المحنة المنحة ( 3 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، ثم أما بعد:

فما زلنا نستلهم من سجن يوسف - عليه السلام - العظات والعبر، ولعله يحسن هنا سرد طرف من فوائد السجن، وبخاصة لأهل الخير والصلاح، الذين خاطب الله عز وجل إمامهم - صلى الله عليه وسلم -، فقال: \"أولئك الذين هدى فبهداهم اقتده\"، ولعل من جملة أولئك نبي الله يوسف، الذي انفرد عن جملة الأنبياء بنقل أخبار سجنه وأحواله في القرآن الكريم.

 

ولعل في سرد هذه المنح الإلهية المنبثقة من قلب المحنة تكون عزاء للمضطهدين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وتنبيه للغافلين منهم إلى ما هو فيه من خير، وتبصر بنعمة الله عليهم وهم في قيدهم.

 

إنه لا ينبغي للداعية الصادق المخلص أن يأسى أو يحزن على ما أصابه طالما كان سجنه ظلماً وجوراً، فما الذي يريده المصلح بدعوته غير رفعة درجاته وتعظيم حسناته، وهذا ما يناله في حال سجنه ظلماً وعدواناً، يرفع الله درجته ويعلي منزلته، ويكون سجنه خلوة وميداناً للعبادة والعلم ومراجعة النفس، وميداناً للتربية ومعرفة الناس في الرخاء والشدة.

 

لقد رأيت أناساً يقولون: لم نكن أصحاب قيام ليل، فلما دخلوا السجن توجهوا لقيام الليل فاستقام أمرهم عليه حتى بعد خروجهم منه.

فما الذي يريده المصلح بدعوته غير رفعة درجاته وتعظيم حسناته، وهذا ما يناله في حال سجنه ظلماً وعدواناً، يرفع الله درجته ويعلي منزلته.

 

وسمعت بعض من دخل السجن يقسم بالله أنه لم يكن يصوم إلا رمضان وبعض الأيام الفضائل كالست من شوال ويوم عرفة وعاشوراء، ولكنه في السجن دأب على الصوم الحثيث، حتى إن بعضهم كان يصوم طول السنة إلا خمسة أيام عيد الفطر والأضحى وثلاثة أيام التشريق، فناقشه بعض طلاب العلم خوفاً من أن يقع في صيام الدهر، فبدأ بعدها يفطر أياماً ويصوم أياماً، و\"من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بين وجهه وبين النار سبعين خريفاً\" أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -.

لقد رأيت أناساً دخلوا السجن لا يحفظون ثلاثة أجزاء من القرآن، فخرجوا وهم يحفظون القرآن.

السجن فرصة للخلوة، فرصة لتعويد النفس المواظبة على الأوراد والأذكار.

سمعت من درس العلم الشرعي أكثر من ستة عشر عاماً وقد سجن بضع سنوات يقول: إنه استفاد في خمس سنوات ما لم يستفده في دراسته الجامعية والدراسات العليا خلال الستة عشر عاماً لماذا؟

لأن نفوسهم منشرحة، مليئة بالغبطة، فدفعهم الفراغ إلى استثمار الأوقات والدقائق، يحفظون المتون، يقرأ بعضهم على بعض، يرشد بعضهم بعضاً.

وكذلك كما أن السجن فرصة لمعرفة العلوم فهو أيضاً فرصة لمعرفة الناس، فالناس في الرخاء لا تعرف صدق ودهم، لكن في الشدائد:

جزى الله الشدائد عني كل خير ***عرفت بها عدوي من صديقي

 

الشدائد تكشف معادن الرجال، وهذا باب واسع لا يعرفه إلا من جرّبه ومارسه، كم من إنسان كنت تتصور أنه سيقف معك حين الشدة، وعندما تحل بك المحنة إذا هو أول من يتخلّى عنك، فلا يكاد يقرؤك حتى السلام ولا يبعث به إليك، بينما تجد آخرين لم تكن تعرفهم تبلغهم محنتك أو سجنك فإذا هم يسارعون إليك، يقفون مع أهلك مواقف مشرفة، مع أنه لم يكن بينهم وبينك كبير ود ظاهر، فضلاً عن قرابة أو علاقة قبل ذلك.

فالإنسان في السجن يراجع نفسه، وينظر في مسيرته، ويتأمل طريقه، فينشد الكمال إن كان مصيباً، ويسد الخلل إن كان مقصراً، ويرجع إلى الصواب إن كان مخطئاً.

 فاختبار الرجال ومعرفتهم باب عظيم السجن أحد ميادينه.

والشاهد هنا أن السجن قد يكون باباً لخيرات كثيرة، ومن أعظمها مراجعة النفس، فالإنسان في السجن يراجع نفسه، وينظر في مسيرته، ويتأمل طريقه، فينشد الكمال إن كان مصيباً، ويسد الخلل إن كان مقصراً، ويرجع إلى الصواب إن كان مخطئاً.

 

كما أن على الداعية أو المصلح أن يكون مصلحاً في سجنه ليتم له الفضل، وليكتب له أجر ما حبس عنه من دعوة وإصلاحا مضاعفاً، فيوسف - عليه السلام - باشر الدعوة إلى الله داخل حبسه، واهتم بأمر التوحيد وقد ذكر الله تعالى قصته مع صاحبي السجن، فقال حكاية عنه: \"يَا صَاحِبَيِ السِّجنِ أَأَربَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ\" (يوسف: 39)، \"مَا تَعبُدُونَ مِن دُونِهِ\" (يوسف: من الآية40)، ثم بدأ يقرر عقيدة التوحيد، فالدعوة إلى الله وأخص الدعوة إلى التوحيد هي من جملة ما استفاده يوسف - عليه السلام - في سجنه، كما أن الإحسان إلى السجناء باب من أبواب الخير ولجه يوسف - عليه السلام -، فعندما طلب منه الفتيان تعبير الرؤيا قالا له: \"إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المُحسِنِينَ\" (يوسف: من الآية36)، هكذا يكون اقتناص الفرص، حتى السجن يحوله الداعية الحريص لمنبر من منابر الدعوة بسلوكة قبل كلامه، وبعلمه وحرصه على تبليغ دعوة الله.

 

وكلمة إنا نراك من المحسنين دليل على أنها سيرة مطردة عُرف بها يوسف وليست أمراً عابراً، فالإحسان إلى السجناء والوقوف معهم وتفقد شؤونهم له أثره العظيم على السجان وعلى المسجون وعلى أهلهم وأقاربهم.

 

ومن أبوب الخير التي ييسرها السجن، صِدق الالتجاء إلى الله، وهذا معنى ملاحظ في قصة سجن يوسف - عليه السلام -، ومن أبواب الخير التي يفتحها السجن الاعتراف للرب- تبارك وتعالى -بنعمه، وملاحظة ما لم يكن يلحظه الكثيرون حال النعيم والخلطة.

 

وأخيراً: من أبواب الخير التي يفتحها السجن تعويد المرء وتربيته على الصبر، وقد قال الله تعالى: \"إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب\"، ولهذا صبر يوسف - عليه السلام - صبراً عجيباً كانت عاقبته حميدة في الدارين، وقد صرح بذلك آخر المطاف، فقال لإخوانه: \"إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصبِر فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ\" (يوسف: من الآية90).

أسأل الله أن يكتب لنا ولكم من فيض فضله العميم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply