تحديث الخطاب الدعوي الإسلامي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أولا: خلفية المبادرة:

خلال الخمسين سنة الماضية شهدت الساحة الإسلاميَّة الكثير من التحركات والنشاطات الإسلاميَّة والدعويَّة، متخذة أساليب مختلفة وأشكالا عدة.

ولقد تراوحت نتائج تلك الأعمال والمحاولات بين النجاح التام، والنجاح النسبي، والإخفاق في بعض الحالات. غير أن مما لا مراء فيه أن الخطاب الإسلامي بكل أطيافه وتجلياته في الفترة الماضية اتخذ المنحى الخطابي (الخطاب اللغوي والتأثيري)، بأشكاله المختلفة المسموعة والمقروءة، مرتكزا أساس لكل تحركاته وتجلياته.

ورغم أن القناعة متوافرة بجدوى ذلك النوع من الخطاب في الفترة الماضية، إلا أن التغيرات والتطورات الأخيرة وبالذات بعد ثورة العولمة ثم أحداث سبتمبر وتداعياتها - تفرض تعديلا وتطويرا للخطاب الدعوي.

إن الجمود، والثبات على الصيغ والآليات القديمة، أضحى نوعا من التخلف يجب أن لا ترضاه القوى الإسلاميَّة، ولا تقبل به.

إن الخطاب الإسلامي الحالي في حاجة إلى تطوير في الأساليب والأطر، ليكون في متناول الناس جميعاً من حيث الأسس التي ينبغي أن تقدم للناس، ومن حيث الطرق العلمية الحديثة للتواصل مع الآخرين، وإعداد صياغات متطورة لتمثيل الإسلام وممارسته بشكل حقيقي وعمليّ.

يستدرك الدكتور عبد الناصر أبو البصل عميد كلية الشريعة بجامعة اليرموك بالأردن بأنه إذا قصدنا بالخطاب الإسلامي مبادئ الإسلام وقيمه وتعاليمه، فهذا لا مرية أنه لا مشكلة فيه على الإطلاق، ولكن المشكلة في الوسائل التي يتم بها ممارسة وترسية وتفعيل هذا الخطاب، وفي اختيار الوسائل التي نسلكها في إيصاله للناس. فيما يتعلق بذلك فإنه يجب بلورة خطاب جديد، وأن تتعاون في الوفاء به مؤسسات الدعوة والإعلام والتعليم، إضافة إلى تهيئة كوادر إعلاميَّة مؤهلة تجمع بين الثقافة الإسلاميَّة الصحيحة، وأدوات العصر، ووسائله العلمية.

 

الشيخ سلمان العودة يؤطر لهذه المبادرة بالقول: إن مما يؤسف له ويجب الاعتراف به- أن قضية العلاقات والخصومة الداخلية للأمة الإسلاميَّة من أهم معيقات تحديث الخطاب الدعوي، لأن كثيرا من الأطروحات والمشاريع ربما تستدعي الكثير من الخلافات المفتعلة حول جدواها، أو أولويتها، وأحيانا مشروعيتها.

إن الإشكالية هي أن الشخص الواقع في الخلاف لا يستطيع أن يدرك أنه يفتعل خلافاً لا مبرر له، لأنه مشغوف ومملوء العقل والذهن بقضية معينة، نشأ عليها ثم كبرت عنده وأصبح لا يرى غيرها، ولا يؤمن بسواها بل وحتى أصبحت تعزله عن الآخرين، وعن مشاريعهم العمليّة، وعن رؤية أمور ونتائج أكثر فاعلية.

إنه في الوقت الذي تراه يتوجع من الخلاف نظريا، يصنع الخلاف عمليا، لأن تربى على نوع من المنهجية الصارمة، التي ليس من آلياتها التعامل مع الخلاف، وتحقيق معاني الأخوة والإعذار، وحسن الظن ومعاني التفاهم مع الآخرين، ولذلك ربما يتكلم بكلام جميل جداً عن قضية الخلاف، دون أن يمارسه في الواقع.

إننا إذ نطمح إلى تحديث خطابنا الدعوي فإننا بحاجة إلى تربية، على أن تصبح المرونة في التعامل مع النوازل والمستجدات عادة، ليتلقاها الطفل والطالب في المدرسة، والشاب في محضنه التربوي، وأن يكون هناك تربية قوية على المعاني والمقاصد الكليّة للدين، بحيث نستطيع أن نتخلص من كثير من الخلافات التي كنا فيها، والتي تصرفنا عن صور ومشاريع متطورة في خطابنا الدعوي.

أمر آخر يطرحه الشيخ سلمان العودة ويعتبره أساسيا لتحديث الخطاب الدعوي، يتلخص في ضرورة الإيمان بوجود ألوان من التعامل مع الواقع، تقتضي قدرا واسعا من المرونة والفاعلية، لأن بناء عوازل أو إقامة جزر فيها لا يصنع شيئا، وافتراض كل فئة أو طرف أو حتى دولة أنها قادرة على أن تقوم بمفردها أمر غير واقعي.

إذن لابد للمسلم أن يتعامل مع الآخرين بنوع من المرونة، حتى مع من يختلفون معه في الدين، فربما يجد الإنسان نفسه محتاجاً إلى نوع من التحالف مع طرف غير مسلم، لمواجهة طرف ثالث هو غير مسلم أيضاً، وهو أقوى من الجميع. وهذا يقتضيه العقل وتجيزه الشريعة، والفقهاء وضعوا أبواباً لمثل هذه الأشياء. فكيف إذاً يكون التعامل مع مشاريعنا وأطروحتنا ضمن وضع إسلامي، ربما يكون أكثر حتى في دائرة أضيق، ومع ذلك تجد أن هناك نوعاً من افتعال ألوان من التباعد بينك وبين أطراف أخرى، وهذا ينم عن غياب الوعي بالواقع، وغياب الشعور الصادق لمواجهة هذا الواقع.

 

ثمة أمر في غاية الأهمية، وهو وجوب التمسك بالثوابت والأصول في عرض الإسلام، فليس من تجديد الخطاب الديني تقديم الإسلام المستأنس مكسر الجناح منزوع السلاح، أو اعتبار الإسلام علاقة شخصية بين العبد وربه فقط، وليس منهج حياة كاملة للفرد والأسرة والمجتمع والدولة، وليس منه حذف بعض الآيات عن بعض المخالفين لنا، أو حذف الحدود من النظام الجنائي، أو الجهاد من العلاقات الدولية، أو حذف الغزوات من السيرة.

 

ثانيا: المحاور الرئيسة للمبادرة:

* الإيمان بضرورة المراجعة، وتربية القدرة على التراجع والتطوير

* تحديث المفاهيم السائدة عن العمل الإسلامي وأهداف واستراتيجيات الدعوة

*طرح وممارسة آليات ومشروعات جديدة ومتطوره

 

ضمن المحور الأول يحدد مجموعة من الباحثين والعلماء عدة اقتراحات لتحديث الخطاب الدعوي تسير وفق التالي:

1. الإيمان بأن المراجعة والتراجع سنة ماضية، وقد جاء في الصحيحين قول الرسول ?: \"وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها.. \" فإذا كان ? يتراجع عن رأي حلف عليه عندما يتبين غيره أصوب منه، فلا غرو أن يتراجع من بعده عن رأي رأوه أو مسلك تبين لهم رجاحة غيره.

 

2. الاعتقاد الجازم بأن لكل مرحلة فقهها الدعوي، وأن التراجع عن اجتهاد أو منهج تربوي معين، لا يعني مطلقا بطلان الاجتهاد السابق، أو هدمه بل ولا حتى إلغاءه، ولكن لا يعني مطلقا التمسك به لأنه \"سبق وأن قيل\"، أو \"سبق وأن تم العمل به أو اختياره\".

 

3. أن نربي أجيالنا على فن التراجع، كما نربي على فن الإقدام. فإذا كان الإقدام من غير مبرر تهور، فإن الثبات على غير الحق والصواب جمود وتخلف.

 

4. مراجعة واسعة لمفردات العمل الإسلامي بما في ذلك المناهج والأفكار والخطط والبرامج والأشخاص، ثم -وبطريقة سلسة- استبعاد كل ما يعيق هذا التحديث.

 

5. التراجع بشجاعة عن كل الآراء والمواقف المضادة لعمليّة التحديث ومطالبة الاستراتيجية والتكتيكية.

في حين أن من أهم استراتيجيات تحديث الخطاب الدعوي المرتبطة بالمحور الثاني (تحديث المفاهيم السائدة عن العمل الإسلامي وأهداف واستراتيجيات الدعوة) ما يلي:

1. أن نضع في الحسبان أن الإسلام ليس مجرد عقيدة تحض على (البذل والتضحية)، وتحمس الناس للدفاع عن الديار والأوطان والعقائد، ولكن الإسلام أيضاً لـه دور اجتماعي مهم، من حيث أنه عقيدة منتشرة ذات استقرار وذيوع وتقبل بين الناس، ورضا بحاكميتها بينهم، فهم يتناهضون به، ويتحاكمون بمرجعيته، بغير إملاء عليهم من خارجهم. هذه الصفة تمكن من قيام عناصر التنسيق والتوحيد بين الانتماءات الفرعية، التي تقوم عليها وحدات الخطاب الدعوي المتطور.

2. تطبيع الفكرة الإسلاميَّة، لتكون هي المجتمع، بدلاً من اختصارها في فئة خاصة من الدعاة ـ من وجهة نظر الشيخ محمد العبدة ـ استراتيجية أساسية لتحديث الخطاب الدعوي، ويرى أن مما يساعد على ذلك الاهتمام الدعوي بالعلاقات العائلية والأسرية المتميزة لخدمة الإسلام. وإقامة علاقات طبيعية مع جميع شرائح المجتمع، دون حساسية من أي فئة. إضافة إلى ممارسة الدعوة بشكل عمليّ وبطريقة سهلة، مع جميع شرائح المجتمع، ويكون ذلك مثلاً عن المشاركة والتفاعل والإيجابيّة في العلاقات.

3. التقرير في أذهان المسلمين عموما أن هناك خلافاً هاماً وجوهرياً بين مرحلتين وفقهين، (فقه الاستضعاف) (1) و (فقه الاستخلاف) (2)، وتربية العمل في ضوء الأول منهما بشكل عام. حسب ما يقرره الدكتور عبد الحكيم الصادق.

 

المحور الثالث للمبادرة الحالية والذي يؤكد على طرح وممارسة آليات ومشروعات جديدة ومتطورة حسب وجهة نظر العديد من الدعاة والباحثين يتضمن الاستراتيجيات التالية:

1. نزول الشخصيات المرموقة (علماً ودعوة وثقافة) من أبراجها المنيعة وخصوصيتها الخطابية، لمخاطبة الناس وتعليمهم السلوك الحسن والتواضع، وتسهيل لغة الخطاب، وتقريب الأفكار بينهم.

2. اعتماد المؤسسات والتجمعات الدعويَّة على برامج عمليّة تنفيذية، تفيد المجتمع وترتبط باحتياجاتهم اليومية -بدلاً من التركيز على الخطاب الوعظي والتوجيهي والأستاذي/ المشيخي المجرد- وينطوي ذلك حسب ما يراه الدكتور سعيد بن ناصر الغامدي على \"تأسيس المشاريع\" و \"إقامة دورات \" و \"أندية\" و \"مخيمات\" و \"مراكز\" تقوم بأعمال يلمس الناس أثرها بحيث تتناول على سبيل المثال:

• رعاية الصغار، وتربية المراهقين.

• تعليم المتزوجين المهارات الأساسية للحياة الزوجية.

• تعليم الطلاب مهارات المذاكرة والاختبار.

• العناية بالمدمنين.

• حل المشكلات الأسرية والمالية والعمليّة.

• تأسيس الكليات والمراكز التربوية والجامعية.

• إقامة المستشفيات ومراكز الاستطباب والتداوي.

 

3. ارتكاز الأعمال والأمور العمليّة التي يقوم بها الدعاة، أو التي تتبناها الجهات والمؤسسات الدعويَّة، على المهارات والممارسات والأفكار والمفاهيم التجريبية والمتطورة، والمتصفة بالجاذبية والتشويق. هذا يستلزم الابتعاد عن الآراء الفردية والاجتهادات الخاصة لبعض العاملين في الحقل الدعوي، والاعتماد بشكل كلي على ذوي الاختصاص في كل فن على حدة.

 

4. تطوير رسالة المسجد بما يضمن استعادته لدوره التأثيري والريادي في المجتمع المسلم، حيث يجب أن يمثل مركزا اجتماعيا وتثقيفيا للبيئة المحيطة.

 

5. أدلجة المشاريع التجارية لصالح الأفكار الإسلاميَّة. حيث لا تزال المشاريع الإسلاميَّة في خطواتها الأولى، مع أن غيرنا من الدول غير الإسلاميَّة، قد خطا خطوات واسعة في ذلك على المستويين \"الفكري\" و\"التجاري\".

 

6. تأسيس مراكز أبحاث، ودراسات أو حلقات نقاش حول موضوع معين، واستثمار آليات البحث العلمي، ثم استقبال وجهات النظر حيالها، وإعادة الصياغات، والخطط والبرامج في ضوء نتائجها.

 

7. الدكتور عبدالكريم بكار يرى أن تحقيق التحديث يمكن أن يؤكد على المنحى الإعلامي بالتالي:

• استثمار وسائل الإعلام العامَّة بشكل مكثف، لنشر الأفكار الإسلاميَّة على مختلف أنواعها. بما في ذلك نشر الأفكار والمباديء بطريقة مدمجة في اتجاهات محتوى البرامج الترفيهية والإعلاميَّة المختلفة.

• تهيئة الكوادر الإعلاميَّة الممتازة، وتأسيس مؤسسات الإنتاج الإعلامي، التي تضمن نوعا من الالتزام و\"الأسلمة\" في برامجها ومنتجاتها الإعلاميَّة.

• اقتحام مجال الأعمال الدرامية، وتثبيت الأفكار الإسلاميَّة من خلالها بطرق غير مباشرة.

 

---------------------------------

(1) فقه الاستضعاف الأصل فيه الالتقاء على أصل الدين ومحكمات الشرعية. وهو ينسجم مع مرحلة الاجتياح للأمة من قبل أعدائها الخارجيين والداخليين.

(2) فقه الاستخلاف: الأصل فيه الالتقاء بعد الاتفاق على أصل الدين والمحكمات الشرعية على الاختيارات الفقهية، والاجتهادات المذهبية والترجيحات الحركية والرؤى السياسية. وهو ينسجم مع مرحلة الاستخلاف والتمكين.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply