وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر


بسم الله الرحمن الرحيم

 

القول بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القول الراجح عند العلماء، والسائد عند الجمهور، وقيل هو المجمع عليه. وقد اعتمد أغلب العلماء إثبات الوجوب من الآيات والأحاديث المتضمنة الحكم دون ذكر تفاصيل الاستدلال بها، وذلك لشدّة وضوح دلالتها عندهم حتى قال أحدهم: (إنّ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرورة دينية عند المسلمين يستدلٌّ بها، ولا يستدلّ عليها).

 

وأما ما روي عن بعض العلماء مما يفهم منه عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقول بأنه نافلة، كالذي روي عن عبد الواحد بن زياد قال: \" قلت للحسن (البصري): يا أبا سعيد أرأيت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أفريضة هو؟ قال: لا، يا بني كان فريضة على بني إسرائيل فرحم الله هذه الأمة وضعفهم فجعله عليهم نافلة. \" (1) أو كالذي روي عن الحسن بن صالح قال: \" كتب عمرو بن عبيد الله إلى عبد الله بن شبرمة يعذله في تخلفه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكتب إليه عبد الله بن شبرمة:

الأمر يا عمرو بالمعروف  *** نـافلة والعـاملون بـه لله أنصار

والتاركون له ضعفا لهم عـذر  *** واللائمون لهم في ذاك أشرار

الأمر يا عمرو لا بالسيف تشهره *** على الأئمة إنّ القتل إضـرار (2)

فمحمول إن صحّ على حالة الضعف والخوف على النفس. ولدفع أي شبهة قد تشوب فَرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نذكر فيما يلي أدلة الوجوب من الكتاب والسنة مع بعض التفصيل.

 

أدلة الوجوب من القرآن

الآية الأولى، قوله - تعالى -: (كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ, أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللّهِ..) (آل عمران110)

قال الشيخ الطاهر بن عاشور: \" يتنزّل هذا منزلة التعليل لأمرهم بالدعوة إلى الخير وما بعده فإنّ قوله (تأمرون بالمعروف) حال من ضمير كنتم، فهو مؤذن بتعليل كونهم خير أمة فيترتب عليه أنّ ما كان فيه خيريتهم يجدر أن يفرض عليهم، إن لم يكن مفروضا من قبل، وأن يؤكّد عليهم فرضه إن كان قد فرض عليهم من قبل\".(3) وقيل إنّ معنى الآية: صرتم خير أُمّة، أو أنتم خير أمة خُلقت لأمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر وإيمانكم بالله، فتصير هذه الخصال الثلاث المذكورة على هذا القول شرطاً في كونهم خيراً.وهذه الخيرية التي نصّ عليها الشارع لا يستحقّها من المسلمين من أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحجّ البيت الحرام، والتزم فعل الحلال، واجتنب فعل الحرام، إلاّ بعد القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي بعد الوفاء بشرطها الذي حدّده الشارع عند التنصيص عليها، قال الشوكاني: \" وقوله (تأمرون بالمعروف) الخ كلام مستأنف يتضمن بيان كونهم خير أمة مع ما يشتمل عليه من أنهم خير أمة ما أقاموا على ذلك واتصفوا به، فإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر زال عنهم ذلك. \" (4)

ولذا نجد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول بعد أن قرأ الآية السّابقة: \"يا أيها الناس مَن سرّه أن يكون من هذه الأمَّةِ فليُؤَدِّ شَرطَ الله فيها\" وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله (كنتم خير أمة أخرجت للناس) يقول: \"على هذا الشرط. أن تأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر، وتؤمنوا بالله. \" (5)

 

الآية الثانية، قوله - تعالى -: (لَولاَ يَنهَاهُمُ الرَّبَّانِيٌّونَ وَالأَحبَارُ عَن قَولِهِمُ الإِثمَ وَأَكلِهِمُ السٌّحتَ لَبِئسَ مَا كَانُوا يَصنَعُونَ). (المائدة63)

إنّ هذه الآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي تدلّ على أنّ تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه. قال الطبري في تفسيره: \" أما قوله (لبئس ما كانوا يصنعون) وهذا قسم من الله أقسم به، يقول - تعالى -ذكره: أقسم لبئس الصنيع كان يصنع هؤلاء الربانيون والأحبار في تركهم نهي الذين يسارعون منهم في الإثم والعدوان وأكل السحت عما كانوا يفعلون من ذلك. وكان العلماء يقولون: ما في القرآن آية أشد توبيخا للعلماء من هذه الآية ولا أخوف عليهم منها. \"

 

الآية الثالثة، قوله - تعالى -: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَ ابنِ مَريَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وكَانُوا يَعتَدُونَ. كَانُوا لاَ يَتَنَاهَونَ عَن مٌّنكَرٍ, فَعَلُوهُ لَبِئسَ مَا كَانُوا يَفعَلُونَ). (المائدة78/79)

ففي هذه الآية يعلّل الله - سبحانه وتعالى - استحقاق بني إسرائيل اللعنة بتركهم النهي عن المنكر، فلو لم يكن النهي عن المنكر واجباً لما استحقوا اللعنة بتركهم إيّاه، لأنّ اللعنة أشدّ ما يعبّر به اللَّه - تعالى -عن غضبه تختص بترك الواجبات وفعل المحرّمات، لا بترك المندوبات وفعل المكروهات. قال الشوكاني: \"والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم القواعد الإسلامية وأجل الفرائض الشرعية، ولهذا كان تاركه شريكا لفاعل المعصية ومستحقا لغضب الله وانتقامه كما وقع لأهل السبت. فإنّ الله - سبحانه - مسخ من لم يشاركهم في الفعل ولكن ترك الإنكار عليهم، كما مسخ المعتدين فصاروا جميعا قردة وخنازير... ثمّ إنّ الله - سبحانه - قال مقبحا لعدم التناهي عن المنكر (لبئس ما كانوا يفعلون) أي من تركهم لإنكار ما يجب عليهم إنكاره. \" (6)

 

الآية الرابعة، قوله - تعالى -: (المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعضُهُم مِّن بَعضٍ, يَأمُرُونَ بِالمُنكَرِ وَيَنهَونَ عَنِ المَعرُوفِ وَيَقبِضُونَ أَيدِيَهُم نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُم إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ. ) ثمّ قوله - تعالى -: (وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاء بَعضٍ, يَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولَـئِكَ سَيرحمهم الله إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. ) (التوبة67و71)

لقد جعل الله - سبحانه وتعالى - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين، فدلّ كما يقول القرطبي في تفسيره - على \"أن أخصّ أوصاف المؤمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر\". وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة وأهل المنكر في الدنيا أهل المنكر في الآخرة. » (رواه الطبراني عن أبي موسى الأشعري) (7)

وفي جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصائص المؤمن وعكسه من خصائص المنافق، وترتيب الرحمة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما يدلّ على الوجوب.

 

ومما يدلّ أيضا على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو على أقلّ تقدير يؤيّد ثبوت الحكم لهما ويؤكّده، تكرّر اقتران ذكرهما في القرآن بالواجبات. من ذلك (تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللّهِ) و (يَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ.. ) و(الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُم فِي الأَرضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ. ) (الحج41) و(التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ المُؤمِنِينَ. ) (التوبة112)

فهذه جملة من الآيات القرآنية تدلّ مجتمعة، إن لم نقل منفردة، دلالة قوية على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

أدلة الوجوب من السنّة

الحديث الأوّل، عن حذيفة بن اليمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهوّن عن المنكر أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم. » (الترمذي)

 

الحديث الثاني، عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر الصديق قال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقابه. » (أخرجه أحمد) وفي رواية عند ابن ماجه، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ النّاس إذا رَأَوُا المُنكَرَ لاَ يُغَيِّرُونَهُ، أَوشَكَ أَن يَعُمَّهُمُ اللهُ بعقابه. »

 

الحديث الثالث، عن عدي بن عميرة أنّه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الخاصّة والعامّة». (أخرجه أحمد) وفي رواية للطبراني عن العرس بن عميرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى تعمل الخاصة بعمل تقدر العامة أن تغيره ولا تغيره فذاك حين يأذن الله في هلاك العامة والخاصة». (8)

 

فهذه الأحاديث الثلاثة كافية في بيان حكم الوجوب، وذلك لأنّها رتّبت العقاب والعذاب على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أمر في غاية الوضوح تدلّ عليه العبارات التالية: «عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم» و «يَعُمَّهُمُ اللهُ بعقابه» و «عذب الخاصّة والعامّة» و «هلاك العامة والخاصة». وقد تقرّر في علم أصول الفقه أنّ ترتيب عقوبة في الدنيا أو الآخرة، أو ما في معناها، على ترك فعل أو القيام به قرينة تفيد الجزم في الطلب، فهي تعيّن الفرض والحرام.

وعليه فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب بشهادة القرآن والسنة.

 

-------------------------------------------------

الهوامش:

* هذا المقال مقتطف من كتاب \"من أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر\" لياسين بن مصطفى.

(1) كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأبي بكر الخلال، ص27

(2) المصدر نفسه ص32

(3) في تفسيره التحرير والتنوير ص48 ج4 م3

(4) في تفسيره: فتح القدير ج1 ص371

(5) انظر الدر المنثور للسيوطي 2/63

(6) فتح القدير ج2 ص66

(7) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج9 ص520): رواه الطبراني في الصغير، ورجاله وثقوا وفي بعضهم كلام لا يضر.

(8) أخرجه في المعجم الكبير. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج7 ص529): رجاله ثقات.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply