دور العلماء ورجال الحسبة في الانتصار العسكري والسياسي والحضاري


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

كلما ابتعد المجتمع الإسلامي عن الإيمان كلما بعد عن الأخلاق المنبثقة منه كالإنصاف وإنصاف الآخرين، وكلما بعد عن الإنصاف وإنصاف الآخرين، قرب من الانحطاط، وكلما قرب من الانحطاط ضربت عليه الذلة والمسكنة وارتفع عليه أعداؤه، وهذه صفة المجتمع اليهودي، لكن قد يحذو المجتمع المسلم حذو المجتمع اليهودي، كما قال I: [لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ من قَبلَكُم شِبرًا بِشِبرٍ, وَذِرَاعًا بِذِراعٍ, حَتَّى لَو سَلَكُوا جُحرَ ضَبٍّ, لَسَلَكتُمُوهُ قُلنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ اليَهودَ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَن لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جُحر ضبٍ, لدخلتموه] (1).

فقد وصف الله المجتمع اليهودي بالذل، وسبب ذلهم أنهم لم يؤمنوا الإيمان الذي يبعث على الإنصاف، فلم ينصفوا الأنبياء واعتدوا على اختصاصهم بالوحي، فقد قال الله عنهم: {ضُرِبَت عَلَيهِمُ الذِّلَّةُ أَينَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبلٍ, مِنَ اللَّهِ وَحَبلٍ, مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ, مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَت عَلَيهِمُ المَسكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُم كَانُوا يَكفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيرِ حَقٍّ, ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعتَدُونَ} [آل عمران: 112].

وبما أن العلماء ورثة الأنبياء فعدم إنصاف المجتمع المسلم لهم، والاعتداء على تخصصهم، والتضييق عليهم بهذا يكون المجتمع المسلم تشبه بالمجتمع اليهودي، وحذا حذوه، فمصيره كمصيره الذلة والمسكنة والتشتت، كما هو واقع المسلمين اليوم.

 ومما يدل على أن للمجتمع المسلم نصيباً من هذه الآية إ ذا فعلوا بورثة الأنبياء ما فعلته اليهود مع الأنبياء أن الله ذكر قبل هذه الآية (الخيرية) التي هي عكس (الذل والمسكنة والتشتت)، وشرط لتحقيقها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن المعلوم أن هذه من أكبر وظائف العلماء، كما أنها من أعظم مهام الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم -.

قد يقول شخص لديه نقص يقين في قوله - تعالى -: {وَإِذ قُلتُم يَا مُوسَى لَن نَصبِرَ عَلَى طَعَامٍ, وَاحِدٍ, فَادعُ لَنَا رَبَّكَ يُخرِج لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرضُ مِن بَقلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَستَبدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدنَى بِالَّذِي هُوَ خَيرٌ اهبِطُوا مِصرًا فَإِنَّ لَكُم مَا سَأَلتُم وَضُرِبَت عَلَيهِمُ الذِّلَّةُ وَالمَسكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ, مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُم كَانُوا يَكفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيرِ الحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعتَدُونَ} [البقرة: 61]،

{لَئِن أُخرِجُوا لَا يَخرُجُونَ مَعَهُم وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُم وَلَئِن نَصَرُوهُم لَيُوَلٌّنَّ الأَدبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ} [الحشر: 14] إنَّ اليهود في هذا العصر مجتمعون غير مشتتين، وأعزاء غير ذليلين، ومنتصرون غير منهزمين، فكيف الجمع بين هذا الواقع وتلك الآيات؟

** الــجـــواب:

أولاً: يجب اليقين بهذه الآية، واتهام البصر بعدم رؤية الحقائق كما ينبغي، وتوجيه التهمة للعقل بعدم الإدراك، فلا تناقض بين الآيات والواقع، ولا ينقض الواقع الآيات، إنما التناقض في عقل الشخص، وذلك دليل على نقص في اليقين، وبرهان على يقين ناقص، لذلك قال الشوكاني - رحمه الله -: قد وجدنا ما وعدنا - سبحانه - حقًّا، فإن اليهود لم تخفق لهم راية نصر، ولا اجتمع لهم جيش إلا ويغلب بعد نزول هذه الآية: {لَن يَضُرٌّوكُم إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُم يُوَلٌّوكُمُ الأَدبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ} [آل عمران: 111]. فهي معجزة النبوءة ا هـ.

ولو عاش الشوكاني إلى هذا العصر - عصر احتلال اليهود القدس لم يغير رأيه، ولو أدرك الحروبَ بين اليهود والمسلمين لم يبدل حكمَهºلأن صفاتهم في القرآن ما زالت فيهم لم تتغير ولم تتبدل، فالتشتت لم يتغير إلى تجمع إلا في أعين بعض المسلمين بسبب نقص يقينهم وذلة في قلوبهم، والمسكنة ما زالت مسكنة لم تتبدل إلى غنى إلا في تصور بعض المسلمين بسبب نقص يقينهم وفقرهم. والانهزام وعدم النصر عادة اليهود في الحروب ما بقيت السماوات والأرض، إلا أمام جيش مسلم شعاره الخوف، ورايته عدم اليقين بقوله - تعالى -: {لَن يَضُرٌّوكُم إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُم يُوَلٌّوكُمُ الأَدبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ} [آل عمران: 111]، والتشتت والتفرق خلق له، والخيانة من سلوكياته، فجيش يحمل صفات اليهود وشعارهم، وخلقهم، وسلوكهم، كيف ينتصر على جيش يهودي الأصل؟ فاليهود في هذا العصر لم ينتصروا على جيش مسلم الإسلام الموصوف بالنصر، كما قال - تعالى -: {وَلَقَد أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ رُسُلًا إِلَى قَومِهِم فَجَاءُوهُم بِالبَيِّنَاتِ فَانتَقَمنَا مِنَ الَّذِينَ أَجرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَينَا نَصرُ المُؤمِنِينَ} [الروم: 47].

وقال - تعالى -: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَولِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلٌّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].

ولم يهزموا جيشاً مؤمناً إيماناً مبشَّراً وموعوداً بالاستخلاف في الأرض، والتمكين في العالم، كما قال - تعالى -: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدُونَنِي لَا يُشرِكُونَ بِي شَيئًا وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [النور: 55].

فإن قلنا: هذا هو الجيش الموصوف بالنصر، لكن الواقع تغير، وإن ادعينا بأن هذا هو الجيش المؤمن الموعود بالاستخلاف والتمكين، لكن اليهود ليسوا هم اليهود، فهذا إثبات للتعارض بين الواقع والآيات، وتثبيت للتناقض بين الآيات والواقع، فهذا دليل على نقص اليقين، وبرهان على اليقين الناقص لدى بعض المسلمين، فالعيب ليس في اليهود، والواقع ليس هو السبب، بل:

 نعيب زماننا والعيب فينا *** وما لزماننا عيب سوانا

 

فعيب الجيش المسلم شعاره(الخوف)، وذنبه رايته(عدم اليقين)، وسر هزيمته خلقه (الخيانة)، وخطؤه سلوكه (التشتت والتفرق).

فأي جيش يتصف بهذه الصفات عاقبته الهزيمة، وأي جيش هذه شعاراته وهذه أخلاقه وسلوكياته نهايته عدم النصر والتمكين.

وسبب تخلق هذه الصفات المانعة من النصر، وعلة تكوٌّن هذه الشعارات والأخلاقيات والسلوكيات الجالبة للهزيمة: هو عدم التناهي عن هذه الصفات بين أفراد المجتمع المنبثق منه الجيش، وعدم إنكار هذه الأخلاق وتلك السلوكيات بين أعضاء الجيش، وسبب عدم التناهي وعدم الإنكار هو التضييق على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.

وأولى من يقوم بهذه الوظيفة هم العلماء، والعلماء هم أولى الناس بها، فالتضييق عليهم توسيع لدائرة المنكر، وتقويضهم فسح المجال لارتكاب المنهيات. فإذا اتسعت دائرة المنكر انتشر في المجتمع صفات اليهود الجالبة للذل والمسكنة، والجيش من المجتمع، وإذا فسح المجال للمنهيات حذا المجتمع حذو المجتمع اليهودي الجالب للهلاك، كما قال - تعالى -: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَونَ عَن مُنكَرٍ, فَعَلُوهُ لَبِئسَ مَا كَانُوا يَفعَلُونَ} [المائدة: 79].

وقال الرسول I: [إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول له: يا هذا! اتق الله و دع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض - ثم قرأ: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَونَ عَن مُنكَرٍ, فَعَلُوهُ لَبِئسَ مَا كَانُوا يَفعَلُونَ} [المائدة: 79]، ثم قال -: كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنــَّه على الحق أطراً (2)].

 

-----------------------

(1) أخرجه البخاري (3456)، ومسلم (2669) من حديث أبي سعيد.

(2) أخرجه أبو داود (4336) من رو اية ابن مسعود.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply