طريق الالتزام


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

لا ريب أن كل غيور شفيق على هذه الأمة، يعتمل في قلبه حسرة وألم مما آل إليه حال أبناء الإسلام من التخبط و الفوضى والعبث والتحزب والشقاق والنفرة، وما أصابهم من تشاحن وتنازع وتناطح، ناهيك عن الانهزامية وضعف اليقين، وزلة الأقدام بعد ثبوتها..

واقع مر... لكنه كائن بلا شك ولامحيص من الاعتراف بوجوده..

واقع اليم يفت القلب حزناً وندامة..

لكن ما لسبيل إلى التغيير؟

إن جلالة الخطب كثيرا ما تُلهى المصاب عن التفكُر في عواقب الأمور، وتَصرِفُهُ عن تَبَصٌّر أفضل طرائق العمل و السلوك، ومع قلة المعين، ودبيب داء الأمم السابقة في القلوب، تجعل الواحد منَّا في حيرة، في ظل هذا الظلام الدامس..

قَلَّتِ الأيادي الممسكة بالزِّمَام، ضَعُف الخِطام، وسَهُلَ شرود الراحلة وشُمُوسُها، بل انحرافُ القافلة وضلالُها..

لذلك لابد من بيان ((معالم الطريق))، وها هنا مقدمتان لابد من بيانهما قبل الشروع في المقصود:

أما المقدمة الأولى: فهي استشعار خطورة هذه المرحلة العصيبة التي تمر بها الأمة في الوقت الراهن، وأن هذه المرحلة تستتبع يقظة وتحفزا وانتهازا للفرص، وأن هذا الوضع يملى علينا شباب الصحوة المزيد من العمل و الحركة لبلوغ أهدافنا وغايتنا.

أما المقدمة الثانية: فإن الأمة اليوم- رغم هذه التحديات الصعبة- فيها من أسباب القوة وإمكانيات النصر ما يؤهلها لطي صفحات الذلة والصغار، ولكنَّ قيماً غالية، ومعاني سامية قد تبدلت وتغيرت فنحتاج إلى إزالة هذا الركام من غبار الانحراف عن الجادة.

نحن في حاجة إلى قَلبٍ, هَصُورٍ,، وعَزمٍ, جَسُور، وهِمَّة لا تَخُور، وطُمُوح إلى معالي الأمور، وصاحب تلك الخصال لابد أن يكون صاحب تصور واضح لحال الأمة وواقعها وما يجب عليها القيام به، وما يجب عليه تجاه أمته، فالفرد إذا كان كالأمة، كانت الأمة كالفرد في تماسكها والتئام شملها.

لقد اندفع كثير من المسلمين إلى محاولة تغيير هذا الواقع المؤلم عن طريق المواجهة المرتجلة بأنواعها، وافتقدت كثير من هذه المحاولات الضوابط الشرعية التي ينبغي أن تراعى، وخلت من الحكمة و العلم.. فكانت الأمة مع موعد جديد مع مصائب وبلايا لا تخفى لكل ذي عينين!

وكان أن نفرَ من الأمة فرقة تدعو إلى الرجوع إلى الموازين الشرعية المتفق عليها عند عامة أهل العلم من لدن بعثة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا، إلى التحاكم إلى الكتاب و السنة، إلى التقيد بفهم سلف هذه الأمة، إلى بعث الأمة من جديد من خلال منهاج النبوة، الذي يرتكز على دعائم هي: الدعوة إلى التوحيد أولا، واتباع هدى النبي المصطفى والتزام خطاه وغرسه، وتزكية الأنفس المؤمنة، وتربية أبناء الإسلام وتنقية قلوبهم من شوائب الجاهلية، كما ربى النبي - صلى الله عليه وسلم - جيل الصحابة.

فجاء المخذلون يقولون: هؤلاء لا يفقهون واقعاً، ولا يهتدون إلى الحقيقة سبيلاً!

وجاء الغلاة جزعين يقولون: بعدت علينا الشُقة، طريق وعر طويل، وكل بعيد لا ينال كسراب بقيعة!

فإذا قيل لهم: داووا المريض قبل التكليف، وعلموا العابر السباحة قبل المخاضة، واعدوا المقاتل قبل المبارزة. أعرضوا وناءوا بجانبهم وقالوا: هذا - لعمر الله - ليس بالهين ولا باليسير!

وترى آخرين اهتموا بجزيئات، وتركوا الأصول والقواعد..

ولما قيل لهم: الدين كلٌ واحد{ادخُلُوا فِي السِّلمِ كَافَّةً} قالوا: لست بفقيه مستبصر!

إخوتاه:

إنَّ أمراض المسلمين قد نخرت عظامهم، وأوهت قواهم، وجعلتهم لا يلوون على شيء إلا بحبل من الله وبقية توحيد في صدورهم، ودعاء النبي لهم أن لا يهلكهم الله بسنة عامة، وأن لا تُستباح بيضتهم.

وإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ التغيير يبدأ من الذات، من الداخل، فقد مضت كلمة الله القاطعة {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ, حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم} وهذا يعنى: ضرورة تشخيص أدواء وآفات النفوس ثمَّ يستتبع هذا التشخيص الاستشفاء بعلاج الطبيب ثمَّ يجب الالتزام بمفردات الدواء.

ولست أريد حديثاً أجوفاً ذا عبارات رنانة، وشعارات طنانة، ويكون هذا بيت القصيد ونهاية الخطب، بل نريد تشخيصاً دقيقاً، ينبني عليه علاج عملي واقعي، نتكاتف جميعاً على تنفيذه.

نريد برنامجاً تربوياً محدداً لترشيد الصحوة اليوم، ولعلاج الآفات التي أجهضت جهود الدعاة على مدى نحو نصف قرن من الزمان، دون أن يتبدل الحال، بل صار شباب اليوم مفتقدين للمنهاج، و الإحساس المفعم بالإيمان بقضية الإسلام، فآل الأمر إلى ما ترون..

فدعونا نرسم طريق الالتزام دعونا نرسم طريق الالتزام وقد استجلينا الماضي وسبرنا الواقع..

سائلين الله الهداية إلى الصراط المستقيم، وأن يبارك في هذا الجهد حتى يعم نفعه القاصي و الداني، إنه ولي ذلك و القادر عليه.

أول هذه الخطوات:

السؤال عن (الدوافع إلى سلوك سبيل الالتزام)

قال الله - تعالى -: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعبُدُوا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ }

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \" إنما الأعمال بالنيات إنما لكل امرئ ما نوى، مَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه\"

إنها ((قضية الإخلاص))، قضية توحيد القصد، وهى أساس كل توجه أو عمل فإذا صلحت النوايا وحسنت الأعمال فاقتفت آثار النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، كان هذا كفيلاً بتحقق النصرة و التمكين، ومتى ما اختل شرط من هذه الشروط فإنه ضياع الجهود هباءً، و التحسر رثاءً، والاندحار جزاءً.

فعلينا أن ننظر في الدوافع ونتهم نوايانا لنتعاهد على التصحيح و الإصلاح.

أمامنا أنماط واقعية مرضية تمثل جانباً سلبياً تجيبنا عن هذا التساؤل الحائر: لماذا.. ؟

لماذا الالتزام؟!!

(1) فهناك ما يمكن تسميته بــ (الالتزام المصلحي) أو (النفعي)!

فهذا شخص قد التزم للوصول إلى مكانة اجتماعية مرموقة، أو لتحقيق أهداف دنيوية شخصية، مستغلاً احترام النَّاس للدين.. والله يقول: {مِنكُم مَن يُرِيدُ الدٌّنيَا وَمِنكُم مَن يُرِيدُ الآَخِرَةَ}

(2) وهناك ما يسمَّى بــ (الالتزام التفاعلي) (رد الفعل)!

فهذا آخر ظلَّ حياته بعيداً عن الدين يلهو ويلعب، ويأخذ من متاع الدنيا وملذاتها، بصرف النظر عن الحلال و الحرام، وفجأة نتيجة تعرضه لموقف معين أثر فيه، كموت قريب أو صديق، أو أن تنزل به ضائقة شديدة لا يجد فيها ملجأ من الله إلا إليه، أو نحو ذلك من حوادث، تراه يلتزم..

وعادةً يتسم التزام هؤلاء بالعاطفة القوية و الحماس القلبي الزائد، وإن افتقدوا المنهجية و العلم، ومعرفة سبل الترقي، لأنَّه يوشك أن تبرد لهيب حماسه، وتفتر قوى عزيمته، فيستحسر، وقد ينتكس وينقلب على عقبيه..

(3) وهناك ما يطلق عليه (الالتزام الدفاعي)

فقد يكون الالتزام دفاعاً ضد الخوف أو القلق أو الشعور بالذنب أو تأنيب الضمير، أو ضد القهر والإحباط، فيلجأ إلى الدين ليخفف من هذه المشاعر ويتخلص منها.

فالذين يشعرون بالعجز في مواجهة متطلبات وضغوط الواقع يلجأون إلى الدين احتماءًا به من مواجهة الصعوبات، بهدف تغطية قصوره وعجزه من مواجهة الواقع.

وفي وقت من الأوقات شكك بعض الصحافيين في الصحوة الإسلامية، واتهم الملتزمين بأنهم التزموا هروباً من أوضاع اقتصادية متردية، وسمّاه (التزام الفقر).

(4) الالتزام (العادي)!

بمعنى أنه التزم كعادة اجتماعية تعودها، فتنحصر مظاهر الدين عنده في دائرة السلوك، بدون علم يوجهه، وبدون عاطفة دينية تعطي لهذا الالتزام معناه الروحي.

وخطورة هذا الصنف أنه يتصور الدين في صورة جزئية هي أداء بعض الشعائر، ولا ينتبه إلى شمولية الإسلام لكل نشاطات الإنسان.

(5) الالتزام (المعرفي)!

هذا الصنف التزم فكرياً فعرف الكثير والكثير من أحكام الدين..

ولكن..

هذه المعرفة توقفت عند الجانب العقلي فحسب، وهؤلاء صورهم خداعة، ربما تراه يُلقب بالمفكر الإسلامي، أو الكاتب الإسلامي المعروف، أو الداعية الذي يشار إليه بالبنان.. !

الإسلام على لسانه! وقضاياه مدونة بمداد دمه! ويشغل حيزاً ذهنياً كبيراً في عقله!

أما ما في الصدور..

فالله به عليم، لكنّ عمله يفضحه، ويدل على حقيقة أمره، لذلك كان شرط الإيمان أن يصدقه العمل، فاللهم استرنا بسترك الجميل، واجعل ما نقول وما نسمع حجة لنا لا علينا.

(6) الالتزام العاطفي!

وعادة يكون هذا النوع عند حديثي العهد بالدين وأحكامه..

تراهم وقد امتلأ الواحد منهم بعاطفة جياشة، لكن دون معرفة جيدة بأحكام الدين، ولا سلوك ملتزم بقواعده.

إذن..

ما الطريق إلى التخلص من هذه الآفات؟

إن الطريق إلى علاج هذه الحالات المرضية، وهذه الآفات هو:

(( الإخلاص ))

فلا تطلب بعبادتك لله حظاً فانياً، ولا يلتفت قلبك إلى مصلحة دنيوية إلا مصلحة الدار الآخرة

إنه كسر حظوظ النفس، وقطع الطمع في الدنيا والتجرد للآخرة حتى يغلب على القلب

 

** ومن المعينات على تحقيقه:

(1) التعلق في البدايات والنهايات به - سبحانه -، ومعرفته بأسمائه وصفاته، فهذا يضبط القصد ويمثل الحافز المستمر.

قال - تعالى -: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ, عَلِيمٌ}

فاستشعار عظمة الله وجلاله، واستحضار القلب لصفات كماله والتفكر في تدبيره وإحاطته ومراقبته {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, رَقِيبًا}، رقيباً عليه بسمعه وبصره.

(2) إدراك الأجر العظيم بتحقيقه، وخسارة الأجر بفقدانه، دون تحصيل منفعة تُذكر، ولا مصلحة تُعلم، فالرياء مُفسد لا مصلح، وضار غير نافع، واعلم أن قلب من ترائيه بيد من تعصيه.

قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: \"بشر هذه الأمة بالسناء والتمكين في البلاد، والنصر والرفعة في الدين، ومن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب\"

واقطع عن نفسك الطمع في ملذات الدنيا: بتعلق القلب بالله والرغبة فيما عنده، واعلم أن الممدوح حقاً من - رضي الله عنه - وأحبه، وإن ذمه الناس.

قال بعض السلف: (مذ عرفت الناس لم أفرح بمدحهم، ولم أحزن على ذمهمº فحامدهم مفرط، وذامهم مفرط! )

(3) غض الطرف عن غير الله - سبحانه -، وصرف تعلق القلب إلا به، وذلك بالنظر إلى الناس أنهم مخلوقون، فهم عاجزون، وكأنهم أموات لا ينفعون ولا يضرون، فعليك باليأس مما في أيدي الناس.

\"واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف\"

 

** أما علاماته:

 والتي تمثل لك الميزان الصحيح كي تدرك حقيقة نفسك:

(1) الزهادة في الدنيا..

 فمن كان غارقاً فيها، مفنياً عمره وأوقاته في طلبها، من صارت هي همه وشغله الشاغل، من صار لا يفطر إلا في البيت، والزوجة والأولاد والسيارة والمنصب والكرسي والراتب الكبير، فليراجع نفسه، فإن هذه الأشياء لا تطلب لذاتها، بل متى ما كانت وسيلة لبلوغ القصد - أعني رضا الله - تعالى - فيها ونعمت وإلا فهي نكال وعذاب. \" لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه\"

(2) التواضع ولين الجانب..

فمن يرى في نفسه علواً وترفعاً على إخوانه، وكان فظاً متمادياً في أخطائه، يستحي أن يرجع إلى الحق، وخاصاً إن رزق شيئاً من قشور العلم، فانتفش وانتفخ، وظن نفسه شيئاً، فليراجع دينه {تِلكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرضِ وَلَا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ}

(3) ترك حظ النفس من الانتقام لها..

فهذه الخلة لا يعرفها إلا الصالحون الذين يعاملون الله ولا يأبهون بشرور الناس، فلا يتشفون لأنفسهم.

(4) كبح جماح النفس..

كبحها عن طلب المكافأة علي المعروف، وضده: كف المعروف إذا أوذي فيه، أو لم يكافأ عليه، أي: من صنع معروفاً فلم يكافأ عليه، فحمله ذلك علي تركه، فليراجع إخلاصه..

فيا أيها الغيور على أمتك.. ها هو ذا الطريق مرسوم أمامك..

هذا هو السبيل إلى التغيير.. أن تبدأ بنفسك..

فاكتشف سبب التزامك..ثم عد إلى..

إلى الإخلاص

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله والحمد لله رب العالمين.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply