البراءة من الجاهلية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

قال الله - تعالى -: {قد كانت لكم أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيمَ والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا بُرءَاؤ منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبَدا بيننا وبينكم العداوةُ والبغضاءُ أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قولَ إبراهيمَ لأبيه لأستغفرنّ لك وما أملك لك من اللهِ من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير * ربنا لا تجعلنا فتنةً للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم * لقد كان لكم فيهم أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتولَّ فإن الله هو الغنيٌّ الحميد} [الممتحنة: 4 ـ 6].

 

يصعب هذا الموقف على الكثير من الناس وهو أن يتبرأ الإنسان من قومه المتنكّبين عن طريق الله الذين نشأ بينهم وعاش معهم، وقد تكون البراءة من الأهل والأقارب وهذا موقف لا يستطيعه إلا الأشدّاء من الرجال. ولكن المتفحِِّص لحقيقة الأمور بدوافعها وخلفياتها يجدها سهلة عند أولئك القوم الذين رسخت في نفوسهم معاني العقيدة وتأصَّلت في ضمائرهم تشريعاتها ومتطلباتها فأصبحت الدنيا ومَن فيها من حولهم ليس لها قيمة وليس لها وزن أمام ما تتطلّبه العقيدة من أمور، خاصةً أن الذي أمر بهذه العقيدة وفرضها إنما هو خالق هذا الكون وخالق هذا الإنسان والمانح لجميع القوى الموجودة في الإنسان ومَن حوله.

 

إنها العقيدة التي أمر الله بها أنبياءه وأنزلها عليهم فعملوا على تربية المؤمنين عليها. فهذا عبد الله بن أُبَيّ حين تكلم بحق النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين من المسلمين رضوان الله عليهم أجمعين فقال ـ في جملة ما قال ـ: \".. لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذَل.. \" ووصل الخبر إلى ابنه عبد الله بأن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يريد قتله لمقولته هذه فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: \"يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبيّ فيما بلغك عنه، فإن كنتَ لا بد فاعلاً فمرني فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبَرّ بوالده مني وإني لأخشى أن تأمر غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أُبَيّ يمشي بين الناس فأقتله فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار.. \".

 

إنها كلمات سجّلتها سطور التاريخ في بناء العقيدة للرجال وفي إعطاء الولاء على أساسها والبراءة على أساسها وهذه هي مسيرة الأسوة الحسنة في إبراهيم والذين معه الذين نظروا إلى قومهم وما فيهم من جاهلية تحيط بهم فنصحوا وبيّنوا وأقاموا الحجة وأظهروا البرهان... ولكنها الجاهلية بكبريائها وعنادها ومقاومتها لكل دعوة خير وكل دعوة حق. فالجاهلية هي الجاهلية إن كان في زمن الخليل إبراهيم أو كانت في زمن الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - أو كانت في أيّ زمانٍ, ومكان. إنها تعمل على تعبيد العباد بعضهم لبعض وتصدهم بكل وسيلة عن أن يتوجهوا بعبادتهم لرب العباد. فهذه جاهلية واجبٌ على أتباع الأنبياء والمرسلين البراءة منها، البراءة من عقائدها، والبراءة من تشريعاتها ومبادئها والبراءة من أفكارها وفلسفاتها وألفاظها المعبِّرة عنها والعاملة على تقويتها ودعمها والتي تعتبر من أساسيات وجودها.

 

ولا نعني بالبراءة من الجاهلية بدايةً الانعزال الحِسّي عنها والانزواء جانباً، إلا في بعض المواقف والمواضع ـ وقد بيّنها أهل العلم ـ إذ القدوة هي حياة جميع الأنبياء، فقد كانوا دعاةً بين أقوامهم وبين أهلهم يوجِّهون إليهم النصح والإرشاد ويبيّنون لهم وجوب توحيد الألوهية وحقيقة الربوبيّة وخطورة الفساد الذي هم عليه في الاعتقاد والتشريع والعبادة ولكنهم مع ذلك كانوا دائماً في حالة مفاصلة عقائدية نفسية شعورية.

 

فهي البراءة من القوم ومعبوداتهم وعباداتهم... إنها الكفر بهم والإيمان بالله. وهي العداوة والبغضاء لا تنقطع حتى يؤمن القوم بالله وحده. وهي المفاصلة الحاسمة الجازمة التي لا تستوفي شيئاً من الوشائج والأواصر بعد انقطاع وشيحة العقيدة وآصرة الإيمان.

 

فأتباع الأنبياء في زماننا وخاصة الذين يَسعَون لتعبيد العباد لرب العباد بحاجة ماسّة للنظر والاعتبار بموقف الخليل إبراهيم - عليه السلام - وهو يوجه قومه ويُعلن البراءة منهم ومما يعبدون من دون الله، ويكفر بما يؤمنون هم به من دون الله ثم يعلن لهم العداوة والبغضاء أبداً حتى يتركوا ما هم عليه من الكفر والإلحاد ويعودوا لعبادة الله وحده.

 

إنها قمة التحدي للجاهلية بما نملك من إمكانيات وقوى وبما نملك من إيمان وقوة اعتقاد ولو كانت الجهة المقابلة: الكون بأسره.

 

فالذين يريدون الله واليوم الآخر ولا ينظرون إلى الدنيا إلا أنها جسر عبور للآخرة عليهم أن يتأسِّوا بهذا الرهط من الأنبياء والصالحين، وأن يوطِّنوا أنفسهم بما وطنوا هم أنفسهم عليه من تحملٍ, لتبِعات العقيدة التي يحملونها بعد إعلانهم عنها بمفهومها الشامل، لأن الجاهلية لن تقف مكتوفة الأيدي عديمة الحركة. فها هي تجمع الحطب في زمن الخليل إبراهيم من أجل إجراقه. وها هي تتحرك في زمن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وتأتمر لقتله، وهي في كل زمان ومكان تتحرك من أجل القضاء على الثٌّلّة المؤمنة التي تدعو البشرية لعبادة الله وتحكيم شريعته والكفر بما سواه.

 

ولكنها مهما عظمت ومهما كبرت ومهما جمعت من عُدَدٍ, من أجل القضاء على المؤمنين فهي لا تدري أنها تواجه القدرة الربانية التي لا تتساوى معها في شيء والتي تتدخل في اللحظات الحرجة لنصرة عباد الله كما حصل مع الخليل إبراهيم - عليه السلام -:

 

{قالوا حَرِّقوه وانصروا آلهتَكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نارُ كوني برداً وسلاماً على إبراهيم * وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين} [الأنبياء: 68 ـ 70].

 

ومن أهم الإرشادات والتوجيهات في الآيات ما يلي:

1 ـ الجاهلية هي كل أمر حُكم فيه بغير ما أنزل الله وكل مجتمع ساد فيه غير حكم الله.

2 ـ البراءة من الجاهلية واجبة وهي عمل الأنبياء والصالحين وأتباعهم.

3 ـ على الدعاة العمل على تصحيح المفاهيم وتبيان فساد العقائد والمفاهيم الجاهلية أولاً.

4 ـ المجتمع الجاهلي لا يعني أن جميع أفراده على الجاهلية.

5 ـ الجاهلية لن تقف مكتوفة الأيدي أمام تبيان حقيقة أمرها وإظهار اعوجاجها.

6 ـ على الدعاة الصبر والثبات والثقة التامة بنصر الله مهما اشتدّت المِحَن وعَظُمَ التضييق والإيذاء.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply