أبناء الدعاة .. من يدعوهم إلى الله ؟


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن المرضى الذين يعودون الجراحين ليعرفوا أسباب مرضهم يعلمون أن للجراح مبضعاً لا بد أن يعمله في أجسادهم شقاً وتشريحاً\".وقد يحجم الكثيرون عن زيارة الأطباء جفولاً من ألم المشارط.. وخوفاً من وخز الحقن.. لكن أولئك سرعان ما تتكاثر تحت جلودهم الدمامل والقروح.. وإن بدوا في الظاهر أصحاء ذوي قوة، فسيسقطون يوماً من علٍ, بعد أن تنهتك جراحهم..

 

يقول البوطي في كتابه فقه السيرة: \"مسؤولية المسلم إصلاح نفسه ودعوة من يلوذون به من ذوي قرباه.. وتوجيهاً إلى القيام بحق هذه المسؤولية خص الله الأهل والأقارب بضرورة الإنذار والتبليغ بعد أن أمر بعموم التبليغ والجهر به، وهذه الدرجة من المسؤولية يشترك في ضرورة تحمل أعبائها كل مسلم صاحب أسرة أو قربى.. وكما لا يجوز للنبي أو الرسول في قومه أن يقعد عن تبليغهم ما أوحي إليه. فكذلك لا يجوز لرب الأسرة أن يقعد عن تبليغ أهله وأسرته ذلك، بل يجب أن يحملهم على اتباع ذلك حملاً، ويلزمهم به إلزاماً\".

وإطراق طرف العين ليس بنافع

إذا كان طرف القلب ليس بمطرق

دع عينك.. أريد قلبك القارئ

بعد أن نصح الداعية ذلك المدعو بأن يرفق بنفسه ولا يرهقها، وأن ينتهز فرصة إقبالها لينصب أشرعة إيمانه.. وأن يجدف إن عاكسه التيار بالمجاديف.. وبعد أن همس متسائلاً في أذن الآخر من إخوانه بعد أن أحس منه فترة وسكون: ما آخر عهدك بصلاة الليل وقرآن الفجر؟،، ثم عاد وشارك نبلاء في جمع تبرعات لصالح متضرري المسلمين.. ثم جلس ولفيف من خلصائه يشحذون أذهانهم، ويستبقون الزمن في التخطيط لتطوير دعوتهم.. ثم رجع ووعظ أبناء حيه بعد صلاة العشاء موعظة رقت لها القلوب، واطمأنت لها النفوس، ثم خشع يذكر الله وأشبال معه هم أسود الغد حتى تغشاه النعاس أنساً بطاعة الله. بعد هذا كله آب إلى منزله وقد أنهكه التعب وأمتعه.. عاد إلى أهله مسروراً. فإذا بزوجه تشكو على استحياء حال ابنه الذي هو من صلبه.. من تضييع الفرائض، وتلفظ بكلمات يُتَعفف عن ذكرها، وعصيان طاغٍ,، وكأن هذا الابن شوكة في جنب زهرة ينفي وجودها جمال الزهرة المطلق.. لينقلب ذاك السرور هماً.. وذاك النعاس سهاداً.. فيطرق الأب إطراقة حزينة:

الحزن يقلق والتجمل يردع *** والدمع بينهما عصي طيع

مؤلم لعين الداعية أن يرى ابنه أو أخاه أو قريبه يشق في حياته طريقاً مغايراً له.. والله إن القلب ليحزن من رؤية بعض ذوي أرحام الدعاة وقد افترشوا الطرقات وأصبحوا من أهلها يقتلون بها أوقاتهم بل أنفسهم.. وإن الرجل منا ليرى البعيد، وهو يلاحظ اختلاف نهج الداعية عن نهج رحمه فيهمه ذلك، وتشغل تفكيره تلك الملاحظات.

 

خطورة المشكلة:

تنطلق جسامة هذه المشكلة من تشابكها وارتباطها بعدد من المشكلات، وعمق تأثيرها في محيط الدعاة على المدى المتوسط والبعيد، فالداعية جندي أوقف حياته لله، وجاد بنفسه وأرخصها وهي النفيسة وراح يتلمس مهاوي الردى يلقيها بها فدى لدينه، وأخذ على نفسه عهود الله والمواثيق ألا يولي الدبر، وألا يتولى يوم الزحف إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة، وإن اقتحم الأعداء فأول مواطئهم جثته.

إن جندياً هذه حاله لن تُلين قوة له قناة، ولن يفلق فأس له حصاة، فهو ورفاقه كما وصفهم الواصف:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب

وكما أبدع الآخر فقال:

يهون علينا أن تصاب جسومنا *** وتسلم أعراض لنا وعقول

استدراك الزلل:

كثيرون منا، ما شدهم في بادئ الأمر إلى طريق الالتزام بدين الله إلا محبوبات شخصية كهواية مفضلة، أو دماثة خلق أحدهم، فكانت تلك غرة الحلقات، وسرعان ما تتابعت الحلقات خلفها تشدنا برفق، وتضمنا بحنان.. فأصبحنا نتعلم العلوم إما عن طريق التعليم المباشر، أو عن طريق الإيحاء والإيماء، أو تيار العرف يوجهنا أن أقدموا أو أحجموا، شأنه شأن الريح مع ورقة الشجر تسمق بها حيناً، ثم تهوي بها بطناً لظهر في حفرة..

قد يتذكر البعض أن أساتذته قد علموه أن يخص أهله بشيء من البر والدعوة، لكن الكثيرين لا يتذكرون ذلك.

من هنا نسل قلماً أحمر نرسم به إشارة تعجب نعني بها التحذير المندهش، وندعو من خلالها إلى وجوب استدراك الزلل عبر التواصي بتوريث المدعوين مفهوم البر بآبائهم وأمهاتهم وأهليهم، وإسداء الأرحام أوقاتاً لا شيئاً من وقت.. دع عنك الدروس والمواعظ، فما أردنا ذلك، ولكن أردنا المتابعة العملية، والسؤال الدوري عن أحوال المدعو مع عائلته.

أكثير على أهلينا سُبع أسبوعنا نمنحهم إياه، ونوجه خيرنا الوافر لهم؟! أمنطق أن نسقي حدائق الأبعدين، وأشجار أرحامنا ظمأى، والبئر في أرضها؟! أكاد أجزم أنه لو بقي أحدنا في بيته يوماً كاملاً لاندهش أهله لعدم خروجه، لم لا نقتطع من أيامنا يوماً نلتزم فيه بعدم الخروج مع الغير، نتنزه مع أهلنا فيه، ونقطع رتابة الأيام بنكتة صادقة حاضرة، وثغر مبتسم، وروح خفيفة مرحة، ويد كريمة سخية؟.. إن كان بعض المدعوين يجحد الخير ويتمرد حيناً على من وهبه إياه، فإن أهل بيتك أبداً لن ينسوا لك تلك النزهة، بل ستراهم يتذكرونها ويشتاقون إليها، ويربطون كل سعادة لهم بها.. وياليت شعري ما علموا أنك لم تأبه لتلك النزهة.

 

الدعوة.. دم وروح:

ما زالت نفسيات بعض الدعاة تمارس أعمالاً ناشزة يصعب على المراقب لها ربطها بالدعوة من بعيد أو قريب.

فالدعوة دم في العروق من القلب ينبض، وروح في الأعماق من الصدر تتنفس.. هل كائن يحيا بلا دم وروح؟

إن بعض الدعاة عندما يدخل منزله ومأواه، يتصل حاجباه تقطيباً، ويزفر أنفه تجهماً، وهو الذي اتسع صدره لذلك العاصي الأول، وتراه قد اختزل وتضاءل حتى عاد لا يتسع لحديث ابنه الطفل، ولا لفكاهة أخيه، وله مع سائر أهله معاملة القائد البغيض للجنود، ليس لهم حق الاعتراض أو المناقشة في القرارات، فضلاً عن إبداء الاقتراحات، في حين له عليهم الطاعة المطلقة، وأهله يستغربون مديح الناس له من حيث طلاقة وجهه، ورحابة صدره، ويتعجبون فيما بينهم عن غياب تلك الطلاقة في بيتهم، ولولا عدد المادحين لكذبوهم، ولكن البيوت أسرار وخفايا.. ويحه.. أداعية خارج البيت جبار داخله!

وهذا صنف آخر من الدعاة، له على أهله توفير المطعم والمأوى.. ولهم عليه التفضل بالأكل والرقاد وإبداء الملاحظات حول جودتيهما، قد اتخذ بيته فندقاً بالمجان، فهو في بيته سمير الكتب والإنترنت، وان رام الحديث فالهاتف أنيس وحدته، وأيادي أهله على خدودهم، تترك التعليق على حال ابنهم مخافة إغضاب العميل الدائم!.

 

الرسول قدوة:

\"لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا\" (21) (الأحزاب) سمعاً وطاعة يقولها الدعاة عند تلاوتهم هذه الآية، وعلى جوارحهم أن تردد مع الألسنة تلك الآية باتباع نهجه – صلى الله عليه وسلم -.

روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن سعيد بن العاص عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: \"ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن\" وهذا رسول الله الذي جعل النوم خلفه ظهرياً، وحمل هم الأمة، من أين استل وقتاً يلاعب به الأطفال؟!

روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: \"إن كان النبي – صلى الله عليه وسلم - ليخالطنا حتى يقول لأخٍ, لي صغير: يا أبا عمير.. ما فعل النغير\"؟

ومن أراد استكمال إيمانه فعليه بما أوصاه به الحبيب – صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي روته أم المؤمنين عائشة رضي الله قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: \"إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله\". من منا أخطأ طفله مرة أثابه دعوة بدل أن يعاقبه.

يحدث أبو رافع بن عمرو الغفاري يقول: \"كنت غلاماً أرمي نخل الأنصار، فأتي بي إلى النبي – صلى الله عليه وسلم - فقال يا غلام: لم ترمي النخل؟ قلت: آكل، قال: \"فلا ترم النخل، وكل مما يسقط في أسفلها\"، ثم مسح رأسي فقال: \"اللهم أشبع بطنه\" (رواه أبو دواد).

 

وصايا للإصلاح:

وهذا بعض من الإسهام في العلاج عل الله ينفع به:

أولاً: وجود التكاليف الدعوية الكثيرة والتي تقلل من فرص بقاء الداعية في بيته كسائر الآباء والأبناء والإخوة لا ينتصب عذراً عن أداء حقوقهم عليه من تربية، ومصاحبة، ونفقة.

روى مسلم في صحيحه عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يقول: \"كلكم راع ومسؤول عن رعيته فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته\".

ومن منا يجرؤ على الادعاء بالاعتذار بالدعوة عن الأبناء والأهل؟ انشغاله أكثر من انشغال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟

ثانياً: الفوضى تضيع حقوق الناس، وتجعل الأعمال كسلاسل الجبال أمام الإنسان، فتأخذ الكثير من مشاعره وجهده، وقد يلقي بحظ أهله في ذيل قائمة أولوياته، والأولى أن يعالج طريقة ترتيب وقته، وإدارة ذاته، حتى يعطي كل ذي حق حقه.

ثالثاً: اعتبار مرحلة منافرة الأهل محطة لازمة العبور في حياة الداعية هو اعتبار سقيم، يفرخ تصرفات سقيمة، والتي منها البحث المجهري عن أخطاء يقترفها الأهل لتكون نواة للمنافرة والصدام إبان النهي عن المنكر، والكتاب الذين تصدوا لعلاقة الداعية مع أهله وبسطوا الأمر على أساس المجابهة والمحاربة مستشفعين بأدلة مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنهما - مع أميهما، إنما ذكروا مرحلة من وجوه التعامل تسبقها مراحل عديدة شبيهة بمراحل الدعوة الفردية، كتوثيق العلاقة وبناء الثقة، ومن ثم إيقاظ الحس الإيماني وغيرها من المراحل، فإن استقبل الأهل هذه الخطوات بعداء وحرب، حينها تصح تلك الأمثلة، مع مراعاة الطاعة فيما لا معصية فيه.

روى الإمام أحمد في مسنده عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيت النبي – صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال: نعم صلي أمك.

وأولئك الكتاب إنما بينوا أمور المواجهة وأغفلوا دعوة الأهل بالحسنى نظراً لظروف بلدانهم، وأعرافها، وعلى القارئ الفطن ألا يقرأ بعين التقليد بل بعين الاجتهاد ما استطاع.

إن صدور الدعاة عليها أن تتسع لأرحامهم لأن:

 هدايتهم تضمن بإذن الله ولاء هذا البيت، وهذا يعني إرسال أبنائهم وأبناء أبنائهم للدعاة يربونهم.

 ثبت عبر التجربة إبداع النساء في نشر محاسن الملتزمين بين الأمهات، فأصبح الناس يقبلون على الالتزام عبر تزكيات الأمهات.

 لن ينتهي عجبك من الدعم والتضحيات التي تبذلها البيوت التي عملت يد الإصلاح فيها براً ووفاءً.

 أغلب من جرب الدعوة مع أهله يخبر أنهم لا يحتاجون مزيد جهد وتعب كما هو الحال مع غيرهم من المدعوين.

هل النداء الذي أعلنت مستمع

أم في المئات التي قدمت منتفع؟

وبعد فكن كالأنبياء لذويهم، كن كإبراهيم لأبيه.. وكلقمان لابنه.. وكيوسف لإخوته.. بل كن كمحمد لأهل بيته، عن عائشة قالت قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: \"خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي\" (رواه الترمذي).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply