فقه الظواهر الدعوية في ضوء السنن الإلهية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

عندما نتأمل سيرة المربي العظيم، والمعلم الحبيب - صلى الله عليه وسلم -، وهو يربي العديد من المساعدين الأفذاذ، أصحاب الرأيº ندرك كيف كانت هذه العقلية النبوية الشريفة تحمل الكثير من السمات القيادية التربوية والإدارية، ليس فقط لكونها تسير على هدى من الوحي، ولكن لكونها سمحت ببروز بعض العقليات المبدعة الجريئة في الحق.

وتدبر كيف تمت مهمته - صلى الله عليه وسلم -، في سنوات قليلة، وتأمل هذا البيان الختامي، الذي جاء في لحظات ختامية جليلة تقرر أن الثمرة قد وضعت في جراب القائد، وأن التمام قد حان، ولتقدير من حمل الأمانة بمنهجية تربوية قيادية مؤسسية: \"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا \"(المائدة: 3).

فتدبر موقفه عند حادثة توزيع غنائم حنين:

(ولما أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يك في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة، حتى قال قائلهم: لقد لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء. قال: \"فأين أنت من ذاك يا سعد؟ \". قال: يا رسول الله، ما أنا إلا رجل من قومي. قال: \"فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة\". قال: فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة. قال: فجاء رجال من المهاجرين فدخلوا فتركهم، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا له أتاه سعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار. فأتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله. ثم قال: \"يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم، موجِدَةٌ أي عتاب وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف بين قلوبكم؟! \". قالوا: بلى، الله ورسوله أَمَنٌّ وأفضل. ثم قال: \"ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ \"، قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المن والفضل. قال - صلى الله عليه وسلم -: \"أما والله لو شئتم لقلتم فَلَصَدَقتم ولصدِّقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة أي بقلة خضراء ناعمة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً، وسلكت الأنصار شعباً، لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار\".

فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، قالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً، ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتفرقوا)(1).

وعندما نتأمل هذه الحادثة، نجدها تعطينا بعض الدروس، التي تهمنا في دراستنا في البحث عن إشكالية العمل المؤسسي في جو من الحرية، وأن لها تبعات يتحملها الجميع ويشجعون أصحاب الرأي، أو ما يسمونها بظاهرة التمرد! وذلك من عدة محاور:

المحور الأول: موقف ودور الأفراد:

لقد كانت البيئة الصحية الموجودة آنذاك، تسمح للأفراد بعدم الصمت والتعبير عما يدور بالنفوس حول أي تصرف قيادي حتى وإن قام به الحبيب - صلى الله عليه وسلم - المسدد بالوحيº وذلك لأن هذه الروح الجماعية المؤسسية يظلها منهج، من أبرز سماته العامةº الوضوح والواقعية، فكما يهتم بالظاهرº فإنه يرعى أيضاً الباطن، ويحافظ على نقاء السرائر.

ولا يغيب عن ذهننا دوماً تلك الحادثة الشهيرة: \"إنها صفية!! \".

فماذا كان موقف الأفراد من القرارات النبوية الشريفة؟

1 لقد غضبوا في أنفسهم، من غبن القرارات، لأنهم بشر.

2 أعلنوا رأيهم بحرية، وصراحة.

3 أبلغوا زعيمهم الذي يثقون به، فهو أقرب من يعرفهم.

4 رأوا أن من حقهم معرفة أسباب هذا التوزيع، ومراجعة القرارات.

5 ارتاحت نفوسهم عندما عرفوا مغزى تلك القرارات، ورضوا بها.

 

المحور الثاني: موقف ودور القيادة الوسطي:

1 لقد كان من الرقي أنه استمع لرأيهم.

2 لم يُجَرِّح رأيهم ولم يسفهه.

3 سرعة نقله للمعلومات، فكما يقولون في علم الإدارة: إن من أهم أسباب معوقات التقدمº سوء الاتصال، أي ضعف عملية أو مهارة انسياب المعلومات أخذاً وعطاء(2).

وكم من ظلم يقع ليس فقط من جراء الجور والغبن، بل من جراء العدل البطيء.

4 نزاهته في نقل الرأي كما هو دون تغيير أو حتى تجميل.

وكم من قضايا تضيع من خلال محاولات التجميل في النقل.

5 لم يحقرهم عند القائد.

وكم من مستغل لهذه المواقفº كبيئة صالحة للوشاية، ولتغيير النفوس، ولتعكير الأجواء.

6 شجاعته في المراجعة وإعلان وقوفه مع رأي قومه.

وكم من مبطن في نفسه الرأي المخالف، وظاهراً ينافق ويداهن من أجل المنزلة والرفعة.

 

المحور الثالث: موقف القيادة:

1 روعة وانسيابية قنوات الاتصال، وسرعتها.

2 مراجعة ناقل الرأي لمعرفة موقفه.

3 عدم غضبه من سماع هذا الرأي المخالف، أو من موقف الوسيط.

4 سرعة التحقيق.

وكم من مظالم تقع من جراء التسويف وعدم البت، وغياب الحسم!

5 معرفة الرأي من أصحابه، للتأكيد على صحته.

6 السماع لبعض الشهود المحايدين.

7 عدم السماح بحضور البعض، ممن ليس لهم صلة بالقضية، وذلك حتى لا تتسع دائرة الجدل.

8 التوضيح الشامل الجامع للقضية، وبيان سبب الإجراءات.

فكم من قضايا وقرارات لا تناقش، وكأن الأفراد ليست لهم أهلية المراجعة والمعرفة.

وكما يبرر البعض بعدم تطبيق (الديمقراطية) بحجة أن شعوبنا ليست مؤهلة لممارستها أو لتحمل تبعاتها.

9 التذكير بنعم الله عليهم، وهي من باب الحقوق والمكاسب التي جنوها.

10 التذكير بفضلهم، ودورهم، وهو من باب عدم بخس الناس أشياءهم.

11 بث روح الحرية للاختيار.

فليس هناك وصاية لأحد على أحد، بل هي الحرية، والصراحة والصدق والنزاهة.

ثم..هل وصم تصرف الأنصار، في أي كتاب من كتب السير، بأنه تمرد، وأنه جيب، وأنه تجرؤ على القيادة، وهو من هو - صلى الله عليه وسلم - ؟!

وهل اتهموا رضوان الله عليهم بالانقلاب على الثوابت؟

 

إدارة الأزمة عملياً:

وأثناء أزمة الحديبية، كان له - صلى الله عليه وسلم - منهجية أخرى في التعامل معها.

لقد أيقن الحبيب ، أن الصحابة رضوان الله عليهم غاضبون من بنود المعاهدة المجحفة، وأن نياتهم هي المصلحة والغضب لدين الله - عز وجل -.

ولكنه لم يغضب لرأيهم المخالف، بل أشفق عليهم أنهم قد خالفوا أمر الله - سبحانه -، وتلك نقطة لا يجب أن تركن إليها أي قيادة غيره لأن رأيه يعتبر وحياً، أما رأي غيره فهو مجرد اجتهاد، حتى وإن كان له صفة الطاعة للأمير.

ونعلم كيف أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأي أم سلمة فقام ونحر الهدي وحلق وتحلل من إحرامه فقلده الصحابة جميعهم ونحروا هديهم وتحللوا من إحرامهم.

ولم يصمهم - صلى الله عليه وسلم - بالتمرد، بل تفهم موقفهم، وغيرتهم، وكانت هناك أم سلمة رضوان الله عليها، تساعده على حسن إدارة تلك الأزمة الطارئة، وانتهى الأمر.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) السيرة لابن هشام 4-499498.

(2) الخطوات الذكية:سام ديب وليل سوسمان ترجمة: سامي تيسير سلمان دار المؤتمن للنشر 1419ه، 1998م ص 270267 بتصرف.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply