( المتدينون الجدد ) وآثار تفاعلهم مع الحركة الإسلامية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

على الرغم مما يبدو من أن التدين الجديد عشوائي ومستقلº فإنني أتصور أن ثمة علاقة بينه وبين الحركة الإسلامية.

وسأحاول القفز على أثر الحركة الإسلامية على المتدينين الجدد للوصول إلى الهدف من المقال وهو محاولة رصد وتنبؤ بأثر المتدينين الجدد على الحركة الإسلامية.

أهمية هذه المحاولة تكمن في: أن الموجة الجديدة من التدين التي نحياها، وهي ما يعرف بـ«المتدينين الجدد» ليست هي المدّ الأولº بل هي إحدى موجات التدين التي بدأت في الثلاثينات من القرن الماضي، وتلتها موجة السبعينات العاتية، التي لا نزال نتجرع آثارها الإيجابية والسلبية معاً.

وكثيرة هي الموجات التي لم تستغل بالشكل الأمثل الذي يعود بأقصى درجات النفع على أمتناº فكان مصيرها اللجوء إلى الحل الأسهل (العنف وتكفير المجتمع) أو الاضمحلال والتشتت. وفي أحسن أحوالها الجهود المتناثرة التي لا تقيم للأمة أوداً. وفي أحوال غالبة فتور الاهتمام والسير مع موجات البشر المهتمين بأنفسهم وآمالهم، بمعناها الفردي الأناني فحسب.

 

وإذن فالموجة الجديدة من التدين تحتاج أن تُدرَك قبل أن تتبدد وتنضم إلى سابقاتها، وأتصور أن الحركة الإسلامية مرشحة للعب دور هام في حركة المتدينين الجدد في ظل الهزال الذي أصاب المؤسسة الدينية الرسمية منذ زمن.

ويرتبط بهذا الدور الذي أراه للحركة الإسلامية إدراك حجم التأثيرات التي رمتها بها حركة التدين الجديدº وهو ما يعطي الحركة مؤشراً على الدور الذي يمكن أن يلعبه المتدينون الجدد في التغيير بصفة عامة، خاصة مع ملاحظة ما يتميز به المتدينون الجدد من ديناميكية وفعالية غير مسبوقة.

لكن ما أود رصده هنا بشكل سريع أنه كما أثرت الحركة الإسلامية على هذه الموجات الشبابية المتدينةº فإنني أزعم أن هؤلاء المتدينين الجدد يؤثرون وسيؤثرون على الحركة وبرامجها وخططها.

 

تأثيرات فقهية واجتماعية:

بدأ التأثير في الحركة الإسلامية بالفعل خاصة في الجانب الاجتماعي الذي هو وثيق الصلة بالجانب الفقهيº فقد أصبح داخل الحركة الإسلامية الآن شبه حراك في هذين الجانبين، خاصة أن الحركة دعمت نمطاً معينا خلال الثمانينات.

مما يلفت النظر الآن - مثلا وليس حصراً - أن كثيراً من السيدات والفتيات المنتسبات إلى الحركة قد استبدلن بـ«الخمار» التقليدي الذي تعود عليه المجتمع المصري والذي كانت توصف كل من تلبسه بـ«الأخت»..استبدلن به غطاء الرأس والصدر القصير المتعدد الأنماط والألوان.هذا التغير وإن أخذ شكلاً مظهرياً إلا أنه ينبئ عن حراك ما، هذا الحراك ربما يكون تم تحت ضغط الأناقة التي يبدو عليها حجاب المتدينات الجدد، وانخراط الكثيرات منهن في مناشط الحركة، وربما تحت ضغط الانفتاح على أشكال الحجاب المختلفة (الإيراني والخليجي والأوروبي... ) التي وسعت الخيارات أمام هذا الجمهور الذي تعود على نمط واحد من الاختيارات.

ولكنه في رأيي يبقى تأثراً بالتدين الجديد، وثورة على النمط التقليدي الذي دعمته الحركة -ولو بطريق غير مباشر- في فترة الثمانينات.

 

ومن هذا التأثير تغير الأنماط السائدة في المناشط الاجتماعيةº كالأفراح والزياراتº فأصبح من الطبيعي والمعتاد أن تكون هناك أفراح مختلطة أو رحلات مشتركة، أو ما شابه.

ثانية هذه الملاحظات العابرة حول التأثيرات أيضاً: التعامل مع الفنونº فالقطاعات الشبابية داخل الحركة الإسلامية أصبحت تتعامل مع الفنون بقوةº بل أصبحت بعض التزكيات داخل الحركة توصي بمشاهدة بعض الأفلام السينمائية والأعمال المسرحية، وكثيرة هي النقاشات حول الأعمال الفنية حتى الهوليودية منها داخل مواقع الإنترنت، وساحات الحوار المتعلقة بالحركات الإسلامية.

 

تغير خريطة التأثير والتأثر:

ربما يكون السبب في هذه التأثيرات أن مصدر التلقي لم يعد واحداً، وأن وسائل الإعلام المتنوعة أتاحت أمام شباب الحركة قدراً وافراً من الاختيارات الحرةº وهو ما أدخل في العلاقة عناصر أخرى ساهمت في التوجيه، وغيرت المسار ولو بدرجات خفيفة.

إنني أتصور أن خريطة التأثير والتأثر في الدعوة الإسلامية تغيرت في الفترة الأخيرة -وما زالت- بشكل مباغتº ففي النمط المستقر كانت الخريطة تحتوي على فاعلين ووسط للتفاعل ومتلقين. الفاعلون كانوا غالباً رواد الحركات الإسلامية، وبشكل ما كان من الصعب اختراقها لصالح أفراد غير منتمينº فأحد المؤهلات الأساسية للظهور كان الانتماء لمؤسسة كبيرة، سواء كانت جماعة أو مؤسسة رسمية كالأزهر، ومن الطريف أن الإمامة ذاتها كانت تحتاج إلى انتماء، وهذا ما عبر عنه الشيخ الراحل «د. عبد الرشيد صقر» مرة، حين روى أنه كان يصلي مع مجموعة كان هو الوحيد الحافظ للقرآن الكريم، ومع ذلك قدم الجميع غيره، والسبب كان أنه سُجِن مدة أطول من د. عبد الرشيد صقر!!

لكن الخريطة الآن اختلفت من حيث التصنيفº فلم يعد هناك أطراف فاعلة وأخرى متلقيةº فالأطراف الفاعلة التي كانت تحتكر بشكل ما عملية التوجيه والتربية لم تعد كذلكº بل اللافت للنظر أنها أحياناً أصبحت متلقية من أطراف كان متوقعاً لها - حسب السيناريو القديم - أن تكون الجمهور المتلقي السلبي، وهذا ما يحدث في كثير من برامج الفضائيات التي أصبحت تشكل أكبر روافد تكوين أفكار المتدينين الجدد وشباب الحركة معاً. والطريف أن القائمين على هذه البرامج في مجملهم هم من الفئة الأولى.

ومن ذلك أن شباب الحركة بحكم سنهم احتكوا بوسط الإنترنت وانغمسوا فيه، وبالتالي فقد نهلوا من كثير من مواقع الإنترنت التي أقامها المتدينون الجدد.

ومنها أيضاً التأثر ببعض المتدينين الجدد الذين تحولوا إلى دعاة، واستطاعوا أن ينتقلوا بالأفكار الدعوية والتربوية إلى مدارات جديدة ومختلفة، منها إعادة عرض الأفكار الدعوية بشكل جديد، معتمدين على تقنيات حديثة، وأساليب مستحدثة، ومن هذه المشروعات المزدهرة في مصر: مدارس القرآن التي انتشرت بمنهجية متطورة وأسلوب عمل محترف، واعتماد على تقنيات جديدة، وكذلك العدد الضخم من الجمعيات الخيرية والأهلية التي تدار بمجلس إدارة أقل من الثلاثين عمرا، وبأفكار تنموية رائدة.

ببساطة: لقد أصبح التلقي تفاعلاً، بل وحالة خاصة من التفاعل، وهي حالة التفاعل المزدوج.

 

تنبؤات بتأثيرات مستقبلية:

السؤال الآن: هل يقف التأثير على الحركة الإسلامية عند هذا الحد أم يمتد الأمر للتأثير على أدبيات الحركة ذاتها وقواعدها الراسخة؟

هل سيقبل هذا الجيل أدبيات السمع والطاعة بينما تعوّد أن يشتبك مع العالم بالتساؤلات والتشكك؟

هل سيقبل هذا الجيل أدبيات السرية بينما يرى أن الدعوة العلنية تؤتي ثمارها بقوة ونضج؟

 

هل سيتقبل فكرة الجندية في ظل تمرده الدائم والمعلن؟

وكذا هل تتناسب هذه المفاهيم مع الكم الجماهيري الضخم «المتاح»؟

بسؤال أعم: هل سيقبل بفكرة الانتظام والانضواء؟ وهل سيعتقد بالوجوب الفقهي للانتماء إلى تنظيم؟

أتصور أن التأثير الأكبر على الحركة الإسلامية سيكون في إعادتها النظر في كثير من هذه الأدبيات وقواعد الانضمام إليها، وأسلوب الخطاب الذي تقدمه للجمهور، وهذا أيضاً أحد السبل لتجديد هذه الحركة.

ولا شك أن هذا التغير يحتاج في الأصل إلى تغير في نمط التفكير داخل الحركة الإسلامية.

 

ماذا على الحركة أن تفعل؟

إذا آمنت الحركة الإسلامية بالقدرات الضخمة للمتدينين الجدد وفعالية التغيير لديهمº ففي رأيي أن ثمة أخلاقيات لا بد أن تحكم عملها إذا ارتأت أن من صالح الأمة العمل مع هذه الجماهير العريضة، ومن هذه الأخلاقيات:

1- التجرد: فلا يكون المقصود أن تحاول الحركة اقتناص أكبر عدد من الأفرادº بل على العكس لا بد أن تطور الحركة من مفهومها في التعامل مع الجماهير من منطلق ملكية الأمة لهذه الجماهير، والتعامل معها بمنطلق مواكبة تغيراتها حرصا على المصلحة العليا للأمة، وخوفاً على تضييع فرصة تاريخية أخرى للنهوض الحضاري.

2- البعد عن التنافس الصبياني: هذا المناخ الجديد في الخريطة الإسلامية يواجه الحركة الإسلامية بعنصر إيجابي يشكل في الوقت نفسه تهديداًº وهو أن كثرة الفاعلين وتنوع اتجاهاتهم، وثراء مواهبهم، ونماء قدراتهم.. سيؤدي بلا شك إلى تنافس، وهذا هو الجانب الإيجابي في هذا العنصرº لأنه سيدفع نحو مزيد من التجويد، لكن الأزمة أن جهود هؤلاء الأفراد والجماعات من المتلقين ربما تسبق بشكل ما جهود الحركةº وذلك راجع لأسباب مختلفة، منها مثلاً صغر أهداف هذه المجموعات وتحديدها للهدف الذي تعمل لهº بما يجعل النجاح فيها سريعاً ومن السهل الحفاظ عليه. وبشكل طبيعي فإن الأعمال التي يقوم عليها فرد أو مجموعة صغيرة تكون غير مثقلة بإداريات أو أعباء هيكلية.

السؤال الذي لا بد أن تطرحه الحركة على نفسها، شعورياً على الأقل: هل هي تسمح أو تقبل بأن يتمدد هذا المارد (المتدينون الجدد) على حساب الحركة نفسها؟ لأن ثمة خطورة بالغة على كل الأطراف في أن يحكم التنافس الصبياني هذه العلاقة.

إذا اقتنعت الحركة أن المتدينين الجدد ملك للأمةº فستسود العلاقة الرشيدة التي تليق بالحركةº وهي - من وجهة نظري - توسعة المجال، والانسحاب من بعض الميادين التي يمكن أن يؤديها للأمة هذا الماردº تفرغاً لأدوار جديدة تلعبها الحركة في مدارات جديدة.

3- الانسحاب المحسوب والدور الملعوب: لا يمكن للحركة أن تؤدي هذا التفاعل إلا بأمرين من جانب الحركة، الثقة الشديدة بالنفس، والدور التأهيلي للمتدينين الجدد لمساعدتهم على القيام بهذه الأدوار، عن طريق الصقل والتوجيه غير المباشر. فهل يمكن للحركة أن تدرس الخيار الصعبº وهو الانسحاب من بعض أدوارها لصالح القوى المتصاعدة، أو لنقُل القيام بدور «المحفز» و«المفعل» ثم «المستشار» في مرحلة لاحقة؟

كما أن ذلك سيفيد الحركة كثيراًº إذ إن تنوع الممارسين في المجالات الدعوية والاجتماعية سيجعل هذه الأعمال من طبيعة المجتمع التي لا يمكن انتزاعها، وثوابته التي لا يمكن تغييرها، ولا شك أن إفادة كبيرة للحركة ستحدث، هي مبدأ التركيزº فالأدوار المنوطة بالحركة كبيرة، والسبل متشعبة، والتحديات صعبة.

 

لماذا التغيير؟

وأخيراً.. فإن تغيير الحركة الإسلامية لبرامجها في التعامل مع الشباب يصبح في رأيي هاماً جداً، ليس فقط لإحياء الحركة الإسلامية ذاتها، ولكن أولاً للاستفادة من هذا المخزون الضخم من الشباب الذي يحتاج لتوجيهه نحو مصالح الأمة العليا.

 

لقد كانت هناك أجيال سابقة إذا أرادت أن تعبر عن مشاعرها الدينية، وتظهر ملامح هذا التدين.. كان لزاماً عليها أن تنضم إلى جماعةº الأمر الذي كان يكلفها بمقتضى التضييق الأمني ضريبة لا يستطيعها كثيرون، وهي غير مطلوبة من الجميع. لكن هذا الجيل قام بنموذج مغايرº فهو يمارس العمل الدعوي ويعبر عن تدينه، وينشط اجتماعياً بل وسياسياً، دون أن يتعرض للملاحقة والاعتداء على حريته، كما أنه ينتمي لفكرته، ويصارع من أجلهاº حيث إن الوسائل من حوله تتيح له الحركة دون وصاية من تنظيم أو حدود من جماعة، ومعيار استمراره أو فشله مدى نفع ما يقدمه.

فهل يلتقي المتدينون الجدد بنشاطهم ومواهبهم وعالمهم المتسع وآفاقهم المفتوحة مع الحركة الإسلامية برصانتها وخبرتها وأفرادهاº لما فيه مصلحة الأمة؟ أم تنفضَّ الجموع بلا تغير ملموس في مستقبل أمتنا؟

هذا ما ستجيب عنه الأيام.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply