السقف والمرحلية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الدعوة إلى الله - عز وجل - تنتظم من ركنين اثنين: المنهج والداعية (على تفاوت فيهما من منهج إلى منهج، ومن داعية إلى داعية)، ولا ريب أنه لا يُرتقى بسقف التدين الذي يشاد من هذين الركنين إلا بحسب رقيهما وقربها من الأصل الأول.

 

فكلما اقترب المنهج من الكتاب والسنة، وكلما تمثل الداعية ما كان عليه سلفنا الصالح كلما ارتفع السقف ودنى من مرتبة القدوة الأولى (مٌّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاء بَينَهُم تَرَاهُم رُكَّعاً سُجَّداً يَبتَغُونَ فَضلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضوَاناً سِيمَاهُم فِي وُجُوهِهِم مِّن أَثَرِ السٌّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُم فِي التَّورَاةِ وَمَثَلُهُم فِي الإِنجِيلِ كَزَرعٍ, أَخرَجَ شَطأَهُ فَآزَرَهُ فَاستَغلَظَ فَاستَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعجِبُ الزٌّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنهُم مَّغفِرَةً وَأَجراً عَظِيماً) (الفتح: 29).

 

ذلك أن الجذور كلما أوغلت في تربة الأصل، وسقيت من معين أكثر صفاءً، ورعيت كما رعيت البذرة الأولىº كلما امتدت فروعها باسقات، لها طلع نضيد، فإذا النضج أتم وأكمل وأنفع.. إنه النضج الوافي، الذي لا يتم إلا بحسب قوة الأنموذج والمثال.. أصالة وصحة وتميزاً وعطاء...

 

ويقولون: إن الداعية وإن لم يستكمل الفهم الصحيح، ولم يتمثل الأنموذج الذي يدعو إليه، بل واختزل دعوته إلى الإسلام في بعض جوانبه... إلا أنه إنما يغطي ـ أو يمثل ـ مرحلة ابتدائية أو أساسية في مسيرة الدعوة، وعلى الآخرين أن يستكملوا معه بقية المراحل والأشواط ما شاءوا (!!).

 

وإنما يصح هذا لو كانت دعوته تمثل مرحلة من منهج متكامل متعدد المراحل، أما وكل منهجه محصور في مرحلته تلك، فسيبقى منهجه ذاك هو السقف الذي لا سقف فوقه، فلا يرى الملتزم به إلا أنه التصور النهائي، والأنموذج الكامل، فهو يلتزم به على هذا الأساس، لأنه ما قبل به أصلاً إلا لكونه بهذا الحد (المختزل) والذي لا يصطدم مع ميوله وأهوائه.

 

ولقد يتفق أن بعض من يقنع بتلك المناهج المختزلة أو الجزئية يغادرها إلى مناهج أكثر نضجاً واكتمالاً وقرباً من الفهم الصحيح، وهذا ـ على قلة فاعليه ـ لا يفعله إلا أحد اثنين: الأول: من يغادره لا على أنه مرحلة تسلمه للتي تليها، ولكن حيث يتبين له أنه منهج قاصر وتصور مختزل عن الدين والالتزام. وإذاً يكون الدور الإيجابي لهذه المناهج والتصورات ـ من الناحية العملية ـ كونها ربما تهيؤ أو تقرب البعض لالتزام المنهج الأكمل، وهو أثر رأيناه ـ في واقع الأمر ـ محدوداً نادر الحدوث. والثاني: من يغادرها انتكاساً عنها، وافتتاناً بنقيضها، إذ إن تلك المناهج القاصرة تبقي أتباعها على صلة بكثير من المظاهر والأنماط والعادات غير الشرعية، لا لاعتبارات مرحلية، بل لأنها منهجية ثابتة في أصول المنهج ذاته، تغلب استهداف الـ\"كم\" على الـ\"كيف\"، وتبتغي ـ بالتساهل ـ الاستكثار من الأتباع.

 

أما الكثير الغالب ممن تستهويهم تلك المناهج القاصرةº فإنهم ـ كما قدمت ـ إنما يرتضونها لاعتبار أنها تمثل التصور النهائي، وهذا تحديداً هو سر إقبالهم عليها واحتفائهم بها، ولو أنها عرضت عليهم كمرحلة واحدة من منهج تطوري متتابع المراحل ما قبلوا بها.

 

إن الداعية إلى الله حينما لا يكون على مستوى رقي المنهج الإسلامي، فهما وامتثالاً، إنما يطرح بذلك أنموذجاً بديلاً، يمنح الناس حرية الاختيار بينه وبين الأنموذج الصحيح للدين، وفي أزمنة غلبة المادية والشهوة من الطبيعي أن يؤثر الناس ما يوسع لهم دائرة الفعل، ويضيق دائرة الترك.

 

إنني لم أزل أسأل سؤالاً ربما أمدتنا الإجابة عنه بما يبدد الضبابية التي غرتنا بأمنيات لا نراها أنجزت في تجارب التاريخ ولا في واقع الأمر، ومن ثم استغرقتنا فيما نتوهم أنه مقدمات لها... أسأل: هل وقع في تاريخنا المديد أن أصلح الله أمر هذه الأمة مرة بغير ما أصلح به أولها؟

 

ودعني أصيغ السؤال صياغة أخرى أكثر ملاصقة للواقع: هل استردت الأمة مجدها (في حطين أو في عين جالوت، أو غيرهما) لأنها اتبعت منهج التساهل في الأحكام، واستمرأت الأخذ بالرخص؟

 

نعم.. ربما يكثر الأتباع... ولكن متى كانت الكثرة معيار نجاح أو برهان إصابة؟ وهذا كتاب ربنا ينطق فينا بذم الكثرة.. قال - تعالى -: (لَـكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لاَ يَشكُرُونَ)(البقرة: 243)، (وَلَـكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لاَ يَعلَمُونَ)(الأعراف: 187)، (وَلاَ تَجِدُ أَكثَرَهُم شَاكِرِينَ)(الأعراف: 17)، (وَلَكِنَّ أَكثَرَهُم يَجهَلُونَ) (الأنعام: 111)، (مِّنهُمُ المُؤمِنُونَ وَأَكثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ) (آل عمران: 110)، (وَإِن تُطِع أَكثَرَ مَن فِي الأَرضِ يُضِلٌّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِن هُم إِلاَّ يَخرُصُونَ) (الأنعام: 116)، (وَمَا وَجَدنَا لأَكثَرِهِم مِّن عَهدٍ, وَإِن وَجَدنَا أَكثَرَهُم لَفَاسِقِينَ) (الأعراف: 102)، (وَمَا يُؤمِنُ أَكثَرُهُم بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مٌّشرِكُونَ)(يوسف: 16). والآيات في ذلك كثيرة... فلا يغرنك كثرة السالكينº فإن العبرة بالوصول، ونيل المأمول..

 

وكذلك امتدح القرآن القلة حيث كانت خيرة في كيفهاº قال - تعالى -: (وَقَلِيلٌ مِّن عِبَادِيَ الشَّكُورُ)(سبأ: 13)، وقال: (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُم وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاستَغفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ)(ص: 24)، وقال: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ* فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ* ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ* وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ)(الواقعة: 10ــ 14).

 

فالمعول على \"كيف\" تتحقق به مقاصد الشريعة، ولا ريب أنه لا أتم ولا أكمل ولا أرقى من \"كيف\" صاغه المنهج القرآني كاملاً بكماله.. (صِبغَةَ اللّهِ وَمَن أَحسَنُ مِنَ اللّهِ صِبغَةً) (البقرة: 138)، والعبرة بـ\"كيف\" تتحقق فيه معالم الرسالة وخصائصها، ولا ريب أنه لا أتم ولا أكمل ولا أرقى من هدي وسمت وشمائل النبي - صلى الله عليه وسلم -.. \"وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها\"(1).

 

وماذا تغني الكثرة إن لم تكن بالـ\"كيف\" المنشود؟ أخرج أبو داود عَن ثَوبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: \" يُوشِكُ الأُمَمُ أَن تَدَاعَى عَلَيكُم كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قصعتها\". فَقَالَ قَائل: وَمِن قلة نَحنُ يومئذ؟ قَالَ: \"بَل أَنتُم يَومَئِذٍ, كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُم غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيلِ، وَلَيَنزِعَنَّ اللَّهُ مِن صُدُورِ عَدُوِّكُمُ المَهَابَةَ مِنكُم، وَلَيَقذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الوَهَنَ\". فَقَالَ قَائل: يَا رسولَ الله! وَمَا الوَهَنُ؟ قَالَ: \"حُبٌّ الدٌّنيَا وَكَرَاهِيَةُ المَوتِ\"(2).

 

والحكيم لا يشري رأس ماله الأصيل بكثرة زائفة.. وكيف يستقيم أن ننتصر للمنهج بمخالفة المنهج؟!

 

ولذلك فإن المسلم تلقاه متميزاً في الناس بـ\"كيفيته\" الخاصة وسمته المتميز، مهما أبدى له وهمه، وأغراه ـ بغرور ـ فهمه.. أن ذوبانه في الآخر من شأنه أن يجذب ذلك الآخر إلى الإسلام، أو الالتزام..

 

ألا ترى كيف حض الشارع الحكيم على التميز، وأوصى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه؟ قال: \"إِنَّكُم قَادِمُونَ عَلَى إِخوَانِكُم فَأَصلِحُوا رِحَالَكُم وَأَصلِحُوا لِبَاسَكُم حَتَّى تَكُونُوا كَأَنَّكُم شامة فِي النَّاسِ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبٌّ الفُحشَ وَلاَ التَّفَحٌّشَ\". قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو نُعَيمٍ, عَن هِشَامٍ,، قَالَ: حَتَّى تَكُونُوا كالشامة فِي النَّاسِ(3).

 

وكذلك وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - أتباعه بين الناسº فقال: \"مَا أَنتُم فِي النَّاسِ إِلا كالشعرة السَّودَاءِ فِي جِلدِ ثَورٍ, أَبيَضَ، أَو كَشَعَرَةٍ, بَيضَاءَ فِي جِلدِ ثَورٍ, أَسوَدَ\"(4).

 

وبتلك القلة كانت الأمة أمة، وكان مجدها، وقامت نهضتها.. كان الـ\"كيف\" هو الفيصل والمعيار والميزان، وبه كان الرجحان، فكان التميز عن الآخر ـ لا الذوبان ـ هو سر نهضتنا، وهو ما لا يحصل إلا بتمثل منهج الله - تعالى -بغير تجزيء ولا تبعيض، أو اختزال يحصر الإسلام في بعض شرائعه أو شعائره.. قال - تعالى -: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادخُلُوا فِي السِّلمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ إِنَّهُ لَكُم عَدُوُّ مٌّبِينٌ) (البقرة: 208).

 

وأعجب ما في هؤلاء المختزلين للدين المستكثرين من الأتباع: أنهم ينكرون على مخالفين لهم تعجلهم قطف الثمار، وما تغليبهم الـ\"كم\" على \"الكيف\" إلا صورة من صور التَّعجلِ نفسه..

 

يا أمة القرآن..

إنه لن يحلق في آفاق غايات أمتنا من لم يبرح مشدوداً إلى الأرض بحبال وأوتاد، تصله بمظاهر الجاهليات سلوكيات وعادات.. من لم يزل منبهراً بالآخر في أنماط حياته، مفتوناً بالغير في خصوصيات ثقافته..

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش وإحالات:

(1) أخرجه البخاري ـ كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ـ (3) باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ح/7363) بلفظ: \"وأحسن الهدي\"، ومسلم ـ كتاب الجمعة ـ (14) باب تخفيف الصلاة والجمعة: (ح/42)، وغيرهما.

(2) أبو داود ـ كتاب الملاحم ـ (5) باب تداعي الأمم على الإسلام: (ح/4299)، وأخرجه أحمد: (ح/21363).

(3) أخرجه أبو داود في سننه ـ كتاب اللباس ـ (27) باب ما جاء في إسبال الإزار: (ح/4091)، وأخرجه أحمد: (ح/16966).

(4) أخرجه البخاري ـ كتاب أحاديث الأنبياء (01) باب قصة يأجوج ومأجوج: (ح/3383)، ومسلم ـ كتاب الإيمان ـ (97) باب كون هذه الأمة نصف أهل الجنة:(ح/553)، و(98) باب قوله: \"يقول الله لآدم: أخرج بعث النار...: (ح/554).

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply