مراحل دعوة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 ذكر القرآن الكريم لدعوة إبراهيم - عليه السلام - ثلاث مراحل، نوجزها فيما يلي:

 المرحلة الأولى: دعوته لأبيه، وقد صورتها أبلغ تصوير آيات سورة مريم حيث يقول الله - جل وعلا - (واذكُر فِي الكِتَابِ إبرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياً (41) إذ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعبُدُ مَا لا يَسمَعُ ولا يُبصِرُ ولا يُغنِي عَنكَ شَيئاً (42) يَا أَبَتِ إنِّي قَد جَاءَنِي مِنَ العِلمِ مَا لَم يَأتِكَ فَاتَّبِعنِي أَهدِكَ صِرَاطاً سَوِياً (43) يَا أَبَتِ لا تَعبُدِ الشَّيطَانَ إنَّ الشَّيطَانَ كَانَ لِلرَّحمَنِ عَصِياً (44) يَا أَبَتِ إنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيطَانِ ولِياً (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَن آلِهَتِي يَا إبرَاهِيمُ لَئِن لَّم تَنتَهِ لأَرجُمَنَّكَ واهجُرنِي مَلِياً (46) قَالَ سَلامٌ عَلَيكَ سَأَستَغفِرُ لَكَ رَبِّي إنَّهُ كَانَ بِي حَفِياً (47) وأَعتَزِلُكُم ومَا تَدعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وأَدعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِياً) [مريم41 / 48].

 

 لقد كانت كلمات إبراهيم تفيض حناناً وشفقة وتتدفق عطفاً ورقة، فبيّن لأبيه أن ما يعبده فاقد لأوصاف الربوبية من السمع والبصر فضلاً عن الخلق فكيف يضر أو ينفع ثم أردف ذلك ببيان ما قد أوتيه من علم وحكمة وأن دعوته فد بنيت عليهما ففى اتباعه سلوك الصراط السوي، ثم حذره من عدو البشرية الذي تلبس بمعصية الرحمن فهو جدير بأن يتخذ عدواً وأن لا يطاع بل يعصى، ثم أعلمه بشدة خوفه عليه من أن يمسه مجرد مس عذاب من الرحمن فيكون ولياً للشيطان، وأمام هذه الدعوة الحانية الرفيقة المتزنة نسمع عبارات الأب الفجة الغليظة التي تمثل صورة التقليد الأعمى وإغلاق القلب عن النظر والتأمل، ومع ذلك كله فإن الابن البار لم يواجه تلك السيئة إلا بالتي هي أحسن (سلام عليك) كحال عباد الرحمن الذين إذا خاطبهم الجاهلون قالوا: (سلاماً) بل وعد بالاستغفار لأبيه، وذلك قبل أن يتبين له أنه عدو لله (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوُّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنهُ) ثم قرر اعتزاله ليراجع الأب نفسه، ولينأى إبراهيم بنفسه عن الشر ومواطنه، وكانت رحمة الله لإبراهيم أن عوضه بأبناء صالحين بررة عن أولئك القوم الفجرة.

 

المرحلة الثانية: دعوته لقومه.

بعد أن دعا إبراهيم أباه لقربه توجه بالدعوة إلى قومه، وكانوا فيما قبل قسمان، منهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الكواكب، وقيل: إنهم كانوا يعبدون الكواكب ويصورون أصناماً على صورها يعبدونها ويعكفون عليها، وعلى أي، فقد أبطل كلا المعبودين بالأدلة القطعية وبين وهاء ما هم عليه من العبادة، وبدأهم بالدعوة إلى توحيد الله بالعبادة وتقواه وبين لهم أن ما يعبدون ما هو إلا إفك مفترى، وأنها لا تملك لهم رزقاً فليعبدوا من يملك رزقهم، ثم أخبرهم بأنه مبلغ لا يستطيع هدايتهم إلا بإذن الله، ولفت أنظارهم إلى أن مصيرهم إن لم يستجيبوا للدعوة مصير أمثالهم فقد سبقهم على ذلك أمم ولحقهم من ربهم من النكال والعذاب ما لا يخفي عليهم، قال - تعالى -(إبرَاهِيمَ إذ قَالَ لِقَومِهِ اعبُدُوا اللَّهَ واتَّقُوهُ ذَلِكُم خَيرٌ لَّكُم إن كُنتُم تَعلَمُونَ * إنَّمَا تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوثَاناً وتَخلُقُونَ إفكاً إنَّ الَذِينَ تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَملِكُونَ لَكُم رِزقاً فَابتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزقَ واعبُدُوهُ واشكُرُوا لَهُ إلَيهِ تُرجَعُونَ * وإن تُكَذِّبُوا فَقَد كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبلِكُم ومَا عَلَى الرَّسُولِ إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ) [العنكبوت: 16-18].

 

 - ولقد سلك إبراهيم في إقناع قومه مسلك المساءلة عن جدوى أصنامهم، هل تنفع أو تضر أو تسمع الدعاء، فما وجد إلا التبعية العمياء (واتلُ عَلَيهِم نَبَأَ إبرَاهِيمَ * إذ قَالَ لأَبِيهِ وقَومِهِ مَا تَعبُدُونَ * قَالُوا نَعبُدُ أَصنَاماً فَنَظَلٌّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَل يَسمَعُونَكُم إذ تَدعُونَ * أَو يَنفَعُونَكُم أَو يَضُرٌّونَ * قَالُوا بَل وجَدنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفعَلُونَ) فما كان من إبراهيم إلا أن أعلن البراءة مما هم عليه، وأوضح سبب ذلك وسبب قصره العبادة على الله (قَالَ أَفَرَأَيتُم مَّا كُنتُم تَعبُدُونَ * أَنتُم وآبَاؤُكُمُ الأَقدَمُونَ * فَإنَّهُم عَدُوُّ لِّي إلاَّ رَبَّ العَالَمِينَ * الَذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهدِينِ * والَّذِي هُوَ يُطعِمُنِي ويَسقِينِ * وإذَا مَرِضتُ فَهُوَ يَشفِينِ… الآيات) [الشعراء: 69 -80].

 - وبدأ القوم يراوغون فيما عرضه عليهم إبراهيم إلا أنه ما كان من إبراهيم إلا إعلان النكير، وبيان الحق فعلاً لا قولاً فحسب ودخل بهذا مرحلة خطرة من مراحل إقناع القوم بعدم جدوى أصنامهم وفي هذا يقول الله - تعالى -(ولَقَد آتَينَا إبرَاهِيمَ رُشدَهُ مِن قَبلُ وكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إذ قَالَ لأَبِيهِ وقَومِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُم لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وجَدنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَد كُنتُم أَنتُم وآبَاؤُكُم فِي ضَلالٍ, مٌّبِينٍ, * قَالُوا أَجِئتَنَا بِالحَقِّ أَم أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ * قَالَ بَل رَّبٌّكُم رَبٌّ السَّمَوَاتِ والأَرضِ الَذِي فَطَرَهُنَّ وأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) [للأنبياء: 51-56]

 

ولم يكتف القوم بهذه المراوغة مع إبراهيم بل دعوه للخروج معهم إلي عيد من أعيادهم ولكنه اعتذر عن الخروج بتورية (فَنَظَرَ نَظرَةً فِي النٌّجُومِ * فَقَالَ إنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوا عَنهُ مُدبِرِينَ) [الصافات: 88-90] وقال عند ذلك (وتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصنَامَكُم بَعدَ أَن تُوَلٌّوا مُدبِرِينَ) فسمعها بعض القوم، وبادر إبراهيم (فَجَعَلَهُم جُذَاذاً إلاَّ كَبِيراً لَّهُم لَعَلَّهُم إلَيهِ يَرجِعُونَ * قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعنَا فَتًى يَذكُرُهُم يُقَالُ لَهُ إبرَاهِيمُ * قَالُوا فَأتُوا بِهِ عَلَى أَعيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُم يَشهَدُونَ * قَالُوا أَأَنتَ فَعَلتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إبرَاهِيمُ * قَالَ بَل فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا فَاسأَلُوهُم إن كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إلَى أَنفُسِهِم فَقَالُوا إنَّكُم أَنتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِم لَقَد عَلِمتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ)

 

لقد ورطهم إبراهيم في هذه الإجابة وهذا ما كان يريده ليندفع بكل قوة مخاطبا عقولهم إن كانت لهم عقول: (قَالَ أَفَتَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُم شَيئاً ولا يَضُرٌّكُم * أُفٍ,ّ لَّكُم ولِمَا تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعقِلُونَ) وهنا لم يجد القوم بدا من تدبير المؤامرة عليه والتخلص منه (قَالُوا حَرِّقُوهُ وانصُرُوا آلِهَتَكُم إن كُنتُم فَاعِلِينَ * قُلنَا يَا نَارُ كُونِي بَرداً وسَلاماً عَلَى إبرَاهِيمَ * وأَرَادُوا بِهِ كَيداً فَجَعَلنَاهُمُ الأَخسَرِينَ) [الأنبياء: 51-70].

 أما عبادتهم للكواكب فقد سلك في دحض تعلقهم بها سبيل المناظرة وذلك فيما حكاه الله عنهم في سورة الأنعام، وسيأتي إن شاء الله تفصيل ذلك في رسائل إبراهيم العملية.

 

 المرحلة الثالثة: دعوته للملك، حين ناظره في ربه وذلك فيما حكاه الله - تعالى -عنهم في سورة البقرة فقال: (أَلَم تَرَ إلَى الَذِي حَاجَّ إبرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَن آتَاهُ اللَّهُ المُلكَ إذ قَالَ إبرَاهِيمُ:...) وتفصيل ما وقع فيها آت بإذن الله في الوسائل، وهذه المناظرة كانت فيما يظهر بعد نجاة الخليل من النار كما ذكره السدي ويدل عليه: أن العادة جارية بأن الأنبياء يبدأون بتكوين قاعدة شعبية حتى يكون للدعوة ثقل ثم يلتفتون إلى القيادة ليدعوها، وأيضاً، فمن عادة خصوم الدعوة ملاحقة الداعية وإحراجه ليفضح أمام الناس خصوصاً وأن إبراهيم بعد نجاته من النار بمعجزة التفتت إليه الأنظار وتعجب الناس من ربه الذي نجاه فبادر الملك إلى مناظرته ليوقعه في الحرج ظنا منه أن إبراهيم قد ينهزم في المناظرة، وما علم أنه المؤيد من عند الله وهو سيد المناظرين، ومنظرهم الأكبر، والمجادل عن حوزة التوحيد وحمى الملة بكل ألوان الجدل.

 - ولا نستطيع الجزم بأن هذه المناظرة كانت بعد النجاة لكنه الذي يظهر من خلال ما تقدم من الأدلة والله أعلم.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 4 )

عرض ممتاز

-

مريوم أيوب

21:45:29 2022-01-04

جزاكم الله خيرا ، عرض ممتاز و مفيد جدا

سبحان الله

20:50:51 2020-06-20

جزاكم الله خيراً ووفقكم الله في خدمة هذا الدين

الحمد الله..

-

عبير

21:17:05 2019-02-04

ممتاز

ما شاء الله

14:00:07 2017-09-19

ما شاء الله