همومه وهمومي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

هذه القطعة الأثرية الرائعة الثمينة، بذل صاحبها في الحصول عليها الكثير من الجهد والمال، فلم يعد من السهل عليه التخلي عنها لقاء مبلغ من المال - قل أو كثر-º فكيف لو تصورنا أن أحدًا أسقطها عمدًا أو سهوًا، فتحطمت أو تهشمت؟

ماذا سيكون موقف مالكها المأخوذ بها؟ وكيف سيكون موقفه بالتحديد من ذلك الفاعل؟

 

التأثر- لا شك- بالغ، والحزن عاصف، والآلام كبيرة، لقد هدم في لحظة ما بناه في سنوات، وفقد أعزَّ ما يملك في هذه الدنيا.. فمن يلومه؟

 

وهذا الشعور إزاء حدث صغير، يضحك منه من لا يعطون هذه القطعة الأثرية الأهميةَ نفسَهاº إذ إن مجرد الاهتمام بها أمر يثير السخرية لديهم.

 

أما ذلك الشخص المتسبب، فلن يكون الموقف منه أقل من البغض، والتناول باللسان، والتغريم، وكيف لا يكون الأمر كذلك، وهو الذي فعل ما فعل؟

 

إنه مهما بلغ صاحب القطعة الأثرية من السماحة، وطيب النفس، إلا أنه يصعب أن ينسى ذلك الموقف الذي تحطمت فيه قطعته أمام عينيه على يد فلان!

 

هذه هموم فعلاً.. ولكنها هموم ثانوية.

 

نحن نريد نقل الهم إلى القضايا الكبيرة.. قضايا الإسلام والأمة.

 

نريد الحزن ذاتهº بل أشد.. الحزن المنتج المؤثر المحرك، وليس الحزن السلبي القاتل، ونريد المواقف ذاتها من الهدامين والمدمرين للجهودº بل أشد.

 

إنها مسألة الولاء والبراء، أفيجوز أن يكون \"الغضب\" لكسر قطعة أثرية أعظم من الغضب لحرب الإسلام، أو حرب شيء من عقائده وشعائره؟!

 

أم هل يجوز أن تكون \"البراءة\" من محطم القطعة أقوى وأشد من البراءة من أولئك الذين يعلنون الحرب على دين الله بأقوالهم وبأفعالهم؟

 

إن الشيء الذي يضحي الإنسان من أجله يصبح غاليًا نفيسًا، ويحتل من عقل الإنسان وقلبه مرتبة لا تبارى.

وأمثال صاحب القطعة الأثرية كثير..

 

- هذا المال الذي جمعه صاحبه من قرش وريال، وسهر من أجله الليالي الطوال.

 

- هذه الترقية التي ينتظرها الموظف بفارغ الصبر، ويستميت في الوصول إليها، يعتبر كل من تسبب في عرقلتها عدوًّا شخصيًّا له، يستحق المقت والكراهية.

 

- هذا الولد الوحيد الذي ليس لأبويه غيره، فهو سرور قلبيهما، وقرة أعينهما، إلى آلاف الأمثلة من واقع الحياة...

 

وكلها هموم تتراوح بين هَمّ مباح وهَمّ حرام، لكنها تشترك في أنها هموم دون الهم الأكبر، وإن ملأت قلوب أصحابها، وكبرت في عيونهم، وسدت عليهم المنافذº بل حتى ذلك الباحث الذي أفرغ جهده وعمره في إعداد هذا البحث وتنقيحه، أو تحقيق هذه المخطوطة، ربما تكون أخذت من حيز قلبه وحياته أكثر مما تستحق، وربما تحمس للنتائج التي توصل إليها أكثر مما يجبº لأنه لا ينظر إليها نظرة موضوعية متجردةº ولكن ينظر نظرة تستبطن الجهد الكبير الذي بذله، وتستحضر تفصيلات الأدلة ووجوه دلالاتها، وتنقض كل ما يعارضها أو يناقضها.

 

هيهات أن يفكر أحد في \"إلغاء\" اهتمامات الناس، وتحويلها إلى همٍّ, واحد كبير أو صغير، فهذا خلاف الطبيعة الإنسانية، وخلاف مقتضيات الشريعة التي جاءت بتقدير الأمور بقدرهاº ولهذا فلا تثريب على أحد أن يعطي هذه الشؤون قدرها من العنايةº بل هـو ملـوم لو أهملهـا أو بخسها حقها، ومعاقب على ذلك شرعًا - إذا كانت من الاهتمامات الشرعية -، ولكننا جميعًا ندرك أن القضايا الكبرى أولى بمزيد العناية مما دونها، فليست المسائل الشخصية كالمسائل العائلية، ولا هذه كمسائل المجتمع القريب، ولا تلك كمسائل الدولة، أو كمسائل الأمة، أو

العالم. وهكذا كل القضايا.. يمكن توزيع فروعها إلى درجات وطبقات متفاوتة، بحسب كبرها وأهميتها، وإمكانية الاستغناء عنها.

 

إن إعطاء القضايا الكبرى الإسلامية مكانها في القلب والوجدان، وفي العقل، وفي ميدان الحياة حق لا بد من المطالبة بهº لأنه الدليل على صدق الانتساب لهذا الدينº ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: \"مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى\" [أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586) من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه -].

 

وفي الحديث الآخر: \"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا\" وشبك - صلى الله عليه وسلم - بين أصابعه\" [أخرجه البخاري (481)، ومسلم (2585) من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -].

 

فهذا المطلب هو الذي يمنح التوازن في القلب والعقل والحياة العلمية، للمطَالب والهموم الأخرىº فلا تطغى على حياة الإنسان، أو تستأثر بجهده، أو تغلق منافذ عقله وقلبه دون غيرها، إنه جانب من \"العدل \" الذي أمر الله - تعالى - به ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.

 

ومن الظلم الفادح أن يهيج المرء لاعتداء شخصي يسير على نفسه، أو ماله، أو ولده، أو بعض إنجازاته، أو لما يظنه هو \"اعتداء\"، ثم يواجه اعتداءات ضخمة على أمة بأكملها: على رجالها، أو على تاريخها، أو على مستقبلها، أو على أموالها وثرواتها… بالتهوين، والتقليل، والتجاهل.. وأين هذا من ذلك؟

 

يبقى أن بعضًا من الناس خلقوا بعقول وقلوب صغيرة، لا تتسع إلا لشؤونها الذاتية، ولا تتأثر لسواها، ومثل هذه لا حيلة فيها، ولكنه \"الابتلاء\" الذي إذا رآه العقلاء الأسوياء، قالوا: \"الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً\" [أخرجه الترمذي (3432) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وقال الترمذي: حديث حسن غريب].

 

ثم إن هذا الهم الفطري - بالنفس، أو الزوج، أو الولد، أو المال، أو الموقع- يمكن أن يرتبط بالهم الكبير، يمكن أن يكون نهرًا أو جدولاً يصب في ذلك البحر أو المحيط، وهذا دأب أصحاب النيات الطيبة، يستحضرونها في تفاصيل حياتهم، فتحول عاداتهم إلى عبادات، وتربطهم بذلك الهَمّ المقدّس، وهُم على مقاعد البحث، وهُم في المركز التجاري، وهم على كرسي العمل، وهم في غرفة العمليات، وهم على فرشهم، كما تربطهم به وَهُم في المسجد، أو في ميدان الجهاد، أو حلقة العلم.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply