لا تيأس


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله يجتبي من يشاء، ويهدي إليه من ينيب.

نعيش اليوم ثلاثة مشاهد، نستلهم منها درسا، ونقطف منها عبرة، ونغرس بها يقينا، ونقوي بها عزما.

أما المشهد الأول: فإن عامر بن ربيعة - رضي الله عنه -، أحد السابقين في الإسلام، كان يستعد للهجرة إلى الحبشة، فذهب ليقضي بعض حاجات أهله، وترك زوجه تنهي بعضها، فأقبل عليها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، حتى وقف عليها وهو على شركه، قالت: وكنا نلقى منه البلاء أذى لنا وشدة علينا. قالت: فقال: إنه الانطلاق يا أم عبد الله. قالت: فقلت: نعم والله، لنخرجن في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا. حتى يجعل الله فرجا. قالت: فقال: صحبكم الله. ورأيت له رقة لم أكن أراها، ثم انصرف. وقد أحزنه فيما أرى خروجنا. قالت: فجاء عامر بحاجته تلك، فقلت له: يا أبا عبد الله لو رأيت عمر آنفا ورقته وحزنه علينا. قال: أطمعت في إسلامه؟ قالت: قلت: نعم. قال: فلا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب. قالت: يأسا منه، لما كان يرى من غلظته وقسوته عن الإسلام.

 

لقد يأس الصحابي السابق في إسلامه، المهاجر فرارا بدينه، من أن يفتنه قومه، يأس من إسلام عمر، فقد كان عمر شديد البطش بالمسلمين، قاسيا غليظا. ولكن ما كان ميئوسا منه وقع، وأسلم عمر، بل سبق اليائس منه في المنزلة، والمكانة، وغدا ثالث رجل في دولة الإسلام، وسماه الرسول - صلى الله عليه وسلم - الفاروق، وكان إسلامه عزا للإسلام وأهله.

والعجيب أيها الإخوة الأحبة أن أكثر المسلمين لا يعرفون عامرا، وليس فيهم من لا يعرف عمر - رضي الله عنهما -.

 

لقد من الله - تعالى - على عمر بما لم يمن به على اليائس من إسلام عمر، وتفضل على الميئوس منه بفضل عميم لم ينله اليائس ذلكم أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

 

المشهد الثاني: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قادم من الطائف، مجروح فؤاده، منهكة قواه، شارد ذهنه، يائسا من خير ثقيف، فقد مكث بينهم عشرة أيام يدعوهم إلى عبادة الله وحده، فقالوا: اخرج من بلادنا. وأغروا به سفهاءهم، فتبعوه يسبونه ويصيحون به، ورموه بالحجارة في عراقيبه، حتى اختضب نعلاه بالدماء، فلما رجع من الطائف بحاله تلك كئيبا، محزونا، كسير القلب، قد أجهد أيما إجهاد، ونال منه التعب كل منال. يقول - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه: فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب أي قرن المنازل المعروف اليوم بالسيل الكبير. فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: يا محمد، ذلك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. أي: لفعلت.

فيا لروعة المشهد، فما بين هلاك مكة عن بكرة أبيها إلا أن يشاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنها لحظة الانتقام، شفاء الغل، سحق الكافرين، والممتع في المشهد أن الدليل ناصع البيان، صحيح صريح، لا تأويل فيه، ولا احتمال، بأمر ربه يهلكهم، بإشارة منه يعلمون أن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير. وما هو بملوم، من ذا يستطيع أن يلومه؟ لقد كذبوه، وآذوه، وقتلوا أصحابه، وفتنوهم في دينهم، وعذبوهم، واضطروهم للهجرة مرتين، ولا يزالون حجر عثرة في طريق الدعوة، ونشر دين الله - تعالى -. ثم إن الذي يأذن له رب السماوات والأرض، فوالله لو انتقم لنفسه، وانتصر لأتباعه فما هو بملوم. ولكنه اختار أروع، وأفضل، وأسمى من الانتقام، وأجل وأعظم من حظ النفس، وراحتها، وهنأها، فقال للملك: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا.

إنها شيمة العظماء، وتصرف الكرماء، وقمة الإباء، ولا يحتملها إلا الأنبياء، وأتباعهم من أكابر العلماء، وصفوة الأتقياء.

نهض - صلى الله عليه وسلم - من الوقوع في عذاب النفس نشطا قويا، ناظرا بفراسة التقي إلى المستقبل، إلى البناء، إلى الإسلام دينا قيما، راية باسقة في علوها، جامعة بين دنو الأرض، وارتفاع السماء.

أيها المسلمون: فلننتقل سويا على المشهد الثالث: لنرى الحبيب بأبي هو وأمي صلوات ربي وسلامه عليه، لنراه وقد احتدم القتال حوله، في أحد، وبدء المشركون يطوقونه يريدون الفتك به، ولم يكن معه إلا تسعة من أصحابه، فالتحموا مع المشركين في قتال عنيف، ظهرت فيه نوادر الحب والتفاني، والبطولة والبسالة والفداء. فإنه لما أفرد - صلى الله عليه وسلم - ورهقه المشركون، قال: من يردهم عنا وله الجنة؟ أو هو رفيقي في الجنة فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، وهكذا، حتى قتل سبعة من الأنصار، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما أنصفنا أصحابنا. وبقي عليه الصلاة في القرشيين من أصحابه، هما طلحة وسعد، فكانت فرصة لا تعوض للمشركين في النيل منه، وطمعوا في القضاء عليه، فرماه عتبة بن أبي وقاص بالحجارة، فوقع - صلى الله عليه وسلم - لشقه. وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى، وكلمت شفته السفلى. وتقدم إليه عبد الله بن شهاب الزهري فشجه في جبهته، وجاء فاؤس عنيد يقال له عبد الله بن قمئة، فضرب على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة، ظل - صلى الله عليه وسلم - يشكو منها أكثر من شهر. ثم ضرب وجنته ضربة أخرى عنيفة كالأولى، حتى دخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، وقال: خذها وأنا ابن قمئة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يمسح الدم عن وجهه: أقمأك الله.

وفي الصحيحين: فجعل يسلت الدم عنه ويقول: كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله. وعند الطبراني أنه قال: اشتد غضب الله على قوم أدموا وجه رسوله.

فيا أيها المسلمون: هل ترون مقالته إلا حقا أبلج، نعم كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله، وما أشد غضب الله على من أدمى وجه رسوله. فإذا كنا بعد أربعة عشر قرنا وربع القرن نكاد نتميز من الغيظ على ابن قمئة وأصحابه، فكيف يلام صاحب البلاء نفسه؟ أو من قد حضر معه الواقعة، وعاش معه ذلك المشهد رأي العين؟ ولكن هي لحظة، ما لبث أن استدركها - صلى الله عليه وسلم -، كأنه يعاتب نفسه مع ما فيه من آلام وجراح، وما يعلمه من الحق الذي معه، والباطل الذي يتمسك به قومه. فمكث ساعة ثم قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.

وأنزل المولى- تبارك وتعالى - قوله: ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون.

إخوة الدين والعقيدة: من هذه المشاهد الثلاث، نستلهم درسا مهما، ما أحوجنا إليه في أيامنا هذه، ولو عقل الدرس بعض القوم لما انتهكت أعراض المسلمين، وسفكت دماؤهم، وجروا إلى مواجهة يعلم الكل أنهم فيها هم الخاسرون.

نعم أيها الأحبة: إن أهم ما نقطف من ثمار هذه المشاهد أن لا نيأس، لا نيأس من رحمة الله، ولا من نصر الله، ولا من هداية الله لأي كان.

فعمر أسلم، وقد ظن عامر أن يسلم الحمار دونه، وأمهل النبي - صلى الله عليه وسلم - قومه، مع كل ما كان يواجهه من ظلم وعنت، يرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا، فأمهل أبا جهل، وأمية، والوليد بن المغيرة. ودعا لقومه بالهداية في أحد، وهم الذين أدموا وجهه، وكسروا رباعيته، فقال: رب اهد قومي فإنهم لا يعلمون، كما في الشفاء للقاضي عياض. فهدى الله من شاء منهم، وتاب عليهم، فآمن به واتبعه، أبناء أولئك الصناديد، رؤوس الكفر وقادة حزب الشيطان، نعم، لقد آمن به واتبعه قائد فرسان المشركين في أحد خالد بن الوليد بن المغيرة، بل صار سيفا من سيوف الله مسلولا على أهل الكفر والزيغ والعناد. وآمن به صفوان ابن أمية بن خلف، وآمن به عكرمة بن أبي جهل، وما كان بين تلك المشاهد إلا بضع سنين بين كل مشهد ومشهد.

 

أيها المسلمون: هل نستطيع صبر أنفسنا عن شهوة الانتقام، والانتصار، والعلو؟ هل نستطيع كبح جماحها حتى مع وجود الدليل حتى لا تطغى، أو تحيد أو تميل؟ ولتنظر في عواقب الأمور، وتسبر غورها قبل أن تقدم على أي فعل قد ينتج نصرا، وقهرا، وعزا في وقته، ولكنه يزداد من ذلك كله في حال الصبر والتحمل، والفأل!

ألسنا نميل غالبا إلى أن لا نعطي الدنية في ديننا؟ وهذا حق، ولكن قد يكون أحق من هذا الحق ما تثمره شجرة الصبر والتأني والحكمة.

إن اليأس من هداية الناس، أو إصلاحهم محطم للعزائم، موهن للهمم، دافع من تملكه ذلك اليأس إلى قتل نفسه، وقتل من يظن أنه لا يؤمنون، وأنهم لا يهتدون. وفي الحديث: من قال هلك الناس فهو أهلكُهم، أو أهلكَهم...وكلا المعنيين صحيح.

 

ولهذا فإن من الواجب علينا أن نتواصى بالحق، وأن نتواصى بالصبر، مع الإيمان والعمل الصالح، ولننظر بعين العطف على الضالين، ولنغطهم بجناح اللطف والحرص على هدايتهم، وردهم إلى الله، ولنسأل الله الثبات على الحق.

 

وليعلم كل منا أنه ليس وصيا على الناس، فقد قيل للحبيب - صلى الله عليه وسلم -: ليس لك من الأمر شيء. وقيل له: وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل. وقيل له: أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين. إن عليك إلا البلاغ.

فما علينا إذا؟ إن علينا أن ندعو، وأن نجاهد في دعوتنا، ونصبر عليها، ونبذل قصارى الجهد في التبيان، والدلالة، والمحاورة، والوعظ بالحسنى. ونسأل الله لكل ضال أن يهديه، ويشرح صدره، ويجنبه طريق الضلال، وينقذه من النار.

فكما هدى الله عمر - رضي الله عنه -، فغدى من تعرفون، بعد أن كان قاسيا غليظا على المسلمين، لقوا منه أشد ما يكون من البلاء والشدة، فعسى أن يهدي فلانا العلماني، أو فلانا المحارب لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -.

وكما أخرج الله من أصلاب الصناديد المعاندين لدينه، المحاربين له ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، فعسى أن يخرج من أصلاب من نظنهم أشبه القوم بهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا. ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply