كيف تؤتي خطبة الجمعة أكلها ؟


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لو أننا تأمّلنا حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - الذي يذكره كثيرٌ من الخطباء في خطب الجمعة: (وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظةً وجلت منها القلوبُ، وذرفت منها العيونُ، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظةُ مودِّع فأوصنا. قال: أوصيكم بتقوى الله - عز وجل - والسمع والطاعة وإن تأمّر عليكم عَبدٌº فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدييّن، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمورº فإنّ كل بدعة ضلالة). [رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح] لوجدنا فيه معانيَ أكثر من التي اعتاد الناس الاحتجاجَ به عليها: مثل الدعوة إلى لزوم السنة، واجتناب البدعة.

فقد استنبط الإمام الخطابي من هذا الحديث معنى \"الأمر بالصّبر على ما يصيبه من المضض في ذات الله كما يفعله المتألم بالوجع يصيبه\"[1]

ومما يمكن الاستدلال عليه بهذا الحديث أنّ الموعظة البليغة والذكرى النافعة للمؤمنين بمثابة الغيث الذي يُحيى الأرض بعد موتها، كما قال الله - تعالى -: {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمةً طيّبةً كشجرةٍ, طيّبةٍ, أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء * تؤتي أُكلها كلَّ حينٍ, بإذن ربها ويضرب الله الأمثالَ للناس لعلّهم يتذكّرون}º فقد أثمرت كلماتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في قلوب الصحابة - رضي الله عنهم -، وذلك - لعمري - مصداق قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا: فكان منها نقيّةٌ قبلت الماء فأنبتت العشب الكثير...)حتى قال: (فذلك مثل من فَقُه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعَلِمَ وعلَّم) رواه البخاري في كتاب العلم.وفي رواية مسلم : (طائفةٌ طيّبةٌ).

ومما يُمكن استنباطُه من فقه هذا الحديث أهمّيّة مراعاة ضوابط منهجيّةٍ, في الخطبة، وتوفير شروطٍ, علميّةٍ, في الخطيبº فمن ذلك:

أولاً: البلاغة:

كما جاء هاهنا:(وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظةً بليغةً) قال ابن رجب: \"والبلاغة في الخطبة مُستَحسَنةٌº لأنها أقربُ إلى قَبول القلوب واستجلابها، والبلاغةُ هي التوصٌّلُ إلى إفهام المعاني المقصودة وإيضاحها إلى قلوب السامعين بأحسن صورةٍ, من الألفاظ الدّالة عليها وأفصحها وأحلاها للأسماع وأوقرها في القلوب\"[2].

 

ثانيا: حُسنُ عَرض الآياتِ والأحاديثِ:

والعناية ببيان المسائل الشرعيّة بحيث تنشرح العقول لتفهّمهاº ورُبَّ دليلٍ, يُستعمَل في بابٍ, دقيقٍ, لا يخطر على البال - كصنيع البخاري - رحمه الله - في صحيحه - فتتشوّق النفوس إلى سماعه، وتزداد به انتباهاً وفهماً وابتهاجاً.

 

ثالثاً: التزام التوثيق والأمانة العلميّة، وتعليم الناس محبةَ الدّليلِ:

وذلك بالعزو إلى البخاري ومسلم والموطأ وغيرها من كتب العلوم - وهذا يكاد أن يكون مفقودا - وأما تعميمُ الكلامِ، والإغراقُ في الشعارات، والميلُ إلى العبارات الفضفاضةº فليس من العلم في شيء.

 

رابعاً: الحرص على الإيجاز في الكلام والاقتصار على القليل النافع:

وكما أنّ قِصَر الخطبة مَئِنَّةٌ من فقه الخطيب، فكذلك التطويل والمبالغة في التكرار والإسهاب من غير حاجة مَظنَّةُ جَهلِه. وإذا كان أعظمُ خطيبٍ, لا يُمَلٌّ حديثُهُ - صلى الله عليه وسلم - يلتزم بالإيجاز وهو يخاطب أحرصَ الناسِ على استماعِه ممن يستزيدون ولا يضجرون فيخاف عليهم السآمةº فغيرهم من باب أولى.

ولا شكّ أنّ تجاهل السٌّنّةِ في ذلك مَدعاةٌ إلى إملالِ الناسِ وتشويشِ أذهانهم من ناحيةٍ,، وسببٌ في الوقوع في الأخطاء والسّفسطة وخروج الخطيب عن المقصود واشتغال السامع بما لا ينفعه ولا يعنيه من ناحية أخرى.

ولله در ابن مسعود - رضي الله عنه - ما كان أفقهَهُ! - فقد التزم بهذين الأدبين في قولِهِ وفعلِهِ: كما أخرج البخاري في كتاب العلم [باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخوّلهم بالموعظة والعلمº كي لا ينفروا] حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخوّلنا بالموعظة بالأيام كراهةَ السآمةِ علينا)، وباب [من جعل لأهل العلم أياماً معلومةً] ذكر فيه حديث أبي وائل قال: \" كان عبد الله يذكّر الناس في كل خميسٍ, فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لوددتُ أنك ذكّرتَنا كلَّ يومٍ, قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أُمِلَّكُم، وإني أتخوّلكم بالموعظة كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخوّلنا بها مخافةَ السآمةِ علينا \". ورحم الله البخاريَّ فقد ذكر هذين البابَينِ بين ترجمتَينِ بَدِيعَتَينِ: هما(باب العلم قبل القول والعمل) و(باب من يُرِد الله به خيرًا يفقهه في الدين) ولا يخفى ما بين ذلك من المناسبة!

 

خامساً: إظهارُ الشفقةِ ورقةِ النفسِ وإخلاصِ النّصحِ:

فليست النائحة الثكلى كالمستأجَرَة! وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرص على هداية كفار قريش مع أنهم ساموه سوء العذابº حتى خاطبه ربّه بقوله - سبحانه -: {لعلّك باخعٌ نفسَك ألا يكونوا مؤمنين}، [سورة الشعراء3] وقال - عز وجل -: {فلعلّك باخعٌ نفسَك على ءاثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا}، [سورة الكهف6] وقال جل جلالُه : {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات}. [سورة فاطر8].

 

سادساً: مراعاة مقتضى الحال من ذكر المسائل المناسبة للسّامعين من حيث اهتمامُهم بهذه القضايا وتأثرُهم بطريقة عرضها:

فليس خطاب العلماء كخطاب العامة، وليس خطاب الرجال كخطاب النساء، وليس خطاب الشِّيب كخطاب الشباب. وهذا يجمع لك ما تفرّق في تراجم البخاري في كتاب العلم [باب من خصّ بالعلم قوماً دون قومٍ, كراهيةَ أن لا يفقهوا]، و[باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهمُ بعض الناس عنهº فيقعوا في أشدَّ منه]، وباب [من أجاب السائلَ بأكثرَ مما سأله]. ورحم الله ابن عباس رضي الله عنهماº فقد منع عمر - رضي الله عنه - في خلافته من الكلام في الأمور الدقيقة بعيداً عن العُصبة الداعية والبيئة الواعية بالمدينة.

 

سابعاً: الاعتناء بشأن الموعظة وإعداد العُدّة لها:

حتى تكون من الذكرى التي تنفع المؤمنينº فإنّ من جهل الخطيب أن يتهاونَ في شأن إعداد الخطبةº تعويلاً على أنّ الناس غيرُ مميِّزين للصالح من الطالحº فإنّ هذا من الظنّ الكاذب، والسامع ينقد بعقله ويغربل بأذنه ويُنكر بقلبهº ولهذا ترى كبار العلماء يتهيّبون أن يخاطبوا الناس عفو الخاطر إلا لضرورة، وتجدهم يعدّون الدروس ويراجعون المسائل.

 

ثامناً: التواضع وإشعار السامعين بأنك تذكّر نفسَك وتذكّرهم معك:

فلست تزكّي نفسَك أو تتشبّع بما ليس عندك، بل تتمثل قولَ إبراهيم التيمي: \" ما عرضتُ قولي على عملي إلا خشيتُ أن أكون مُكَذَّباً \" علّقه البخاري في كتاب الإيمان [باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر] قال ابن حجر: \"يعني خشيتُ أن يكذّبني من رأى عملي مخالفاً لقولي فيقول: لو كنتَ صادقاً ما فعلتَ خلافا لما تقولº وإنما قال ذلك لأنه كان يعظ الناس. ويُروى بكسر الذال وهي رواية الأكثر، ومعناه أنه مع وعظِهِ الناسَ لم يبلغ غايةَ العمل وقد ذمّ الله من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقصّر في العمل فقال: {كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}º[سورة الصف3] فخشي أن يكون مكذِّبا أي مشابها للمكذبين\"[3].

وما أحسن استحضار الخطيبِ أنّ التذكرةَ أمانةٌ يُؤدِّيها من باب \" أعطِ القوس باريها \".

 

تاسعاً: توعية الناس بقضايا المسلمين:

وغرس هموم الدعوة في قلوبهم، ومخاطبتهم بمفاهيم الإسلام فيما يعرض لهم في حياتهم كلها. كما قال الله - تعالى -: {قل إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين}. [سورة الأنعام 162] وإنك إذا تركتَ الناس وهمومهم التي تقضّ مضاجعهم، ولم تَهدِهم بنور القرآن والسنة في حيرتهم، وطفقت تحدّثهم بمباحث عسيرة تستعصي على أفهامهم مثل : مفهوم المخالفة والموافقةº كانوا أقرب إلى مخالفتك منهم إلى الموافقة، وإذا استرسلتَ في ذكر اصطلاحات العلوم: مثل مسائل الغريب والمنكر والشاذº جعلوا كلامك من ذلك القبيل، وإذا تماديت في موازين الصّرف والإعراب والبناءº اعتبروك من الأعراب الحفاة العراة العالة رِعاء الشاء!

 

عاشراً: الحرص على جمع كلمة المسلمين:

وحثّهم على التعاون على البر والتقوى، والحذر من الإسراف في إثارة القضايا الخلافيّة، والتنابز بالألقاب، والوقوع في العلماءº[4] فإنّ \"لحومهم مسمومة\"º ورُبّ كلمةٍ, يقولها المرءُ لا يُلقي لها بالاً تهوي به في جهنّم سبعين خريفا. وهذه المساجد بيوتُ الله التي أذن الله أن تُرفَعَ ويُذكَرَ فيها اسمُهُº فلا يجوز أن تُتّخذ منبراً للعصبيّات، أو مفرِّقاً للجماعات، كما قال الله - تعالى -: {وأنّ المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا}. والحذر من الوقوع في تضليل الناس وتبديعهم بغير وجه حق، بل جهلاً وتعنّتاً وتعصٌّباً مذهبياً.

ووالله لو فقه الخطباءُ أهميةَ الموعظةِ الحسنةِ، وأدركوا بركةَ الذّكرى النافعة للمؤمنين، وجمعوا للأمر عُدَّتهº لعاد للمسلمين مجدُهم وعزٌّهم. وصدق الله العظيم: {إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ, حتى يغيّروا ما بأنفسهم}[الرعد 11].

 

-----

[1] المرجع السابق 4/301.

[2] جامع العلوم الحكم ص 348.

[3] فتح الباري 1/152. وذكر أنّ الحديث وصله البخاري في تاريخه وأحمد في الزهد.

[4] ورحم الله الذهبي حيث قال:\"تكلم الناس في أحمد. ومن يسلم من الكلام بعد أحمد\" الرواة الثقات المتكلَّم فيهم بما لا يوجب الرّدّ للذهبي ص 39.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply