أصداء التجديد


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

يجد بعض الدعاة نفوراً من الخلق عنهم، أو عدم تأثر عملي بمواعظهم وكلماتهم، أو مللاً وضجراً من عباراتهم وتوجيهاتهم، مما يدفعهم إلى المناداة بأعلى صوتهم بضرورة تجديد أساليب الخطاب، والتفنن في طرق إيصال المعلومات، ولا يشك أحد في ضرورة مثل هذا التجديد والتغيير وخاصة في زمن العولمة وعصر الانفتاح، ولكننا إن أردنا تحليلاً صحيحاً لهذه الظاهرة فلابد أن ننظر إليها من زواياها الثلاث: المؤثر والمتأثر وأسلوب التأثير، فإن أردنا تأثيراً في الناس وتغييراً في أساليب حياتهم فلنهيئ أنفسهم للتأثر، ولنزل الموانع التي تصدهم عن التغير، ولنختر من الأساليب ما يناسب كل واحد منهم حسب شخصه، ومن الكلمات ما يكون نافعاً له، ولا ننسى قبل ذلك ذواتنا وأهمية إعدادها لعملية التغيير التي ننشدها.

 

وأحب هنا أن أسلط الضوء على هذه الأخيرة وهي الداعية نفسه وأثر إصلاحه لنفسه، وتجديده للإيمان في قلبه، في تأثر الناس بوعظه، واستماعهم لقولهº وما ذاك إلا لأننا بحاجة إلى أن نقف مع ذواتنا وأنفسنا التي بين جنبينا وقفات محاسبة صادقة قبل أن نتجه إلى الآخرين، ونحاول أن نغير ونؤثر فيهم، وأمامي هنا وقفة محاسبة أحب أن نقفها سوياً مع ذواتنا، علنا نجد لها أثراً وصدى فيمن حولنا..

 

يكاد كلنا يعرف حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه الإمام البخاري - رحمه الله تعالى - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله - تعالى - قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) (1).

 

ما أعظمها من مرتبة، وما أحلاها من منزلة أن تكون مع الله، ويكون الله معك، وماذا تريد من الدنيا إلا هذا، أن تكون ولياً لله تحبه ويحبك، تنكسر بين يديه فيفتح عليك ويحميك، تُظهِر أثر عبوديتك له فيفيض عليك من آثار ربوبيته وفيوضات رحمانيته - عز وجل وعلا -.

 

ولا تظننَّ - بعد إكمالك للفرائض - أن النوافل المقصودة في الحديث هي نوافل الصلاة والصيام والصدقة فقط، لا.. بل المقصود هذه السابقات مع مفهوم للنوافل أعظم وأشمل، فالنافلة المقصودة تشمل جميع مناحي الحياة، وأنواع القرب متى ما صحت النية وحسن القصد، مع عدم تهاون بأهمية الانكسار لله - عز وجل - في ميدان التأله بمحراب العبودية، واقرأ معي هذا المثل الجميل الذي يضربه لنا الشيخ الغزالي - رحمه الله تعالى - في كتابه [الإسلام والطاقات المعطلة] أثناء شرحه لهذا الحديث العظيم لنعي سوياً مقصود الحديث الشامل، يقول - رحمه الله تعالى -: \" لو أن أحد رجال المال اختير عضواً في مجلس إدارة لإحدى الشركات، فانكب على عمله هذا يؤديه بقوة، ويحاول ترقيته وتنميته، ويحلم في منامه بطرق استثماره، ويكرس صحوه لحراسته، وهو في هذا كله يرمي إلى دعم الاقتصاد الإسلامي، ومطاردة الغزو الأجنبي، ورفع مستوى الأمة التي وقف على ثغرة خطيرة فيها... فليس يشك أحد من علماء الإسلام في أن هذا الرجل مجاهد في سبيل الله.. وأن تفانيه في هذا المجال - بعد استكمال الفرائض المكتوبة - يجعله من أولياء الله الصالحين، الذين عناهم هذا الحديث الشريف... \".

 

أرأيت أخي.. إنها عبادة وفن احتساب إذاً، هذا الفن الذي إذا أتقنه العبد حاز أعلى الدرجات، وأرفع المقامات عند الله - عز وجل -.

 

وبعد تأملنا في هذا الحديث فلننتقل إلى حديث نبوي كريم آخر متفق عليه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: إني أحب فلاناً فأحببه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، ثم توضع له البغضاء في الأرض) (2).

 

قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى - في شرحه لهذا الحديث: \" قال العلماء: محبة الله لعبده هي إرادته الخير له وهدايته وإنعامه عليه ورحمته.. وبغضه: إرادة عقابه أو شقاوته ونحوه، وحب جبريل والملائكة يحتمل وجهين، أحدهما: استغفارهم له وثناؤهم عليه ودعاؤهم، والثاني: أن محبتهم على ظاهرها المعروف من المخلوقين وهو ميل القلب إليه واشتياقه إلى لقائه، وسبب حبهم إياه كونه مطيعاً لله - تعالى - محبوباً له، ومعنى يوضع له القبول في الأرض: أي الحب في قلوب الناس ورضاهم عنه فتميل إليه القلوب وترضى عنه \".

 

أرأيتم المعادلة.. إنها باختصار أن يُقبل المرء بكليته على الله - عز وجل -، ويكن معه بصدق وإخلاصº فيحبه الله - عز وجل - ويكن معه، ويجعل الكون كله معه مؤيداً ونصيراً، وبالعكس.

 

ومن هنا نجد تفسيراً واضحاً لتلك الدعوات الرقيقات التي ناجى معلمنا العظيم، ونبينا الكريم - صلى الله عليه وسلم - بها خالقه ومولاه - عز وجل -، حين وجد ما وجد في الطائف، فعاد في طريقه محزوناً رافعاً يديه إلى السماء: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين.. أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك.. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك) (3)..

 

فما إن انتهى حتى أكرمه الله - عز وجل - بإسلام عداس، وإقبال ملك الجبال عليه ليأمره بما شاء، تسلية له - صلى الله عليه وسلم -، وليعلم مكانته عند ربه - عز وجل -.

 

وبعد هذا.. تأمل معي هذا الكلام الرائع لأستاذ الدعوة البارع الشيخ محمد الراشد - حفظه الله تعالى - في مقدمة المسار إذ يقول: \" إن للتقوى آثار تشغيل، وبمقدار جديتنا يكون الناس جديين، ولنا شاهد دائم في أنفسنا، فإننا نتفاوت بين يوم ويوم، وإيماننا يزيد وينقص، فإذا كنا حيناً في إيمان جيد رأينا إقبال الناس علينا، وإذا كان فينا جزر إيماني وقسوة قلب في حين آخر: رأينا قلة جدوى نشاطنا، مع كثرة غدونا ورواحنا.. وكل منا قد تعاقبت عليه مثل هذه الأحوال، ولمس بنفسه اختلاف مواقف الناس منه... \".

 

وفي نهاية المطاف.. فإن الداعية إلى الله - عز وجل - متى ما قام بواجب الأمر والنهي، حريصاً على أن لا يأمر الناس إلا بأمر قد ائتمر به، ولا ينهاهم إلا عن شيء قد انتهى عنه، آخذاً بالأسباب، غير مغفل للوسائل، فما عليه بعد هذا، وهذا حاله أن يعلق قلبه في مثل قوله - عز وجل -: {فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ... } (4).

 

------

الهوامش:

(1) رواه البخاري في الرقاق (باب التواضع) 11/292، 297.

(2) رواه البخاري في بدء الخلق (باب ذكر الملائكة) 6/220، ومسلم - واللفظ له في أواخر كتاب البر والصلة والأدب (باب إذا أحب الله عبداً حببه لعباده) (2637).

(3) ابن هشام ج2 ص 61، 62، وانظر عند الهيثمي في مجمع الزوائد: 6/235، وعند الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي: 2/275، رقم: 1839.

(4) سورة الشورى آية (48).

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply