الصحوة الجديدة ... انقلاب أم تصحيح ؟!


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الصحوة الجديدة هي باختصار- مرحلة ما بعد الصحوة.

فما قبل الصحوة الجديدة يمكن تصنيفه بالصحوة القديمة، أو الصحوة التقليدية التي كانت تتجه إلى العناية بالقضايا الصغيرة، وتشغل حيزاً كبيراً من همومها، ويمكن إدراك ذلك من خلال مكدّسات الكتب والنشرات والبيانات والقنوات الفضائيّة التي جاءت لتنقل المسموع أو المقروء إلى المرئي مع بعض الإضافات الشكليّة... فهي تصوغ فكر الحراسة والوصاية والتلقين... في قالب مرئي لا يختلف كثيراً عن واقع الخطب والمحاضرات.

لقد بدأت خطوات الصحوة الجديدة على إثر واقع الصحوة القديم رافضة لأسلوبها وأدائها، وليس الرفض هنا عدم الاعتراف بالمنجزات أو النجاحات الكبيرة التي تحقّقت على يد الجيل القديمº ولكن الرفض يتّجه إلى عدم كفاءة آليات الصحوة القديمة في الواقع المتغير.

ومن هنا بدأت نقطة الافتراق تتسع يوماً بعد يوم بين جيل يلفظ أنفاسه الأخيرة، ولكنه يصر على إدانة الأحداث بالنكهة التلقينيّة الوصائيّة التوجيهيّة... وجيل آخر يتهامس في المجالس والمنتديات بواجب الانقلاب على مفاهيم الحرس القديم.

إنها صحوة جديدة ترى أن الإسلام أوسع وأشمل وأقدر على استيعاب الواقع، واستيعاب عقوده: الاقتصادية، وعلاقاته الدوليّة، والتعدديّة المذهبيّة، ومفهوم الدولة.

من تلك الاختزالات الضيقة التي عزلت مجمل النصوص ودلالاتها عن مفاهيمها الحقيقية. صحوة لم تعد تؤمن بحسمية قول العلماء أو المغالاة في توقيرهم، وترى أنهم يخطئون، ولا مانع من الاعتراض عليهم علناً في كل مجلس بكل أدب واحترام.

إن أهم ملامح الصحوة الجديدة انشغالها بالقضايا الكبرى: قضايا الحقوق، قضايا العدل، قضايا رفع المعاناة والظلم والاستبداد، ليس بالصراخ والانفعال، أو تكوين جبهات معارضة، إنما بالدفع إلى إنشاء المؤسسات والهيئات الرقابيّة والحقوقيّة والتضحية لأجل مشروع الحقوق.

لم تعد تؤمن مفاهيم الصحوة الجديدة إلا بالعمل وشعارها المنصوب: العمل الجيد خير من الكلام الجيد، أما قصر العمل الخيري على الإغاثة والتعليم فهو هدف قديم، ولا يتواءم مع النظريات الجديدة في العمل والتي ترى: أن المجتمع اليوم يحتاج لما لا يقل عن مائة ألف جمعية ومؤسسة أهلية تُصنّف أنها خيرية تعمل في كل شيء، ويعمل فيها كل أحد، وتقدم العون المادي والمعنوي لكل الفئات والطبقات، وعلى رأس هذه الجمعيات تلك التي تولي إرجاع الحقوق إلى أهلها.

وتلك التي تعتني عناية فائقة بالتنظيم الإداري والتقني، وتسعى لتأهيل شبان الصحوة ليكونوا دعاة التنظيم الحديث والتطوير الذاتي والجودة الشاملة.

كما أنها لا ترى قيمة حقيقية لأكثر الوعاظ التقليديين على الساحة اليومº بل هم عبء كبير يحتاجون إلى مؤسسة خيرية ترعى تطويرهم وتأهيل أولوياتهمº فلا هم في هموم الناس أبانوا الحقائق، ولا في مواعظهم أتقنوا عملهم.

كما أنه ليس في وسع الصحوة الجديدة الاتجاه للمزايدات وثقافة الردود ونشر الفتاوى، إنما اتجاهها الأعظم إلى مناكفة التحديات المعاصرة من خلال بناء عقول منتجة تقابل كل التحديات بمثلها، وليس من خلال إدانتها ثم السكون إلى مجالس اللغو والغيبة والتصنيف، ومن يدخل في الفرقة الناجية، ومن يؤول إلى جهنم.

كما أن هذه الصحوة الجديدة تستهجن إشغال الناس بطاعة ولي الأمر وتحية العلم وتعليق صور القادة في المدارس والبنوك ومكاتب العقار، وترى أنها من أولويات غيرها، وهي محل اهتمام شخصيات كثيرة ليست تحب الوطن إلا بقدر ما يتدفق المال إلى جيوبها، وهم لا يملكون معايير أخرى لقياس الوطنية وحب الوطن إلا بتلك الشكليات النمطيّة التي تختفي عادة مع أول امتحان حقيقي للوطن!!

أما أعضاء السلك الصحوي الجديد فهم كل من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وليس وراء ذلك شروط أخرى، وهي ترى أن إضافة أي شرط على وصف مسلم اتجاه للتصعيد.

وتستطيع أن تقول: إن أكثرية شبان الصحوة هم ممن كانوا نتاج الصحوة القديمة لكنهم ثاروا على أساتذتهم وشيوخهمº فمنهم من اتجه إلى أقصى اليسار، وربما هو الآن خارج دائرة الإسلام، ومنهم من يصطف على بطنه! مع المشروع الليبرالي المتطرّف، ومنهم من يرى أن الصحوة القديمة قد بلغت سن اليأس، وآن لها أن ترتحل أو تتقاعد ليحلّ محلها قراءة أخرى للإسلام غير التي كانت في السابقº قراءة تَنحى إلى فهم الواقع من خلال معطيات الإسلام الكلية، وليس من خلال المقاصد الجزئية، وهي لا تزال تحاول أن تتخذ منحًى وسطياً معتدلاً بين التقليديّة والثوريّة، مظهرة قدراً كبيراً من الاحترام للرموز القديمة، معترفة بكثير من الإنجازات الهائلة لكنها في الوقت نفسه تنأى بنفسها أن تُنسب للجيل القديم، وترى أن الشركات العملاقة حتى تبقى عملاقةً يجب أن تتجه دوماً إلى التجديد والتطوير في جهازها الفني والإداري وطواقمها القيادية، فإن احتاجت إلى الاندماج اندمجت، وإن احتاجت إلى زيادة رأس المال وجب عليها أن تغري المكتتب والمساهم.

إن دستور الصحوة الجديد أوسع من أن يستوعبه مقال يحمل ألف كلمة موجزة، ويقصر عن إدراك أبعاد وجوه كثيرة من الأزمة التي تتعايش في ضمائر كثير من الشباب، ولكنها إشارة إلى أن اتجاهاً إلى التجديد في دماء الصحوة بات يرفع صوته في المجالس يوماً بعد يوم، وبات يدرك أن بيانات الإدانة ما هي إلا لوحات صاخبة بالألوان، و لا تحمل معنى في الجمال، وأصبح هذا الجيل يدرك -رغم صغر سنه- أن الذين ينشغلون بالإدانات والبيانات لو انشغل نصفهم بتنظيم أجهزة الرقابة في الدولة والمطالبة بتنفيذ العقوبات الصارمة المرسومة بالأنظمة دون محاباة أحد لأحسنوا للمستقبل وللمرأة!!

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply