( إني حفيظ عليم )


 

بسم الله الرحمن الرحيم 

إن من عظيم نِعَمِ الله على العباد وَهبَهُ إياهم أموراً تُمَيِّزُ بعضَهم فيها عن بعض، وقُدَرَاً متفاوتة مختلفة.

فليس البشر كلهم في القُدُرَات سواءً، ولا هم أيضاً في المواهب على اتفاق، بل أوجَدَ الله فيهم اختلاف ذلك، وتفاوته وعدم اتفاقه لِحِكَمٍ, عُظمى قلَّ المُدرِكُون لها.

 

و لذلك كانت هذه الكلمة تحمل في طيَّاتها أصلاً أصيلاً، وقاعدةً متينةً وهي: (معرفة المرء قُدَرَ نفسه).

قال العلامة ابن عاشور - رحمه الله -: (و هذه الآية أصلٌ لوجوب عرضِ المرء نفسه لولاية عمل من أمور الأمة إذا علِمَ أنه لا يصلح له غيره لأن ذلك من النصح للأمة). التحرير والتنوير (7/9)

و معناها واردٌ عن السلف - رضي الله عنهم - ومن أحسن تلك الكلمات ما كتبه الإمام مالك بن أنس - رحمه الله - لأحد العباد لما كتب أحد العباد إليه ينكر عليه اشتغاله بالعلم، ويدعوه إلى التفرغ للعبادة، فكتب له مالك - رحمه الله -: \"إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر\".

فالإمام مالكٌ - رحمه الله - أشار هنا إشارة بليغة إلى هذه القاعدة الكبيرة، فما أفقهه من إمام، وما أبعد نظره.

 

و هذه القاعدة الكبرى مُرتَكِزَةٌ على ركيزَتَين اثنتين:

الأولى: عدم رَفعِ النفس فوق قدرِها.

حيث ترى وهو كثير مَن يُخادع نفسه ويُلبِسُها لباس الزور فيُنزلها منازل كبيرةً عليها، ليست هي من أهلها ولا قَرُبَت من أحوالهم.

الثانية: عدم إهانتها وإنزالها عن قدرها.

و هذه كسابقتها في الكثرة والانتشار.

و كما أن الناس متَّعَهم الله بقُدَرٍ, فإنه مما لا شك أن لتحصيلها سُبُلاً وطُرُقَاً، وجملة تلك طريقان:

الأولى: إدراك المرء ذلك من نفسه.

و ذلك من خلال تجارُب وأحوال مرَّت به علَّمته أنه يملك قُدرَةً على أمر دون غيره، وقليل من يُدرِكُ ذلك من تلقاء ذاته.

و لقد حَفَلت السيرة بشيء من ذلك ما يُذكِرُ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: أنا من الراسخين في العلم.

فابن عباس هنا أدرك من نفسه هذه القُدرَة فنبَّه عليها، وأفصح عن حقيقتها.

و مثله: ما يُذكرُ عن كثير من السلف صحابةً وتابعين وتابعيهم من إخبارهم غيرَهم عما يعلمونه دون غيرهم.

 

الثانية: إدراك غيره منه.

الإنسان مَدَنِيٌ بطبعه، مُنجَذِبٌ إلى بني جنسه، كثير المعاشرة لهمº لذا فقد يطلع بعضٌ على أن فلاناً موهوب بموهبة كذاº وهو جاهل بقُدرَته هذه، غافلاً عن تلك الموهبة.

و من هذه ما حفَلَت به السيَر فمنها:

شأن أبي ذر - رضي الله عنه - فقد طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يوليَه إمرةً فقال له - صلى الله عليه وسلم -: \"إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين على مال يتيم\"

فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أدرك من حال أبي ذر - رضي الله عنه - عدم أهليته للإمارة فنهاه، وقد غابت هذه عنه وأدركها غيره.

و مِن ذلك ما يُذكر عن الخليل بن أحمد الفراهيدي - رحمه الله - لما جاءه الأصمعي عبد الملك بن قريب - رحمه الله - طالباً علم العَرُوض فلم يستطع فهمه، فأنشد الخليل:

إذا لم تستطع شيئا فدعه *** وجاوزه إلى ما تستطيع.

و حيث عُرِفَ هذا فإن على الإنسان أن يعلم أن لهذه المعرفة لقُدُرَات النفس مجالان هما أهم ما يظهر في الساحة:

الأول: العلم.

مُفرِحٌ أن نرى كثيراً من رجال الصحوة يعملون ويشتغلون في طلب العلم، ولكن يُؤسِفُ جداً أن ترى عدداً ليس بالقليل منهم ينفضٌّ عن مجالس العلم تلك في فترة قصيرة وجيزة.

و حين بَحثِ السبب في ذلك تلمح أنه الجهل بقُدرَةِ الرجل وميوله واهتمامه.

فإن طلب العلم شأنُ مَن ليس له أي شأن إلا طلب العلمº فهو يحتاج إلى تفرٌّغٍ,، وسهر، وبحث، وتحرير، وحفظٍ,، ….

فكثير ممن سلك ذلك لم يَدُر في خاطره ولو لمرَّةٍ, تساؤلٌ:

هل هو ممن يستطيع طلب العلم والتفرٌّغ له، وإعطاءه حقه؟

 

الثاني: الدعوة.

إن الاهتمام بالدعوة شأن كثيرين من رجال الصحوة وشبابها، وهذا مما يُبَشِّرُ بخير.

لكن يَرِدُ عليه ما وَرَدَ على المجال السابقº وهو: أن بعض المشتغلين بالدعوة ممن دفعتهم عاطفتهم إلى العمل بها، وهذا أمر لا يُرادº إذ أمور الدعوة لابد لها من سلوك مسارات منضبطة، ونظام مدروس.

أما أن تُسلَك سُبُل الدعوة هكذا بلا قواعد تُدرَسُ من خلالها، فلا.

و أما أن يسلك الدعوة من له قُدرة على تحمل أعبائها ومن ليس له قدرة، فلا، وليس من شأن الجادين.

هذان مجالان مهمان جاء الحديث عنهما لكونهما هما الظاهران في الساحة، وفي صفِّ رجال الصحوة، وفي سلك العمل الدعوي.

و إلا فهناك مجالات كثيرة تحتاج إلى أن نتحدَّث عنها في مثل هذا.

و أخيراً: فإن لمعرفة المرء قُدَرَ نَفسِه، واكتشاف مواهبه، فوائد نفيسةº منها:

الأولى: تنظيم العمل الإسلامي.

فإذا عرف كلُّ منَّا ما يحسنه ويتقنه من أعمال، ومجالات، انتظم العمل الإسلامي بعمومهº العلمي، والدعوي.

فمن عرف أهليته للعمل الدعوي، وتوافرت لديه إمكانات وقُدَرُ الإبداع في المجال الدعوي سلكه وسار فيه.

و من عرف من نفسه الإتقان في المجال العلمي انتهجه ولَزِمَه.

و بذلك ينتظم العمل الإسلامي في أحسن مساراته.

الثانية: حفظ الوقت.

و سرٌّه أن كلاً سيعمل في حقله الذي مالت إليه نفسه، ووثق في الإتقان فيه، والإبداع في مجالاته.

و حفظ الوقت هنا نوعان:

الأول: حفظ وقت العمل الإسلامي.

فلا يضيع أكثر زمانه في أمور ليس منها نفع له.

و ذلك: أنه لو أخذ كلُّ منَّا مجاله الذي يتقنه لكان في ذلك إنجاز أهدافٍ, كِثار كبارٍ, في مشروع العمل الإسلامي.

لكن حين تقلب كثيرٍ, من رجال الصحوة في مجالات عِدَّةٍ,، وتنقلاتهم فيما بين مجالات العمل الإسلامي تتأخر أهداف كان تحققها في وقت سبق، أو ربما تتحق في وقتها لكن ليست بإتقان وإحكام، وهذا مما لا يتمشى مع أهدافنا في العمل للإسلام والسعي نحو نشره.

الثاني: حفظ وقت الشخص.

ففي سلوكه مجالاً ليس له أهلية السلوك فيه يُورِثُه الملل والسآمة، ومن ثَمَّ الانقطاع عنه والبحث عن غيره.

فهذه الحالة أنتجت ضياع وقت كان من الممكن أن يُستَغلَّ لو عُرِفَت قُدرَةُ النفس في غيره من الأعمال الأخرى.

و أعني بالأعمال: ما يحسنه الشخص ويرى أهليته له.

الثالثة: تقدير الجهود.

حيث كلُّ على ثَغرَةٍ, من ثغور العمل الإسلامي، وكله عمل خير.

فذو العمل الدعوي يُقَدِّرُ جُهدَ العامل في العمل العلمي، وكذلك العكس.

و حين تتخلَّف المعرفة لِقُدَرِ النفس ومواهبها يكون النقد الهادم للجهود، ويكون الانتصار للزيف الإنتاجيº إذ يظن كل عامل أنه خير من صاحبه شأناً، وأجل منه عملاً.

و هذا ما جلب لنا الخرقَ الكبير في صرح العمل الإسلامي.

الرابعة: تغطية جوانب العمل الإسلامي.

و لعل هذه من أجلِّ فوائدها، وأعظم ثمارهاº فهو ما نطمح إليه في العمل للإسلام والسعي لنشره وتبليغه للناس في أقاصي الأرض.

فقد عَلِمَ كلٌ مشربه، ولَزِمَ دَربَه.

فَيَجِدٌّ العامل بإتقان عمله وتوسيع نطاقه، وتكثير مَن يُعينه ممن ينهج نهجه في القُدَر والمواهب.

هذه خاطرة سنحت فكُتِبَت، آملُ أن أكون قد وُفِّقتُ في وضع نقاط على أحرفها.

و الله الموفق والهادي لا إله إلا هو، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply