ادعُ إِلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 (ادعُ إِلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربّك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)  [النحل: 125]

 

يطلق كثير من المسلمين هذه الآية الكريمة حجّة لهم في موقع غير موقعها ليسوّغوا عجزاً أَو تنازلاً أو عدم تقدير حقيقي لعظمة هذه الآية الكريمة وشدة ارتباطها مـع كامل منهاج الله في تناسق وإِعجاز مع يُسر للناس في فهمها وتدبرها.

 

إن الآية الكريمة تمثّل حقّاً مطلقاً جاء من عند الله وحياً على محمد - صلى الله عليه وسلم -. وستظل هذه الآية الكريمة غنيّة الممارسة والتطبيق في كل واقع بشري. ولنفهم الآية الكريمة ونتدبرها يجب أن نفهم القضيّة التي تعالجها.

 

إن الآية تبتدئ بعرض القضية والموضوع: (ادع إلى سبيل ربّك... ). هذه هي القضية التي تتحدث عنها هذه الآية الكريمة متناسقة مع جميع الآيات الأُخرى في القرآن الكريم، الآيات التي تتحدث عن هذه القضية وأساليبها ووسائلها. إنها قضيّة الدعوة والإيمان والتوحيد، إلى الله ورسوله، إلى دين الله الحق ـ الإسلام ـ، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، ومن عبادة العباد والأوثان والأهواء إلى عبادة الله الذي لا إله إلا هو. إن هذه القضية تمثل القضية الكبرى في الكون والحياة، القضيّة التي من أجلها بعث الله الرسل والأنبياء الذين ختموا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وبالقرآن الكريم الذي جاء مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه. إنها تمثل الهدف الرّبانيّ الثابت الأول في حياة المسلم وفي مسيرة الدعوة الإسلامية. ومن أجل هذه القضية تقوم الدعوة الإسلامية في الأرض لإنقاذ الناس من عذاب الدار الآخرة لمن يموت على الشرك أو الكفر، ولإنقاذ الناس من فتنة الدنيا.

 

القضية التي تدور حولها الآية والآيات التي قبلها وبعدها هي قضية دعوة الناس إلى الإيمان والتوحيد. ومن أجل هذا الهدف العظيم تتحدّد علاقة المسلم بسائر الناس على ضوء قواعد ربّانية يفصّلها منهاج الله.

 

إن التوجيه في هذه الآية هو للداعية العامل، الداعية المجاهد الذي عرف دربه وهدفه، وعرف عهده مع الله ليكون الحافز الدائم ليمضي على الدرب يبلّغ رسالة الله.

 

فمن أجل ذلك جاء التوجيه الرباني (.. بالحكمة والموعظة الحسنة.. ). هذه هي القاعدة الأولى الهامة، أن تكون الدعوة بالحكمة أولاً، باختيار الأسلوب الأمثل المليء بالحكمة لتبليغ رسالة الله واضحة جليّة دون مواربة ولا تنازلات ولا مساومات. لا يحلّ للداعية المسلم أن يغيّر أو يبدل دين الله، وفي الأساليب التي بيّنها منهاج الله، ثم يقول: إن هذا التغيير أو التنازل هو من باب الحكمة.

 

والحكمة هي في بعض الآيات تعني ما أُنزل من عند الله، وفي أخرى يكون معناها الجامع: فقه الموهبة المؤمنة والمسؤولية والأمانة.

 

وهنا يحاول بعض المسلمين أن يقرّب الإسلام من العلمانية مدّعياً أن تقريبهما هو من باب الحكمة، أو ضرورات الواقع، أو المصلحة العامة التي يتوهمها.

 

إن أسلوب الحكمة نستطيع أن نفهمه من كتاب الله نفسه، ومن هذه الآية الكريمة بقوله - سبحانه وتعالى-: (والموعظة الحسنة) والموعظة هي أن تبيّن لهم عظمة الإسلام والإيمان وقوة ثباتك أيها الداعية المسلم عليه. والموعظة الحسنة هي: الوضوح في الكلمة المؤمنة الطيبة، والصدق فيها، حتى لا يكون هنالك مجال لسوء الفهم أو التغرير. إنها تتأكد بقوله - سبحانه وتعالى- (... وقولوا للناس حسناً... ) [البقرة: 83]

 

وبقوله - تعالى -: (.. وهدوا إلى الطيّب من القول وهدوا إلى صراط الحميد) [الحج: 24]

 

يجمع الله - سبحانه وتعالى- معاني (قولوا حسناً)، (الطيب من القول)، (الموعظة الحسنة)، (صراط الحميد)، وغير ذلك من الآيات الكريمة، بقوله الجامع في آية جامعة:

 

(ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين) [فصلت: 23]

 

إنها آية جامعة لكل ما سبق، مفصِّلة لمعنى: بالحكمة والموعظة الحسنة، وغير ذلك مما ذكرناه سابقاً. إنها تجمع ذلك في ثلاث قضايا أو خطوات: أولاً: (... دعا إلى الله.. ): أن تكون الدعوة إلى الله هي جوهر العلاقة دون تغيير ولا تبديل، ودون تمويه ولا مماراة، ودون ضعف أو تردد. ثانياً (... وعمل صالحاً.. )، حتى يرى الناس أن قولك مطابق لعملك، وأنك ملتزم بما تقتضيه دعوة الناس إلى الله: كلمة ونهجاً وتطبيقاً، ليروا الإسلام ليس في الكلمات ولكن ليروه في واقع الحياة حيّاً ناطقاً بالحق. ثالثاً (... وقال إِنني من المسلمين): إنه الوضوح والجلاء وإعلان الهُويَّة لمن تدعوه، حتى يطمئنّ إلى صدقك واستقامتك، وأنك تعلن الحق ولا تتنازل عن شيء منه أبداً، وترفض الباطل ولا تقبل منه شيئاً.

 

إن اللحظة التي يتنازل فيها الداعية عن شيء من الحق، أو يقبل فيها شيئاً من الباطل، تكون دعوته قد انتهت وسقطت وخسر الموقف كله، وفتح الباب لشياطين الإنس والجنّ أن تلج وتتسلل، ثم تمتد وتقوى، وإذا الداعية المسلم أصبح يدعو بدعوة هؤلاء تحت شعار (الحكمة)! إذا به يدعو إلى الحداثة أو العلمانيـة أو الديمقراطية أو الاشتراكية، كل ذلك بدعوى الحكمة والموعظة الحسنة.

 

الأمثلـة على ذلك كثيرة: داعية مسلم يدعو في قلب أمريكا إلى الديمقراطية، وداعية مسلم ينتقل من بلد إلى بلد، يبذل جهده وماله ووقته ليبيّن للناس فضائل الديمقراطية (لأنها المثل الذي يحتذى)، ولا يتطرّق إلى الإسلام ودعوته، وداعية ينتقل ليبيّن للناس أنه (لا خلاف بين مقصود الشريعة الإسلامية والعَلمانية)، وداعية مسلم يحتضن (الاشتراكيين) ويتنازل لهم ويسكت عن بعض مناهجهم المنحرفة، فإذا هو راضٍ, عنها أو داعية لها. ذلك لأَنّ الشيطان يُزيّن للإنسان سوء عمله حتى يراه حسناً دون أن يشعر أنه مخطئ. إنه أمر طبيعي! إن الحق يرفض أن يُتنازل عنه أو عن شيء منه أو أن يتجزأ، لأنه عزيز قوي من عند الله، وإن الحق يرفض أن يُشرَك معه باطل، لأن الحق من عند الله والباطل من الشيطان وأَعدائه.

 

ليس أمام الداعية المسلم إلا سبيل واحدة:

 

(قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) [يوسف: 108]

 

نعم: (أدعو إلى الله)!، وليس إلى غيره، أبلغ رسالة الله إلى الناس، نعم: (على بصيرة)!، على إيمان ويقين، ونهج واضح ودرب جليّ، وأهداف مشرقة لا انحراف عنها!

 

(أنا ومن اتبعني)! فالمؤمنون أمة واحدة تمضي على سبيل واحدة إلى أهداف واحدة، تنزيهاً لله دون شرك أبداً.

 

إنه ليس من الحكمة ولا من الموعظة الحسنة أبداً أن لا تدعو إِلى الله، أو أن تعطّل الدعوة إلى الله بالانشغال عنها بما هو أقل منها شأناً عند الله، أو تُفرِّق الدعوة أجزاءً غير مترابطة لا تكون نهجاً متصلاً ولا سبيلاً ممتداً: (قل هذه سبيلي)! فالأمر من الله جَليٌّ حاسم: (ادعُ إلى ربّك.. )! بلّغ رسالة الله إلى الناس!

 

إنه ليس من الحكمة ولا من الموعظة الحسنة أن تدعو إلى شيء من (دون الله)، ولا إلى أمر من (دون الله). فقد جـاء النهي من الله عن ذلك جلياً حاسماً: (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذن من الظالمين)        [يونس: 106]

 

(وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً) [الجن: 18]

 

(قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحداً) [الجن: 20]

 

إنه ليس من الحكمة ولا من الموعظة الحسنة أن لا تبلّغ رسالة الله كاملة، كما أُنزلت من عند الله، أو أن تخفي منها شيئاً، مداراة لوهم قذفه الشيطان في نفسك، أو ظنّاً منك أنك بإخفاء شيء من رسالة الله أو تحويره تبلغ هدفك، فالله أعلم ولقد جاء أمره جلياًّ حاسماً:

 

(يا أيها النبي بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس إنّ الله لا يهدي القوم الكافرين) [المائدة: 67]

 

(وقل الحقُ من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أَعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً) [الكهف: 29]

 

إنك أيها الداعية المسلم إن أخفيت شيئاً خسرت أمرين: خسرت احترام مَن تدعوه، لأنه يعرف دينك الذي لا يؤمن هو به، ويعرف أنك غيّرت وبدّلت وخسرت رضاء الله وعونه ونصره، فما النصر إلا من عند الله.

 

إنه ليس من الحكمة ولا من الموعظة الحسنة أن تخالف أمر الله وما أوحى به إلى عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، أن تخالف ذلك إلى هواك واجتهادك البشري على غير أساس من دين الله. فلقد جاء أمر الله جليّاً حاسماً:

 

(واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) [يونس: 109]

 

(فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنزُ أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل) [هود: 12]

ليس من الحكمة أن نُصَوِّر الإسلام أنه دين المسالمة والمساومة والتنازلات كي نركن إلى من لا يؤمن بالله، أو انحرف عن دين الله، أو دعا إلى غير الله، أو افترى على الله كذباً وادَّعى باطلاً أو أخفى وبدَّل وغيَّر، ولا هو من الحكمة أن نخفي ما فرضه الله نصاً صريحاً في الكتاب والسنة من عدم موالاة المشركين والكافرين والمنافقين، أو نخفي ما أمر الله به من جهاد في سبيل الله. ليس من الحكمة أن نخفي ما بيّنه الله للناس، ولا أن نركن إلى الظالمين، فقد جاء الأمر من عند الله جلياًّ حاسماً في كل ذلك، وأمر المؤمنين بالصبر على ما يلقونه في سبيل الله:

 

(فاستقم كما أُمرت ومن تاب معك ولا تظغوا إنه بما تعملون بصير. ولا تركنوا إلى الذي ظلموا فتمسكم النار ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير) [هود: 111، 112]

 

وكذلك فإنه ليس من الحكمة أن يُتَّهم الإسلام بأنَّه دين العدوان والظلم، بادعاء باطل يقوم على تأويل فاسد للجهاد في سبيل الله، لإلصاق الجريمة بالمسلمين، ويُخفَى بعد ذلك أن الإسلام دين الحقِّ والعدل، ودين الرحمة والعزّة والقوة، وأن الحقَّ والعدل والرحمة والعزَّة لا تحقّق في الأرض إلا بالجهاد في سبيل الله.

 

إنَّ أساس الحكمة والموعظة الحسنة أَن نبلّغ رسالة الله كما أُنزلت على محمد - صلى الله عليه وسلم -، لا نخفي شيئاً ولا نبدّل ولا نغيّر. ذلك لأن الموازنة في كتاب الله معجزة كلّ الإعجاز، لا نستطيع بلوغها إِلا باتباعها، ولا نستطيع بلوغها إذا لم نبلّغ الإسلام بتكامله ووضوحه، أو إذا بلّغنا جزءاً وحذفنا جزءاً، أو إذا قبلنا باطلاً فذلك ما يسعى إليه المجرمون في الأرض، منذ النبوة الخاتمة ليفتنوا المؤمنين عما أُوحي إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -:

 

(وإن كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً. ولولا أن ثبَّتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذا لأذقناك ضعفَ الحياة وضعف الممات ثمّ لا تجد لك علينا نصيراً)  [الإسراء: 75]

 

وكذلك قوله - سبحانه وتعالى-: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)   [البقرة: 159]

 

وكذلك:

 

(الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون. الحقٌّ من ربّك فلا تكوننّ من الممترين) [البقرة: 146، 147]

 

إذن نستطيع أن نفهم ما هي الحكمة والموعظة الحسنة في طريق الدعوة إلى الله من كتاب الله ومن سنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -. ولقد أتينا بقبسات فقط، لأننا لا نستطيع أن نعرض هنا كل ما جاء في منهاج الله، فلا بد للمسلم أن يعـود إلى منهاج الله عودة صادقة ليرى الصورة الجليّة بتكاملها وترابطها وتناسقها.

 

ثم يأتي الأمر الثاني من عند الله: (وجادلهم بالتي هي أحسن)! نعم! يجب مجادلتهم بالتي هي أحسن، ذلك والمسلم الداعية قائم بالدعوة إلى الله، يبلغ رسالة الله بتكاملها، يعرض الحق لا يتنازل عن شيء منه أبداً، ويرفض الباطل ولا يقبل منه شيئاً أبداً. إذاً، وهو في طريق الدعوة، يدعو ويبلّغ، قد يضطر إلى المجادلة، ليعرض حجّته بأسلوب مشرق صادق واضح مقنع. الأسلوب الحسن في الجدال نفهمه كذلك من كتاب الله وسنة نبيّه - صلى الله عليه وسلم -، كما بيّنا قبل قليل. الأسلوب الحسن هو الوضوح والجلاء، والصدق والبيان، والحجّة القويّة المقنعة، تعرض الحقَّ وترفض الباطل، وليطابق القول العمل، وذلك كله بأدب وخلق، بالكلمة الطيِّبة، والعمل الصالح.

 

ويعلمنا القرآن الكريم جميع الجوانب (وجادلهم بالتي هي أحسن)، وحدودها وأسلوبها، وبصورة عملية جليّة. فلنأخذ قبسات من ذلك:

 

(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) [العنكبوت: 46]

 

هذه هي الحدود: (.. إلا الذين ظلموا منهم.. ) والظالمون هم الذين يدعون إلى باطل ويصرّون عليه، والذين يعتدون ويظلمون الناس، والكافرون والمنافقون، الذين يفسدون في الأرض.

 

وهذا هو الأسلوب الأحسن: (.. وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) إنه الصدق والحق والوضوح، بأدب عالٍ, وبيان وخلق. ليس الأسلوب الأحسن أن نقول إننا عَلمانيون، أو أن علمانيتكم قريبة من ديننا، ولا ديمقراطيتكم هي من الإسلام، والحداثة من الإسلام، والاشتراكية من الإسلام، وعدد ما شئت، ثم تقول إن ذلك كله من الإسلام. ولو فعلنا ذلك لما عرفَ الناس عندئذ ما هو الإسلام في وسط هذا الخليط المضطرب، ولا ما هي حقيقته! وانظر كيف يعلمنا الله ممارسة الحكمة والموعظة الحسنة والجدال الأحسن:

 

(الحقٌّ من ربك فلا تكن من الممترين. فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنه الله على الكاذبين. إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم) [آل عمران: 60ـ 62]

 

فهل هنالك أبلغ من هذا الدرس العظيم، إلا أن يكون درساً آخر من كتاب الله، فاستمع إلى درس ثانٍ, في قوله - سبحانه وتعالى-:

 

(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاَّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولَّوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) [آل عمران: 64]

 

وضوح وجلاء، وقول فصل حاسم، بأعلى درجات الخلق والقول الحسن والحكمة والموعظة الحسنة والجدال الحسن. واستمع أيضاً إلى أدب الجدال الحسن في صورة تطبيقية عملية:

 

(يا أهل الكتاب لم تحاجّون في إبراهيم وما أُنزلت التوراة والإنجيل إلاَّ من بعده أفلا تعقلون. هاأنتم حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون. وما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين. إنَّ أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبيّ والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) [آل عمران: 65ـ68]

 

وضوح وجلاء، قول فصل حاسم، حجّة بالغة تخاطب النفس والعقل، لتبلِّغ الحقَّ لا باطل معه ولا شوائب. موقف حاسم لا مساومة فيه ولا محاولة لتقريب الحق من الباطل أو الباطل من الحق، إذ لا لقاء بينهما أبداً.

 

واستمع إلى هذه الآيات الكريمة تعرض لنا الحكمة والموعظة الحسنة والقول الحاسم عندما ينتهي دور الجدل والجدال:

 

(قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا بُرءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرنّ لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير. ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربّنا إنك أنت العزيز الحكيم) [الممتحنة: 4، 5]

 

مواقف كثيرة نتعلم منها من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، كيف يجب أن نمضي في الدعوة إلى الإيمان والتوحيد، إلى الحقيقة الكبرى في الكون والحياة، إلى الله ورسوله، وكيف تكون الحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن.

 

إن هذه القواعد الربانيّة يجب التزامها لتكون نهجاً متصلاً واعياً في حياة المؤمن الداعية، سواء أكان يدعو كافراً ومشركاً، أو أحداً من أهل الكتاب، أو رجلاً منتسباً إلى الإسلام فيه انحراف وضلالة في بعض جوانب فكره كما يبدو للناس. لابدّ من الوضوح والجلاء والقول الحاسم والحجة البالغة المقنعة، ولابد للداعية أن يلتزم هو أولاً ما يدعو إليه، ليكون قوله مطابقاً لموقفه وعمله.

 

قد يتسلّل إلى صفوف المؤمنين علمانيون واشتراكيون وديمقراطيون أو مشركون في حقيقتهم. ثم يُخفون ذلـك حتى تلوح لهم الفرصة فيكشفوا عن حقيقتهم، ويبدؤوا ينشرون الفتنة بين المسلمين. ألم نر كيف أن حزباً أصولياً إسلامياً يعلن أن لا يدعى بإسلامي وأنه علمانيّ بكل معنى الكلمة؟ ! إنها صدمة نفسيّة أن نرى هذا الحشد الـذي كان منتسباً إلى الإسلام حتى اعتُبر من الأصوليين، أعلن عن انتمائه العلماني وانتمائه إلى أوروبا! وربما هناك آخرون ألبسوا علمانيّتَهم وشِركهم قطعة رقيقة من الإسلام، شعاراً إسلامياً يخفي الحقيقة العلمانية أو الشرك. وقد يقـول بعضهم إن هذا مجرد \" تكتيك \"، ولكنه تكتيكاً لا ندري من يخدع به، أي يخـدع نفسه، أم المسلمين، أم العلمانيين، أم كل أولئك؟

 

لقد كشف واقعنا بالأمثلة الحيّة أن أيّ تنازل من الداعية عما يؤمن به، وقبوله ببعض ما يرفضه مداراة للطرف الآخر، بدعوى أنه قبول مرحليّ وتنازل مرحلي، حتى يتألف القلوب، إن أي تنازل مثل هذا فتح ثغرات واسعة في صفّ المسلمين، تسلل منها الطرف الآخر بدعوته ورسالته، فإذا المسلم الذي كان يرفض (الحداثة) مثلاً، أصبح بعد تنازله يسكت عن أخطاء الحداثة، ثم أصبح يألفها، ثم أصبح يدعو لها، بعد أن زيّن له الشيطان ذلك بالخطأ أو الانحراف:

 

(أفمن كان على بيّنة من ربّه كمن زُيِّن له سوء عمله واتبعوا أهواءهم) [محمد: 14]

 

(أفمن زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون) [فاطر: 8]

 

وكذلك كان شأن من تنازل للديمقراطية عن حقائق الإسلام، حتى أصبح داعية للديمقراطية في كل موطن باسم الإسـلام ونسي أمـر الله - سبحانه وتعالى-: (ادعُ إلى سبيل ربك.. ).

 

وكذلك صار بعض المسلمين يملؤون الندوات بالدعوة إلى الاشتراكية حين كانت أيام مواسمها، وكذلك صار بعض الدعاة المسلمين دعاةً إِلى العلمانيّة بصورة ظاهرة واضحة، في الندوات والمؤتمرات!

 

والذين أخذوا يُمارُون النصارى ودعاة النصرانيّة ويُوادّونهم، فَيَسمعون منهم دون أن يُسمعوهم، بحجة (الحكمة) دون الدعوة إلى الله ورسوله، ودون الموعظة الحسنة، فما لبث بعضهم أن وجد نفسه يألف ما يدعونه إليه من باطل، ويغيب عنه الحق الأبلج في الإسلام، ولا يجد حوله من يوقظه أو يعظه، فإذا هو تارك لدينه، مرتمٍ, في شرك وضلالة أهلك نفسه بها.

 

إنها الخطوة الأولى دائماً، ثم تتلوها الخطوات. الخطوة الأولى التي يزيِّنها الشيطـان هي السكوت عما يؤمن به المسلم الداعية أو ما يدّعي أنه يؤمن به، السكوت عما يؤمن أنه حق فلا يدعو ولا يبلغ، وإنما يصمت ويستمع.

 

وتأتي الخطوة الثانية التي يزيّنها الشيطان حين يقبل المسلم بعض ما يدعو إليه الطرف الآخر بحجة الحكمة وتألف القلوب والاحتضان. وطرف يعلن رأيه بوضوح وقوة وتصميم غير عابي بودّك أيها الداعية المسلم، أو يتظاهر بودك حينا، وأنـت صامت لا تبلّغ دعوتك ولا رأيك الحق، فماذا تتوقع أن تكون النتيجة؟ كيف تسكت والأمر من عند الله مدوٍ,ّ في الكون كله:

 

وقل الحقُّ من ربكم... !

 

ادع إلى سبيل ربك... !

 

أيها المسلمون! قولوا الحق وادعوا إلى سبيل ربكم، وبلّغوا رسالة الله إلى الناس كما أنزلت على محمد - صلى الله عليه وسلم -، افعلوا ذلك ثم تحدّثوا عن الحكمة والموعظة الحسنة!

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply