا الموضوع: »...فإذا أراد الله بعبد خيراً أقام في قلبه شاهداً يعاين به حقيقة الدنيا والآخرة، ويؤثر منهما ما هو أولى بالإيثار « [8].

 

 5- إدراك أن الدنيا لا يقوم عليها ميزان التفاضل في الدار الآخرة، بل ذلك يقوم على التقوى فمن أكرمه الله وفقه لطاعته والإيمان به ومحبته ومعرفته والدعوة إليه وتحمل الأذى في سبيله، ومن أهانه سلبه ذلك قال يحيى بن معاذ - رحمه الله -: » لا يوزن غداً الفقر والغنى وإنما يوزن الصبر والشكر « [9]، وقال ابن القيم - رحمه الله - ناقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية: » ولا يقع التفاضل بالغنى والفقر بل بالتقوى، فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة « [10].

 وبالتالي فلا غضاضة على العبد أن يكون فقيراً في هذه الدنيا إذا كان الفقر لا يعني دناءة المنزلة عند الله - عز وجل -، بل إن لله أولياء من خلقه شعثاً غبراً مدفوعين في الأبواب كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رب أشعث مدفوعاً في الأبواب لو أقسم على الله لأبره) [11]، وكما قال - صلى الله عليه وسلم - للصحابة حين مر رجل من أشراف الناس فقالوا: هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، ومر رجل من فقراء المسلمين فقالوا هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله فقال - صلى الله عليه وسلم - (هذا خير من ملء الأرض من هذا) [12].

 

6- حتى تكون راضياً مطمئناً:

 من أجل أن يخفف الداعية عن نفسه القلق الناتج عن المعاناة من قلة ذات اليد، وينقلب توتره وضجره إن كان موجوداً إلى هدوء واطمئنان ورضا، عليه التأمل فيما يأتي: 

*النظر في حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما ورد في سيرته » حيث توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير « [13]، وكان –صلى الله عليه وسلم- » يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه « [14]، وتوفي –صلى الله عليه وسلم- » وما شبع ثلاثة أيام تباعاً من خبز حنطة « [15]، » وكانت تمر عليه ثلاثة أهلّة في شهرين دون أن يوقد في بيته نار، إنما طعامهم الأسودان التمر والماء « [16]، وكان - صلى الله عليه وسلم - يأكل ومن معه في صدر الإسلام ورق الشجر كما قال عتبة بن غزوان: (لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما طعامنا إلا ورق الحُبلَة حتى قرحت أشداقنا) [17]، إلى غير ذلك من الصور الكثيرة التي نقلها لنا مَن دَوّنَ سيرته - صلى الله عليه وسلم - وسير صحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، على الداعية الحق أن ينظر في ذلك، ويتذكر أنه ليس الوحيد الذي يسير في قافلة الدعوة، ويعاني من قلة ذات اليد، فهذا قائدها - صلى الله عليه وسلم - وكبار أعلامها قد عانوا ما يعاني وله بهم أسوة كما قال - تعالى -: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) [الأحزاب: 21].

  *عليه أن ينظر إلى من حوله من إخوانه، الذين هم أكثر فاقة وأشد معاناة ويرى عظم مصيبتهم وضخامة حاجتهم، فيواسي نفسه بمقارنة مصيبته بمصيبتهم، وخفة حاجته عند عظيم فاقتهم، فيحمد الله على التخفيف والرحمة بأن لم يبتله كما ابتلاهم، ولم يمتحنه كما امتحنهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه) وفي رواية (فهو أجدر ألا تزدروا نعمة من الله عليكم) [18].

 *وعليه أن ينظر إلى نفسه بشمول في وقته السابق واللاحق، وسيجد عند ذلك عظم نعم الله - تعالى -عليه في سائر أحواله الماضية والحاضرة، وأن الله - عز وجل - إن كان قد منعه في وقت فقد أعطاه في أوقات، وإن كان قد حرمه في جانب فقد منحه الشيء الكثير في جوانب أخرى، وعليه أن يقوم بتعداد نعم الله، وسيجد أن لا قدرة له على حصرها وتقصيها ليعلم عند ذلك مدى كفرانه بنعم الله، وجحوده بها من جهة، وواسع رحمة الله ولطفه وعظم تجاوزه عنه ومغفرته من جهة أخرى، قال - تعالى -: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار) [ابراهيم: 34] وقال - عز وجل -: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم) [النحل: 18]، مع أنه ليس للعبد من ذاته في الحقيقة سوى العدم وكل ما فيه وله من خير فهو محض جود الله - تعالى -وإحسانه.

 *عليه التأمل في حال أصحاب الأموال الذين لم يرد الله لهم خيراً، وجعل ما آتاهم من رزق سبب شقاوتهم في الدنيا، فلا هم يهنأون بعيش ولا يشعرون بطمأنينة واستقرار أو بسكينة وهدوء بال، بل قد يُودي ببعضهم إلى قتل النفس والانتحار، وسبب شقاوة بعضهم في الآخرة حيث قادهم إلى الكفر بالله والجحود، وبالتالي قادهم إلى النار كقارون الذي آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، فطغى وتجبر وجحد وقال إنما أوتيته على علم عندي، فكانت عاقبته كما قال - تعالى -(فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين) [القصص: 81].

 

 7- العلم بأن الفقر بلاء عام بين الخلق يبلتي به الله - تعالى -من شاء من عباده الدعاة وغيرهم ولا علاقة لوجوده بالاشتغال بالدعوة إلى الله - تعالى -والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالتالي فإن التذرع عن ترك الاشتغال بالدعوة وحمل هم هذا الدين بطلب الرزق والسعي إلى كسب المال خطأ فاحش إذ لا علاقة لهذا العمل الجليل بوجود الفقر، بل إن الأمر على العكس من ذلك، فإن القيام بطاعة الله - تعالى -وتقواه من خلال نشر هذا الدين بين الناس ومحاربة الكفر والبدع والمعاصي في الأمة، من أعظم أسباب جلب الرزق كما قال - تعالى -: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب) [الطلاق: 23].

 مع أن تارك السير في قافلة الدعوة لأجل ذلك أضاف إلى معاناته من الفقر وعدم سلوك الأسباب الجالبة للرزق حرمان نفسه من الأجر والثواب عند الله - تعالى -وما عنده خير وأبقى وقيامه بتعريضها للعقوبة لعدم قيامه بزكاة العلم الذي آتاه الله إياه، وتتمثل بنشره بين الناس وتعليمهم إياه.

 

 8- أن يعلم أن الخير له فيما اختاره الله - عز وجل -، وأن الفقر قد يكون هو الخير له لأن من عباد الله أناساً من لو أغناهم لحملهم ذلك على البغي والطغيان والكفر بالرحمن والتجبر على الخلان أشراً منهم وبطراً، كما قال - تعالى -: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير) [الشورى: 27]، قال العلامة ابن سعدي مفسراً لهذه الآية: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) أي لغفلوا عن طاعته وأقبلوا على التمتع بشهوات الدنيا، فأوجبت لهم الانكباب على ما تشتهيه نفوسهم ولو كان معصية وظلماً » ولكن ينزل بقدر ما يشاء « بحسب ما اقتضاه لطفه وحكمته » إنه بعباده خبير بصير «، كما في بعض الآثار أن الله - تعالى -يقول: » إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك... «) [19].

 

 9- الحذر من القيام بالتعرض للآخرين للحاجة والتنبه إلى عدم طرق أبواب المسألة، والعلم بأن ذلك وإن جاز لأناس رخص لهم الشارع بذلك، فإنه مما لا ينبغي للدعاة سلوكه بحال لأن سبيلهم التعفف والتجمل وعدم إظهار الشكوى والفقر، بل ستره وكتمانه اتصافاً بقوله - تعالى -: (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) [البقرة: 273]، ورجاء تحقيق الامتثال لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله) [20].

 

 10- ليعلم الداعية الذي هذا حاله أن ما سبق بيانه ليست بدعوة إلى ترك العمل، وتعطيل أسباب تحصيل الرزق، فإن ذلك في الحقيقة نقص في العقل وجهل بالشرع ومخالفة له، كما قال - تعالى -آمراً بالأخذ بالأسباب مع عدم الركون إليها: (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه) [الملك: 15].

 

 بل إن تعريض الإنسان نفسه للفقر مع قدرته على الكسب غير اقتراف الإثم له آفات ومفاسد كثيرة منها:

  *تعلق القلب بما يقيم أوده ويعيشه وما هو محتاج إليه في هذه الدنيا، فيبقى في تفكير عميق ومجاهدة شديدة مع نفسه لترك حظه منها وهذا من قلة الفقه وعدم الرشد، والعاقل في تعامله مع نفسه من يقوم بإعطائها حقها ويطالبها بما عليها، وهذه هي طريقة وهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في قول سلمان الفارسي لأبي الدرداء والذي صدّقه فيه - صلى الله عليه وسلم -: » إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه « [21].

وعلى العبد القادر على الكسب أن يستبدل مجاهدته لنفسه في شهوة مباحة مجاهدته لأعداء الله وشرعه من شياطين الجن والإنس، وأن يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله على بصيرة.

 *تطلع النفس إلى ما في أيدي الناس، وتعريضها للحاجة والسؤال إذا مسته الحاجة إلى المال.

ولا شك أن استدامة طلب الرزق الحلال لمن هذه حاله أنفع له من ترك ذلك.

 *مع التسليم جدلاً بأن من هذه حالته سيقطع تعلق قلبه بحاجات نفسه ويقوم بمنع نفسه من المسألة، فإنه يخشى عليه أن يداخله من الكبر والعجب والزهو والغرور ما يفسد عليه قلبه ويمرضه إن لم يميته، وتلك والله القاصمة [22].

 

 كما أن هذه الأسطر ليست دعوة إلى الإعراض عن نعم الله المتيسرة من الحلال ونبذها وإضاعتها، لأن تلك النعم في نظر الأخيار عوناً على الإيمان والعمل الصالح، ولكنها نداء إلى استصغار الدنيا ومحو آثارها من القلب، والسعي إلى عدم تعلقه بها وحرصه عليها واشتغاله بأجمعه بها حتى يصل إلى مرحلة عدم الفرح بموجود فيها وعدم الأسف على مفقود منها كما قال - تعالى -: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) [الحديد: 23].

 إنها دعوة إلى أن يربي العبد نفسه على غنى النفس، وأن يكبح جماحها ويقوم بتهذيبها حتى تصل إلى مرحلة القناعة بأنه لن يفوتها شيء من الرزق قسمه الله - تعالى -لها في الأزل، وأن يقوم بتوطينها على الرضا باليسير حتى يصل بها إلى درجة الاستغناء عن الخلق، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس) [23].

 

 11- ومع الدعوة إلى طرق أسباب الرزق الحلال من تجارة وزراعة وصناعة...الخ، فإنه لابد من التذكير بأن العبد لا ينبغي له ترك ما بيّنَه الشرع من أمور جالبة للرزق ومنها:

  *التقوى كما في قوله - تعالى -: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب).

 *الاستغفار كما في قوله - تعالى -: (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمدكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) [نوح: 10-12].

 *الإنفاق والصدقة كما في قوله - تعالى -: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين) [سبأ: 39]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما نقصت صدقة من مال) [24]، وقوله - تعالى -في الحديث القدسي: (يا ابن آدم أنفق أنفق عليك) (43).

  *الشكر للنعم وعدم كفرانها كما قال - تعالى -: (لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) [ابراهيم: 7].

 *الاستغناء عن الخلق والتعفف عما في أيديهم كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله) [20].

 *صلة الرحم كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في عمره فليصل رحمه »[25].

 *الدعاء كما قال - تعالى -: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) [غافر: 60]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يرد القضاء إلا الدعاء) [26].

 

 نداء إلى الأغنياء:

 1- لابد للأغنياء من إدراك خطورة الفقر حيث إنه كما قيل قرين الكفر، وأن خطورته تزداد على الدعاة إلى الله - عز وجل -، والعلم بأنه من شدة خطورته كان - صلى الله عليه وسلم - يدعو الله - تعالى -بأن يغنيه منه ويستعيذ بالله من فتنته كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - (اقض عنا الدين وأغننا من الفقر) [27]، وقوله: (اللهم فإني أعوذ بك...

ومن شر فتنة الفقر) [28].

 ولذا كان لابد لمن يسر الله - تعالى -عليه من الدعاة وكذلك الموسرين الصالحين أن يتفقدوا حال إخوانهم فإن لهم عليهم حقاً، وما لم يصل الأمر إلى ذلك فإن الأخوة لن تنعقد في الحقيقة والموجود منها مجرد مخالطة ليس إلا، لا حقيقة لها في العقل والدين [29]، وليعلم الموسرون بأن لهم بالأنصار من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأسوة الحسنة حيث واسوا إخوانهم من المهاجرين وقاسموهم الأموال.

 

 2- وأن يتذكروا أيضاً ما جاء من نصوص في الأمر بالإنفاق وبيان فضله والتحذير من عدمه، ومن ذلك قوله - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون) [البقرة: 254]، وقوله - سبحانه -: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مَنَّاً ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [البقرة: 262]، وقوله - عز وجل -: (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) [البقرة: 272]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت؟ ) [30]، وفي رواية (وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس) [31]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيراً فنفخ فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيراً) [32]، وقوله - عليه الصلاة والسلام -: (ما تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربوا في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربى أحدكم فُلوَه أو فصيله) [33].

 ولا شك أن الصدقة على الإخوان أفضل من الصدقة على الفقراء كما قال علي - رضي الله عنه – \"لعشرون درهماً أعطيها أخي في الله أحب إليّ من أن أتصدق مئة درهم على المساكين \" [34].

 

 3 -ولا يكفي تفقد الإخوان والإنفاق على المحتاج منهم فحسب، بل لابد من سلوك أفضل السبل لإيصال ذلك إليهم بما يحفظ لهم ماء وجوههم ويصونهم من الذل والمهانة أمام إخوانهم المنفقين، وبما يمنع من تسليط الآخرين ألسنتهم الحداد عليهم أو غيبتهم أو سوء الظن بهم، وبما لا يساعد المعوزين على ترك الحياء أو التشجع على طرق أبواب المسألة والخروج عن هيئة التعفف والاستغناء عن الآخرين.

 وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) البخاري مع الفتح 7/371 ج 4015.

(2) انظر الظلال 1/145.

(3) انظر موعظة المؤمنين 2/336.

(4) المسند 5/185 وصححه األباني في رياض الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم 1/109.

(5) انظر موعظة المؤمنين 2/336.

(6) الترمذي 4/560 ح 2320 وصححه الألباني في صحيح الجامع 5292.

(7) الترمذي 4/561 ح 2322 وحسنه الألباني في صحيح الجامع 3414.

(8) تهذيب مدارج السالكين 283.

(9) المصدر السابق 271.

(10) المصدر نفسه.

(11) مسلم 4/2024 ح 2622.

(12) البخاري مع الفتح 11/278 ح 6447.

(13) البخاري مع الفتح 6/116 ح 2916.

(14) مسلم 4/2285 ح 2978.

(15) مسلم 4/2284 ح 2976.

(16) مسلم 4/2283 ح 2976.

(17) مسلم 4/2279 ح 2972.

(18) مسلم 4/2275 ح 2963.

(19) تفسير العلامة ابن سعدي 6/616.

(20) البخاري مع الفتح 3/345 ح 1427.

(21) البخاري مع الفتح 4/236 ح 1968.

(22) انظر تهذيب مدارج السالكين 472، 473.

(23) المسند تحقيق الشيخ أحمد شاكر 15/228 ح 8081 وقال المحقق في إسناده ضعف ولكن يكون صحيحاً بغيره.

(24) مسلم 4/2001 ح 2588.

(25) البخاري مع الفتح 10/429، ح 5986.

(26) الترمذي 4/448 ح 2139 وصححه الألباني في صحيح الجامع ح 7687.

(27) مسلم 4/2084 ح 2713.

(28) مسلم 4/2078 ح 2705.

(29) انظر موعظة المؤمنين 1/139.

(30) مسلم 4/2273 ح 2958.

(31) مسلم 4/2273 ح 2959.

(32) مسلم 2/688 ح 991.

(33) مسلم 2/702 ح 1014.

(34) موعظة المؤمنين 1/139.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply