العلاقات الاجتماعية بناؤها وتوظيفها في الدعوة إلى الله


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تتولد بين الناس في خضم هذه الحياة علاقات مختلفة باختلاف الدوافع، والأغراض التي هي من ورائهاº فهناك روابط يؤلف بينها النسب، وأخرى تجمع أطرافها المصاهرة، وثالثة يحكمها الجوار، وهكذا سائر العلاقات الأخرى التي تتكون نتيجة المصالح المشتركة، والمواقف المتبادلة، واللقاءات اليومية، والاجتماعات الدورية، كعلاقة زملاء العمل، وعلاقات التجار والشركاء، والأصدقاء، وغيرهاº مما يجعل موضوع العلاقات، والإفادة منه في مجال الدعوة إلى الله محل اهتمام الباحثين، ومن هنا وُلدت هذه الدراسة الموجزة في هذا الموضوع المهم، فخرجت بتوفيق الله - تعالى - في سطور معدودة، رجاء أن يعقبها دراسات متميزة من المختصين في هذا المجال الحيوي الذي يأتي اليوم في مقدمة الأولويات. ورغم إيماني الكبير بأن الجميع يدرك خطورة هذا الموضوع..

 

أهمية العلاقات:

لا أظن أن أحداً من الناس يجادل في أهمية العلاقات الجيدة، ودورها الفعال في جميع مجالات الحياة على مستوى الشعوب والأفرادº ولذلك فالحديث عن أهمية العلاقات يعد من نافلة القول، إلا أنني أودّ أن أُذكّر القارئ الكريم ببعض الجوانب المهمة التي تبرز من خلالها أهمية العلاقات، وخاصة في مجالات الدعوة المختلفة، ومن أبرز هذه الجوانب ما يلي:

 

أولاً: الحماية والنصرةº حيث تُشكّل العلاقات الجيدة حماية للداعية تمكّنه من نشر دعوته الإصلاحية، وتبليغ رسالته، ولو بشكل محدود. ولعلك أخي القارئ تلمح شيئاً من هذا المعنى المهم من خلال تأملك في قوله - تعالى ـ: {وَلَولا رَهطُكَ لَرَجَمنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَينَا بِعَزِيزٍ,} [هود: 91].

 

قال العلاَّمة السعدي - رحمه الله ـ في معنى الآية: أي: ليس لك قَدر في صدورنا ولا احترام في أنفسنا، وإنما احترمنا قبيلتك بتركنا إياك(1)، ومما يزيد هذا الجانب وضوحاً ذلك الدور الفعال الذي لعبته علاقة النسب بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين عمه أبي طالبº حيث أحاطته - صلى الله عليه وسلم - بنوع من الطمأنينة والأمن استطاع من خلاله أن ينشر دعوته المباركة، وأن يبذر نواة الخير في مكة وما حولها، ولست بحاجة إلى أن أدلل على جودة تلك العلاقةº لأن السيرة قد شهدت بذلك لأبي طالب من خلال مواقفه الجيدة في التصدي لمحاولات صناديد قريش الآثمة التي كانت تستهدف النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودعوته المباركة، بل وسُطِّرت له تلك الأبيات التي تدل على شدة محبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقوة دفاعه عنه، والتي منها قوله:

 

واللهِ لن يصلوا إليك بجمعهم ** حتى أُوُسَّدَ في التراب دفينا

 

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضةٌ ** وابشر وقِرَّ بذاك منك عيونا(1)

 

فتأمل أخي القارئ! كيف تحوط العلاقات أصحابها ببعض الحماية التي تكون نافعة جداً، وبالذات في ظل الخلافات الشديدة التي قد تكون عائقاً كبيراً في طريق نشر الخير! وهنا أمر مهم جداً يحسن التنبيه إليه: وهو أن تلك العلاقة حظيت بنوع من التفاعل بين الطرفين. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يحرص على برّ عمه أبي طالب، ويتودد إليه بما لا يتعارض مع أمر الله، ويعرض عليه الدعوة إلى الخير، حتى في اللحظات الأخيرة من حياته، وكذا عمه أبو طالب يقابل ذلك المعروف بالحماية والعطف والحب والشفقة كما تقدم.

 

ثانياً: زيادة الإنتاج الدعويº وذلك من خلال استثمار الأموال والطاقات والأوقات التي لا تُمنح لأحد في الغالب إلا بحسب العلاقات أو المصالح المشتركة، ومن هنا تبرز أهمية العلاقات، ويتحتم على الدعاة إلى الله السعي في بنائها، واستثمارها في مجالات الدعوة المختلفة، ولست بحاجة إلى الإسهاب في هذا الجانبº لأن جهد الواحد ليس كجهد الاثنين، وجهد الأفراد ليس كجهد المؤسسـاتº ولأن ما يُنـجز من الأعـمال الـدعوية في سـاعة ليـس كـما ينـجـز مـن الأعـمـال فـي سـاعتـينº ولأن ما يبـذل من المـال للـدعوة من شخص واحـد لـيس كمـا يـبذل مـن الـمال مـن شـخـصين، وهكذا يدرك الجميع أهمية العلاقات، وأنها بلا شك من أعظم روافد العمل الدعوي، وبالذات في هذا الزمن الذي تحتل فيه العلاقات مكانة مرموقة على مستوى الشعوب والأفرادº فهل يحرص الدعاة المصلحون على بناء العلاقات، واستثمارها في الدعوة إلى الله، أم يبقون نكرات في مجتمعاتهم، وأحيائهم، يتعللون بالخوف من بريق الشهرة، ويشعرون أن بروزهم ينافي كمال الإخلاص، وقد يفقدهم بعض المصالح الراجحة: كحفظ الأوقات، وطلب العلم، ونحو ذلك؟ مع أن هذا الكلام وإن كان حقاً إلا أن التوازن أمر مطلوب في أمور الحياة، وسر عظيم من أسرار النجاح.

 

كيف نبني العلاقات؟

إن اللبنة الأم في بناء العلاقات هي الحب الصادق الذي هو في الحقيقة قاعدة صلبة تقوم عليها أروقة العلاقات، ومن أجل ذلك حث الإسلام على مد الجسور الموصلة إلى تلك القاعدة العظيمة، ليسود الوئام والوفاق، ويتم التعايش السليم الذي يليق بالإنسان في هذه الحياة، ومن هذه الجسور ما يلي:

 

1 ـ التعارف:

وهو أول مرحلة من مراحل بناء الحبº حيث يجدر بالحريص على بناء العلاقات أن يتعرف على من حوله، وأن يمد معهم جسوراً من العلاقة الجيدة التي تقود بإذن الله - تعالى ـ إلى احتواء أحبابه، واصطفائهم متعبداً بذلك الله - تعالى -، مستجيباً لندائه الكريم: {يَا أَيٌّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقنَاكُم مِّن ذَكَرٍ, وَأُنثَى وَجَعَلنَاكُم شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللَّهِ أَتقَاكُم إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].

 

يقول العلامة السعدي - رحمه الله ـ في معنى الآية: أي يخبر الله - تعالى ـ أنه خلق آدم من أصل واحد وجنس واحد، وكلهم من ذكر وأنثى، ويرجعون جميعهم إلى آدم وحواء، ولكن الله - تعالى ـ بث منهما رجالاً كثيراً ونساء، وفرّقهم، وجعلهم شعوباً وقبائل صغاراً وكباراًº وذلك لأجل أن يتعارفواº فإنهم لو استقل كل واحد منهم بنفسه لم يحصل بذلك التعارف الذي يترتب عليه التناصر والتعاون والتوارث، والقيام بحقوق الأقارب، ولكن الله جعلهم شعوباً وقبائلº لأجل أن تحصل هذه الأمور وغيرهاº مما يتوقف على التعارف ولحوق الأنساب(2)، وبهذا تتضح أهمية التعارف البنّاء المثمر الذي يترتب عليه النفع في الدنيا والآخرة، ويجب أن يتسابق في مضماره الدعاة، جاعلين رسولهم إلى من يودون التعرف عليهم البسمة الصادقة، والاتصال الحار، ونحو ذلك من مفاتيح القلوب.

 

2 ـ الهدية:

وهي السحر الحلال الذي يفتح الباب المصمت، ويسل سخيمة القلب، ويذهب وَحَر الصدر، ويزرع الحُب الجمّ، وما أجمل قول الشاعر:

 

إن الهدية حلوة ** كالسحر تجتلب القلوبا

 

تدني البغيض من الهوى ** حتى تصيّره قريبا

 

وتعيد مضطغن العدا ** وة بعد نفرته حبيبا(3)

 

وأجمل من ذلك وأعظـم قـول الرسـول - صلى الله عليه وسلم - في رواية أبي هريرة - رضي الله عنه ـ: «تهادوا تحابوا»(1) ومما يزيد من أهمية الهدية أن أولي النٌّهى يدركون الأثر العظيم الذي تحدثه الهدية، كما بيّن القرآن الكريم في قصة ملكة سبأ، كما قال - تعالى ـ على لسانها: {وَإنِّي مُرسِلَةٌ إلَيهِم بِهَدِيَّةٍ, فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرجِعُ الـمُرسَلُونَ} [النمل: 35]، قال قتادة: - رحمها الله -، ورضي عنها ما كان أعقلها في إسلامها، وفي شركهاº علمت أن الهدية تقع موقعاً من الناس(2). إن هذا الأثر العظيم للهدية لا يزال في حيز التنظير في واقع كثير من الدعاة، ولما يخرج بعد إلى حيز الممارسة، والتطبيق بشكل مثمرº فليحرص الدعاة على هذا المنهل العذب، والمورد الزلال الذي يتسلل إلى القلوب، فيعمرها بالحب بإذن الله.

 

3 ـ الحقوق الشرعية المتبادلة:

وهي منظومة من الحقوق الواجبة للمسلم على المسلم، أو المندوبة بينهم، سردها - صلى الله عليه وسلم - في رواية أبي هريرة - رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمِّته، وإذا مرض فعُدهُ، وإذا مات فاتبعه»(3). إن هذه الحقوق العظيمة، والآداب الرائعة التي تبدأ بالسلام من أول لقاء في هـذه الحيـاة، وتنتـهي بالـوداع الـذي لا لقاء بعده إلا في الآخرة لهي في الحقيقة جسور عظيمة، تزرع المحبة في القلوب، وتبني أروع العلاقات الأخوية المستمرة بإذن الله.

 

ومن هنا فإن الدعاة هم أحوج الناس إلى إحياء هذه الآداب الرائعة، والتفاعل معها، وإخراجها من حيز المقابلة الميتة، والبسمة الباهتة، والنمطية المملة (الروتين) إلى حيز الأخوة الصادقة، والتواصل الحي الذي يدفعه الصدق، والإخلاص والحرص على نفع الآخرين وهدايتهم. يقول الدكتور النغميشي: «إن حسن التجاوب، وحرارة الاتصال بين طرفين، والتفاعل بينهما يعتمد اعتماداً كبيراً على مفهوم التبادل في العلاقاتº فعلى قدر ما يبذل كل طرف من جهده، وماله ومشاعره نحو الطرف الآخر تقوم العلاقة، وتتصاعد إلى أعلى»(4).

 

4 ـ الخدمة وقضاء الحوائج:

إذا كانت الجسور التي سبق الحديث عنهـا تشـكّل أهميـة لا بأس بها في بناء العلاقات المثمرة فإن خدمة الناس، وقضاء حوائجهم هو الجسر الأعظم الذي يلتقي مع تلك الجسور، ويشكل معها قوة هائلة في بناء العلاقات، وسر ذلك يعود إلى طبيعة النفس البشرية التي فُطرت على محبة من يحسن إليها ويقوم بشؤونها ومصالحها، ومن ثم فهي تنظر إليه نظر الإجلال والتعظيم والحب، وهذه النظرة الفطرية هي في الحقيقة ناتجة من ضعف الإنسان، وحاجته المستمرة التي لا تنتهي في هذه الحياة إلا بوفاتهº ولذلك فليس غريباً أن يهتم الناس بمصالحهم الدنيوية، وتأمين الحياة الكريمة التي لا تصلح حياتهم إلا بها، ولا شك أن الإسلام يراعي هذه النظرة الفطرية ويهتم بها، ويوجه الإنسان إلى الاهتمام بهذا الجانب المهم من خلال المنهج القويم الذي سلكه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -º حيث كان يدعو ربه بصلاح دنياه، كما في دعائه الثابت في صحيح مسلم: «اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي»(5). ومن تأمل سيرته - صلى الله عليه وسلم - رأى فيها سمة المبادرة إلى الاهتمام بشؤون الناس، وتلمّس حاجاتهم، كما قالت خديجة - رضي الله عنها ـ في وصفه - صلى الله عليه وسلم -: «إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق»(6).

 

وهكذا نجده - صلى الله عليه وسلم - من خلال سيرته العطرة يشفع لمغيث عند زوجته بريرة من أجل أن يعود إليهاº فتقول: يا رسول الله! أتأمرني بذلك؟ فيقول: «لا، إنما أنا شافع»(7)، وها هو - صلى الله عليه وسلم - يحث أصحابه - رضي الله عنهم ـ على البذل والصدقة، عندما رأى قوماً من مضر مجتابي النمار، وقد بدت معالم البؤس والفاقة على وجوههم(8)، ومن تتبع مواقفه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الجانب المهم رأى عجباً، وأدرك سر الحب العظيم لشخصه الكريم - صلى الله عليه وسلم - من أصحابه - رضي الله عنهم - أجمعين.

 

وعلى هذا المنهج القويم تربى السلف الصالح من الصحابة والتابعين، رضي الـلـه عنـهـمº فـقـد ذكـر ابن قتيبـة الدينـوري - رحمه الله ـ جملة من أخبارهم في هذا الجانبº فهذا ابن عباس - رضي الله عنه ـ يبحر في عالم المروءات والقيم عندما يقول: «ثلاثة لا أكافئهم...» ثم ذكرهم، وقال: «أما الرابع فلا يكافئه عني إلا الله - عز وجل -º قيل: ومن هو؟ قال: رجل نزل به أمر، فبات ليلته يفكر بمن ينزله، ثم رآني أهلاً لحاجته، فأنزلها بي»(1).وقيل لابن المنكدر: أي الأعمال أفضل؟ قال: إدخال السرور على المؤمن، فقيل: أي الدنيا أحب إليك؟ قال: الإفضال على الإخوان(2)، وقال: الحسن - رضي الله عنه ـ: لأن أقضي حاجة لأخ أحبٌّ إليَّ من أن أعتكف سنة(3). وهكذا يبرز الاهتمام بهذا الجانب المهم في حياة أولئك الأفذاذ جيلاً بعد جيل، حتى ظهر أثر ذلك في أدبهم العربي الرفيع، وأصبح المدح بخدمة الناس، ومواساتهم من أغراض الشعر البارزة، ولا أدل على ذلك من قول الشاعر:

 

بدا حين أثرى بإخوانه ** ففكك عنهم شباة العدم

 

وذكره الحزم غب الأمور ** فبادر قبل انتقال النعم

 

أهمية نفع الناس:

إن خدمة الناس، والسعي في قضاء حوائجهم جسر من المعروف محفوف بالمتاعب والتضحيات، ولكنه يوصل بـإذن اللـه - تعالى ـ إلى أرقى العلاقات المثمرة المؤدية إلى السيادةº حـيث لا شك أن خادم القوم سيدهم، وما أحسن قول الشاعر:

 

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ** فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ

 

ومن هنا فإن على الدعاة اليوم أن يتسابقوا إلى نفع الناس، ودفع المكروه عنهم، وخاصة في هذا الزمن الذي كثر فيه الكلام، وقلّ فيه العمل، وظهر فيه الشح والأثرة، وتعانق فيه الفقر والجهلº فما أحوج الناس إلى الك

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply