دور الشعر في مسيرة الدعوة الإسلامية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين.

وبعد،

الشِّعر في رحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

ولنأتِ إلى المحور الأوّل وهو:

الشِّعر في رحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -º وهذا باب واسع وطويل. ولعلّ عندما نتكلّم عن الشِّعر في رحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نرجع مرة أخرى إلى قضية الإسلام وضُعف الشعر، وأنّ مِن الذين أشاروا إلى ذلك: الأستاذ فون، قال: \"إن الإسلام أضعَفَ الشِّعر العربي، مع أننا لا نستطيع أن نتجاهل أنّ الشِّعر التقليدي كاد يستكمل شوطه عند ظهور النبي محمدº فإنه يتعذر علينا أن نتغاضى عن القول بأن رسالته الدِّينيّة قد أصابت نموّ الشِّعر الطبيعي بشديد الأذى\".

وهكذا كلام مرفوض، يقول: \" رسالته الدِّينيّة - أي: رسالة الإسلام - قد أصابت نموّ الشِّعر الطبيعي بشديد الأذى \" كلام مرفوض . وقد رد عليه العلماء الكثيرون. وأيضاً بروكلمان صاحب كتاب \"تاريخ الأدب العربي\" عارض هذا الرأي -يعني: من أبناء جلدته، ليس العرب فقط، وليس المسلمون، ولكن من الأجانب أيضاً مَن عارض ذلك-. وبروكلمان هذا رجل مشهور كَتَب كتاب \"تاريخ الأدب العربي\"، وكتاب موسوعي فيه تاريخ الأدب والتّراجم والمصادر وما إلى ذلك. يقول -أي: بروكلمان-: \"وقد قيل إن لبيداً لم يقُل شعراً في الإسلام، وليس هذا بصحيحº فإن كثيراً مِن شِعره مطبوعٌ بطابع الوحي وليس بطابع جاهليّ. ويَبعُد أن تكون كلّ هذه الأبيات منحولة عليه، وإن ظهر فيها شيء من التّزيّد\".

وهذا الرّدّ موجود في \"تاريخ الأدب العربي\" لبروكلمان (الجزء الأول، ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار).

وأيضاً، الدكتور كمال يازجي يصِف هذا الزّعم من الأستاذ فون، فيقول: \"لأن لبيداً نظم كثيراً من قصائده التي وصلتنا بعد إسلامه، غير أنه أجبل في آخر عمره عن قول الشعر بسبب الضعف والشيخوخة، وكان عمره حين أسلم يقارب الثمانين أو يزيد.

وقيل: إن لبيداً دخل الإسلام في سن التّسعين من عمره. ويقول مالك بن أنس: بلغنا أن لبيد بن ربيعة مات وهو ابن (140) سنة.

وقيل إنه مات وهو ابن (157) سنة، في أوّل خلافة معاوية.

فهذا العمر الطويل، فبعد المائة قد يكون توقّف، أمّا قبل ذلك فله شعر كثير.

وإنه قال شعراً حكى فيه عن هذه المراحل، حيث يروي يوسف بن عمرو، كان من كبار أصحاب ابن وهب، عن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: \"رويت للبيد اثنَي عشر ألف بيت\".

هذه المقولة مرويّة عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: \"رويتُ للبيد اثنَي عشر ألف بيت\"، وهذا يرفض كلّ الإدعاءات التي قِيلت إن لبيد توقّف عن قول الشِّعر في إسلامه.

وقد أكّد هذه الرواية ابن رشيق القيرواني، فذكر أن عائشة -رضي الله عنها - كانت كثيرة الرواية للشعر، ويُقال كانت تروي جميع شعر لبيد. وقال لبيد لمّا بلغ سبعاً وسبعين سنة:

باتت تشكي إليَّ النفسُ مُجهَدة ***  وقد حملتكَ سبعاً بعد سبعينَا

فإن تُزادي ثلاثاً تبلُغي أملاً ***  وفي الثلاث وفاء للثمانينَا

وعندما بلغ التّسعين قال كلاماً، وعندما بلغ المائة وعشرة، والمائة والعشرينº كلّ هذا نجد أنه مدخل إلى القول بأنّ الشّعر في الإسلام قويَ، وأنّ الشِّعر في رحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن مرفوضاًº بل الشعراء افتخروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يرفض النبي ذلك. فمن هذا الفخر نجد عمّه أبا طالب ولم يكن مشهوراً بالشِّعر، ولكنه قال فخراً، قال شعراً في الفخر بالنبي - صلى الله عليه وسلم -:

إذا اجتمعت يوماً قريش لمفخرٍ,  *** فعبد مناف سرّها وصميمُها

وإن حصلت أشراف عبد منافِها  *** ففي هاشم أشرافُها وقديمُها

وإن فخرت يوماً فإن محمداً هو  *** المصطفى مِن سرِّها وكريمِها

هذا الكلام من أبي طالب، رغم أنه لم يتبع الإسلام، ولكنه كان يحبّ محمداً لأنه ابن أخيه، وكان يدافع عنه، وكان يحميه من أعدائه، وتوعّدَ قريشاً أنه لن يُسلم محمداً إليهم عندما كانوا يساومونه على أن يأخذوا محمداً ويُعطوه فتىً بدلاً منه...

هذا الفخر، رأينا أيضاً حسَّان بن ثابت يفتخر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في كثير من أشعاره، وديوانه مليء لأنه كان شاعر المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فيقول وهو يتحدّى أبا سفيان بن الحارث الذي هجا رسول الله، يقول حسَّان بن ثابت في أبيات مشهورة:

هجوتَ محمداً فأجبتُ  *** عنه وعند الله في ذاك الجزاءُ

فإن أبي ووالدَه وعِرضي  *** لعِرض محمدٍ, منكم وقاءُ

أتهجوه ولست له بكُفؤ  *** فشرٌّكما لخيرِكما الفداءُ

هذه الأبيات موجودة في ديوان حسَّان، وموجودة أيضاً في \"الأغاني\"، و\"الاستيعاب\" لابن عبد البَر، وغيرها... وهذا يدلّ على أنّ الشِّعر لم يكن يرفضه - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن يُعاديه، بل كان يؤيّد منه ما يتوافق مع آفاق الدعوة الإسلامية ومع منهجها.

ونجد من هذا أيضاً، من محاور ومعالم الشِّعر في رحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبياتاً أو قصائد تدافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند عبد الله بن رواحة، وأبي طالب، وبقيس بن الأسلت.

هذا الدّفاع شعر كثير لو جمعناه لرأينا فيه مجلّدات ضخمة. وأبو طالب أيضاً وربما يكون بعض الشِّعر أضيف إليه، ولكنه عربي وصاحب ذوق وصاحب إحساس، ولم يكن الشعر مهنته ولا حرفته، ولكنه كان يقوله بين الحين والآخر. يقول في الدفاع عن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - حينما هاجمه الناس بأنه ساحر أو كاهن أو شاعر، أو يحتاج الرئاسة أو ما إلى ذلك... فقال:

كذبتم وبيت الله يبزي محمدَا  *** ولمّا نُطاعن دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرّع حوله *** ونذهل عن أبنائنا والحلائل

وهذا دفاع وتصدٍّ,. وقال: \"لن نُسلمك إليهم أبداً. امضِ لِمَا أنت فيه! \". ويقول بقيس بن أسلت، وهو أيضاً من الشعراء الذين أسلموا، وكان يتصدّى لقريش وهي تهاجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتتوعده. وقد حاولوا أن يقتلوه وهو مهاجر إلى المدينة المنورة، ونام علي مكانه. وكثيراً ما تعرض له بالأذى والمؤامرات والسم وأشياء كثيرة، ولكن الله يرعاه ويحفظه، وادّخره لإتمام الرسالة. وفعلاً أتمّ الله النعمة على البشرية في قوله - سبحانه -: {إِذَا جَاءَ نَصرُ اللَّهِ وَالفَتحُ * وَرَأَيتَ النَّاسَ يَدخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفوَاجاً * فَسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ وَاستَغفِرهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}.

يقول بقيس بن الأسلت:

أقيموا لنا ديناً حنيفاً فأنتمُ *** لنا غاية قد يهتدي بالذوائبِ

وأنتم لهذا الناس نورٌ وعصمة  *** تؤمّون والأحلام غير عوازبِ

فالدفاع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يمثّل شرياناً هاماً من شرايين الدعوة الإسلامية، وعبد الله بن رواحة أيضاً رأيناه يتحدّث كثيراً، ويدافع أيضاً عن المسلمين، ويدافع عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وابن سلام يأتي بهذه الأبيات أيضاً، وقد تحدث ابن سلام عن حُسن إسلامه، وأنه كان أحد الأمراء الثلاثة الذين قُتلوا يوم مؤتة. وأثبت له من هجائه لقريش ومن دفاع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن فخره أيضاً يقول:

نجالد الناس عن عرض فنأسرهم  *** فينا النبيّ وفينا تنزل السٌّوَرُ

وقد علمتم بأنّا ليس غالبنا حيّ  *** من الناس إن عزّوا وإن كثروا

يا هاشمَ الخير إنّ الله فضّلكم  *** على البريّة فضلاً ما له غِيَرُ

فثبّت الله ما آتاك مِن حسن تثبيتَ  *** موسى ونصراً كالذي نُصِروا

هذا يقال في الدفاع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والفخر بالإسلام والمسلمين. وقيل الشعر، ولم يعترض عليه نبي الله، بل أيّده وآزره، ودعا لهم بالتوفيق. وقال: ((إن هؤلاء النّفر كلامهم أشد على قريش من نضح النبل))، معنى هذا: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقبل الشعر والشعراء.

أيضاً، نرى أنّ هذا الدفاع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ضدّ المشركين أو الشعراء الذين كانوا يَهجون رسول الله والصحابة وقتها. وبعضهم أسلم بعد ذلك، وتاب وندم، مثل: عبد الله بن الزبعرى وأبو سفيان بن الحارث، أبو عزة الجمحي، وهبير بن وهب المخزومي.

من المعالم التي تدلّ على أن الشِّعر في رحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مقبولاً، ولم يرفضه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مدح الرسول للاعتذار إليه، وليس مدحاً فيه مبالغة، وليس مدحاً فيه إخراج الرسول عن بشريّته، وليس فيه شيء يخالف الشريعةº ولكن المدح هو حقائق واقعية، وصفات قائمة في رسول الله، ومواقف تؤيّد ما عليه رسول الله من شمائل ومن أخلاق ومن سمات. وكتب السِّيرة تفيض وكتاب \"الشفا\" للقاضي عياض اليحصبي في أحوال المصطفى، هذا كتاب زاخر بما عليه الرسول من سمات ومن شمائل ومن أخلاق، ومن صفات معنوية وصفات حسية...

نجد أنّ كعب بن زهير في قصيدته التي يبدؤها بدءاً ربما يبدو للبعض أنه بدء غير موفَّق، أو أنّ النص يتكوّن من تسعة وخمسين بيتاً.

وكان قد أهدر الرسول دمه. والقصة طويلة والوقت لا يتسع لكي نسردها، ولكن الرجل كان قد أسلم أخوه بجير، فلما علِم كعب بإسلام أخيه غضب وثار، وصار يقول الشّعر في هجاء المسلمين والنيل من رسول الله. وأرسل أبياتاً إلى أخيه بجير يُعاتبه فيها ويُؤنّبه، ويقول:

ألاَ أبلغا عني بجيراً رسالةً فهل *** لك فيما قلتُ ويحك هل لَك

سقاك أبو بكر بكأس رويّة  *** فأنهلك المأمون منها وعلّك

ففارقتَ أسبابَ الهدى وتبعتَه  *** على أي شيء وي بغيرك دلّك

على مذهب لم تُلف أماً ولا  *** أباً عليه ولم تعرف عليه أخاً لَك

فإن أنت لم تفعل فلستُ بآسف *** ولا قائل إمّا عثرت لعلّك

كلمة: \"لعلّك\" تُقال للعاثر، دعاء له بأنه يُقال مِن عثرته. فهو يُؤنِّب أخاه على الإسلام. وهذه الأبيات تَرِد بروايات مختلفة في \"السيرة النبوية\" لابن هشام، وفي ديوان كعب، وفي كتاب \"الكامل\" للمبرد. وبعث كعب بهذه الرسالة إلى بجير -الرسالة الشعرية-. فلما أتت بجيراً، كره أن يكتمها رسول الله ولا يخبر بها، وفعلا أخبر بها الرسول وفي ذلك أمانة من بجير وحب للإسلام، وتعضد أخوة الإيمان وهي فوق أخوة النسب. وقد أنشد بجير الرسول هذه القصيدة أو هذه المقطوعة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سمع: \"سقاك بها المأمون كأساً رويّة\" قال - صلى الله عليه وسلم -: ((صدَق، وإنه لكذوب. أنا المأمون)). ولمّا سمع \"على خلق لم تلف أماً ولا أباً\" قال: ((أجَل. لم يلف عليه أباه ولا أمّه)).

إذاً، وجّه الرسول بعض المعاني توجيهاً راشداً وتوجيهاً صحيحاً، ولكن قال: صدق في الكلام وإنه لكذوب، لأنه له نيّة غير هذا، وكلامه موجّه غير الوجهة التي وجّه بها رسول الله.

ولقد أصدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توعٌّدَه لكعب بعد أن وصلته قصائد كعب في هجاء الإسلام والمسلمين، وفي مقدمتهم الرسول فقال: ((من لقي كعباً فليقتله)). وقام بجير بالرد على كعب يحذِّره من الغلو في معاداته للإسلام، ويبرأ من عقائد الجاهلية، ويدعوه إلى الدِّين الجديد. وفي هذا المَنحى من بجير إدراكٌ واعٍ, لدور الشعر في الإسلام، فهو دور إيجابي يشارك في إرساء الأسس الجوهرية للحضارة الإسلامية، وانتشار هذه الحضارة في ربوع الأرض، والتسامي فوق رغبات الدنيا والعصبيات القبلية وأواصر الدم إن كانت هذه الأواصر ستقطع العلاقة الإيمانية بين المتآخين في الإسلام.

ماذا يقول بجير في الرد على أخيه، وأن أخوّة الإيمان هنا علَت فوق أخوّة النسب. فالمؤمنون إخوة يقول:

مَن مبلغُ كعباً فهل لك في التي *** تلوم عليها باطلاً وهي أحزمُ

إلى الله لا العُزّى ولا اللاة وحدَه *** فتنجُو إذا كان النجاء وتَسلمُ

لدى يوم لا ينجو وليس بمُفلت *** من الناس إلاّ طاهر القلب مسلمُ

فدينُ زهيرٍ, وهو لا شيء دينُه *** ودين أبي سُلمى عليَّ محرّمُ

فلمّا بلغ كعباً الكتاب -كما يقول ابن هشام رواية عن ابن إسحاق-، ضاقت به الأرض، وأشفق على نفسه بعد أن تيقّن من وعيد الرسول له، وأرجف به من كان في حاضره من عدوه، فقالوا هو مقتول.

ولجأ كعبٌ إلى قبيلة مزينة تجيره، فأبت عليه ذلك. فضاقت به الأرض، وأشفق على نفسه. وذكَر كتاب أخيه بجير إلى حيث قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أهدر دمَك، وأنه قتل رجالاً بمكة ممّن كان يهجوه ويؤذيه، وأنه من بقي من شعراء قريش كابن الزبعرى وهبير بن وهب قد هربوا في كلّ وجه. وما أحسبك ناجياً.

فإن كان لك في نفسك حاجة، فصِر إليه فإنه يقبل من أتاه تائباً. وهذا هو مفتاح القصة، أو هو المخرج.

فإن كان لك في نفسك حاجة إن كنت حريصاً على الحياة، فصِر إلى رسول الله، فإنه يقبل من أتاه تائباً، ولا يطالبه ما تقدّم الإسلام. وإن أنت لم تفعل، فانجُ إلى نجائك من الأرض.

فنجد أن كعباً ذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والرواية طويلة، ولكن الرسول قبل توبته حتى عندما جاء كعب إلى الرسول ليستأمن منه ويتوب ويُسلم، قال له: يا رسول الله، إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائباً مسلماً، فهل أنت قابله إن أنا جئتك به؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم))، قال: يا رسول الله. أنا كعب بن زهير. فوثب عليه رجل من الأنصار. فقال: يا رسول الله. دعني وعدو الله أضرب عنقه! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دعه عنك! فإنه قد جاء تائباً، نازعاً عمَّا كان عليه)). قال: فغضب كعب على هذا الحيّ من الأنصار لِما صنع به صاحبهم. وكان في نصه وفي قصيدته مدح المهاجرين ولم يمدح الأنصار. وقال الرسول يحثّه ويرغِّبه في مدح الأنصار: ((ألاَ ذكرتَ الأنصار بخير؟))، أي: يعني أنّ الرسول سمع منه التوبة والإشادة بالمهاجرين، فقال: ألا ذكرت الأنصار بخير؟ أي: ألا قلت شعراً تُشيد فيه بالأنصار؟ فإن الأنصار لذلك أهل. وقال المهاجرون: ما مدحنا منهج الأنصار. قد اعتذرت إليه الأنصار. فتعطفت عليه وأهدت إليه، فنظم كعب في الأنصار قصيدة منها هذا البيت:

من سرّه كرمُ الحياة فلا يزل  *** في مقنب من صالح الأنصارِ

وأنشد كعب بن زهير الرسول - عليه الصلاة والسلام - قصيدته الرائعة، فكانت مفتاح الخير ونافذة الضوء التي استمد منها شعراء العربية أقباس الشمائل المحمدية في رصدهم لها وسياحتهم وسباحتهم في محبة النبي الكريم.

هذه القصيدة بعدما تاب كعب، تبلغ تسعة وخمسين بيتاً، منها خمسة عشر بيتاً تقريباً بدأ بها بداية تقليدية في وصف سعاد وصفاً حسياً ووصفاً معنوياً، ووصف شمائلها المكروهة وقال من هذه الأبيات:

أكرِم بها خلّة لو أنها صدقت  *** موعودها أو لو أنّ النصح مقبولُ

لكنها خلة قد سيط من دمها  *** فجعٌ وولعٌ وإخلاف وتبديلُ

فما تدوم على حالٍ, تكون بها  *** كما تلوّن في أثوابها الغولُ

ولا تمسّكُ بالعهد التي زعمت *** إلاّ كما يُمسك الماءَ الغرابيلُ

فلا يَغرّنك ما منّت وما وعدت  *** إنّ الأمانيَّ والأحلامَ تضليلُ

كانت مواعيدُ عرقوبٍ, لها مثلاً  *** وما مواعيدُها إلاَّ الأباطيلُ

إلى آخر هذا... فبدأ بأوصاف سعاد هذه أوصافاً مقبولة في الأوّل ثم أوصاف مرفوضة، ثم بدأ في وصف النّاقة وصفاً دقيقاً وعجيباً أكثر من اثنين وعشرين بيتاً. وهناك بعد الأبيات قرب الأبيات الأربعين، يبدأ يصف موقفه من رسول الله، ويَعرض قضيته أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والرسول يسمع. فماذا قال أمام الرسول، بعد هذا التحليق، وهذا التدقيق في وصف الناقة؟ ولكنه لم يكن منفصلاً عن نفسه وعن ذاته. يقول هذا النص في صوَره لأنها أغلبها صور جنائزية، وكان يخاف الموت، وحُكم عليه بالموت فكان طائف الموت يلمّ به، ويريد أن ينجو بنفسه، فيقول أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

يسعى الوشاة بجنبيها وقولهمُ *** إنك يا ابن أبي سلمَى لمقتولُ

وقال كلّ خليل كنتُ آمله *** لا ألهينّك إني عنك مشغولُ

فقلت خلّوا سبيلي لا أبا لكمُ  *** فكلّ ما قدّر الرحمنُ مفعولُ

إذاً، الرجل تاب ولا شكّ عنده بقايا من التعاليم الدينية كانت معروفة أيضاً في العصر الجاهلي، والشعراء الحنفاء في الجاهلية لهم قدرهم ولهم مكانتهم ولهم فكرهم، فقال:

فقلت خلّوا سبيلي لا أبا لكم *** فكلّ ما قدّر الرحمنُ مفعولٌ

وكلّ ابن أنثى وإن طالت سلامتُه *** يوماً على آلة حدباءَ محمولُ

أُنبئت أنّ رسولَ الله أوعدني  *** والعفوُ عند رسول الله مأمولُ

مهلاً هداك الذي أعطاك نافلَة الــ *** ــقُرآن فيها مواعيظٌ وتفصيلُ

لا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم *** أذنِب وإن كثرت فيّ الأقاويلُ

وهذا البيت أيضا ربما يعترض عليه لأنه ليس وشاية ولكنه كلام صحيح. هو أذنب وهجا ولكن يبدو الفترة التي عزم فيها على أن يتوب إلى أن جاء إلى رسول الله أخذ وقتاً، ورغم ذلك كان الناس لا يصدِّقونه ويذهبون بالوشاية، ويقولون عنه كلاماً هو أقلع عنه. يقول:

لا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم  ***أذنب وإن كثرت فيّ الأقاويلُ

لقد أقوم مقاماً لو يقوم به ***أرى وأسمع ما لو يسمع الفيلُ

لظلّ يرعد إلّا أن يكون له ***من النبي بإذن الله تنويلُ

ووصف هيبة الرسول فقال لو كان ***يقف هنا فيل ضخم لخاف وارتعد.

حَتَّى وَضَعتُ يَميني لا أُنازِعُهُ  ***في كَفِّ ذِي نَقِماتٍ, قِيلُهُ القِيلُ

ولَهو أَهيَبُ عِندي إذ أُكَلِّمُهُ ***وقيلَ إنَّكَ مَنسوبٌ ومَسؤُولُ

مِن ضيغمٍ, مِن ضرائع الأُسدِ *** مخدره ببَطنِ عَثَّرَ غِيلٌ دونَهُ غيلُ

يَغدو فَيلحمُ ضِرغامَينِ عَيشُهُما ***لَحمٌ مَنَ القَومِ مَعفورٌ خَراديلُ

إِذا يُساوِرُ قِرناً لا يَحِلٌّ لَهُ أن ***يَترُكَ القِرنَ إلاَّ وهوَ مَفلُولُ

مِنهُ تَظَلٌّ حمير الوحش ضامِزَةً ***ولا تَمَشَّى بَوادِيهِ الأراجِيلُ

ولا يَزالُ بِواديهِ أخُو ثِقَةٍ,  ***مُطَرَّحَ اللحم والدَّرسانِ مَأكولُ

ثم بعد هذه الصورة الكلية الشعرية الممتدّة في وصف هيبة رسول الله، وأنه يجمع صفات الأسد من القوة ومن العطاء ومن حماية الغير وما إلى ذلك... فيقول:

إنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُستَضاءُ بِهِ  *** وصارم مِن سُيوفِ اللهِ مَسلُولُ

في عُصبَةٍ, مِن قُريشٍ, قال قائِلُهُم ***َ بِبَطنِ مَكَّةَ لَمَّا أسلَمُوا زُولُوا

زالُوا فمَا زالَ أَنكاسٌ ولا كُشُفٌ ***عِندَ الِّلقاءِ ولا مِيلٌ مَعازيلُ

هذه القصة وهذا الكلام الذي قيل أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأيناه بعد هذا كلّه يخلع بُردته ويعطيها لكعبٍ, بن زهير، مكافأة له على هذا. وكان هذا تقليداً عربياً وأقرّه الرسول، بأنّ هذا يُعدّ إسباغ حماية لا حدّ لها وأماناً على هذا الشِّعر ضدّ من يعادي.

هذا المدح والاعتذار لرسول الله، نراه جاء بعد ذلك على لسان عبد الله بن الزبعرى بعدما أسلم وحسن إسلامه، رأيناه يقول شعراً كثيراً في الاعتذار وفي الندم على ما فات منه، وما فرط في أيام أن كان مشركاً، وأيام كان يتصدّى للإسلام ويعارض المسلمين.

ومن معالم الشِّعر في رحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رثاء الرسول، عندما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، انطلق الشعراء بقصائد الرثاء لما يصوّرون ويرصدون شمائل الرسول، وأخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وما أدّاه من دور في الإسلام وفي الغزوات الإسلامية والمعارك الإسلامية، ومن الإخاء بين المهاجرين والأنصار، ومن تغيير معالم المنطقة العربية كلّها بل معالم العالَم كلّه بعد ذلك برسالة الإسلام الخالدة. فنرى أن حسَّان بن ثابت يرصد هذا الكلام وله في رثاء النبي - صلى الله عليه وسلم - شعراً كثيراً ومن قوله:

فبوركتَ يا مهد الرسول وبوركت ***بلادٌ ثوى فيها الرشيد المسدَّدُ

قد غيّبوا حِلماً وعدلاً ورحمةً  ***عشية علّوه الثرى لا يوسّدُ

وراحوا بحزنٍ, ليس فيهم نبيٌّهم  ***قد وهنت منهم ظهور وأعضُدُ

يبكون مَن تبكي السماوات يومَه *** ومَن قد بكته الأرض فالناس أكمدُ

وهل عدلت يوماً رزيةُ هالكٍ,  *** رزيّةَ يوم مات فيه محمّدُ

هذا كلام بدافع الحب ودافع التقدير. وأيضاً يقول مُشيداً بأخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقدره وأفضاله:

تالله ما حملت أنثى ولا وضعت ***مثل الرسول نبيّ الأمة الهادي

ولا برأ الله خلقاً من بريّته  *** أوفَى بذمة جارٍ, أو بميعادِ

مِن الذي كان فينا يُستضاء  *** به مبارك الأمر ذا عدل وإرشادِ

إذاً، نحن أمام تأييد كاملٍ, من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للشعر المنطلق في آفاق الدعوة الإسلامية، الذي يفخر بالنبي، والذي يدافع عنه، والذي يمدحه ويعتذر إليه، مدحاً فيه قصد واعتدال وإشادة بالأخلاق والشمائل المحمدية، وأيضاً عندما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأينا الشعراء يُلقون في قصائدهم الرثائية.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply