ذروني أقتل موسى ( 2 )


بسم الله الرحمن الرحيم

 

الوقفة الثانية:

عندما جاء موسى فرعون وهامان وقارون بالحق الذي أمره به الله جلَّ شأنه قالوا: ((اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم)) [غافر: 25]. وقال فرعون: ((ذروني أقتل موسى)) [غافر/26]. وجاء من يخبر موسى بمؤامرة يدبرها الملأ في الخفاء: ((قالوا يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك)) [القصص/20].

 

واتفق الملأ بعد اختلاف مع فرعونهم على وجوب قتل موسى: ((وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك؟ قال: سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم، وإنا فوقهم قاهرون)) [الأعراف/127].

فالقتل عند فرعون وملئه عقوبة يستحقها من يدعو إلى وحدانية الله - تعالى - وعدم الإشراك به أحد من خلقه، وكانوا لا محالة سينفذون تهديدهم ووعيدهم لولا أن أهلكهم الله باليم، وهذا هو رد الطغاة على كل نبي أو مصلح:

 

قال قوم إبراهيم: ((حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين)) [الأنبياء/68]. وقالوا: ((ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم)) [الصافات/97]. ((ونفذوا تهديدهم فألقوه في الجحيم الذي صنعوه، لولا أن أنقذه الله منه: ((فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون)) [العنكبوت/24].

 

وقال قوم نوح: ((لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين)) [الشعراء/116].

 

وقال أهل مدين لنبيهم شعيب: ((ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز)) [هود/91].

 

وقتل بنو إسرائيل عدداً من أنبياء الله، ومن الذين يأمرون بالقسط من الناس، قال - تعالى -: ((إن الذين يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم)) [آل عمران/21].

 

وقال - تعالى - عن بني إسرائيل ((ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس، وباؤوا بغضب من الله، وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون الأنبياء بغير حق، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)) [آل عمران/112].

 

وقال أصحاب القرية للمرسلين: ((لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم)) [يس/18].

 

وتُحدِثُنا سورة البروج عن أصحاب الأخدود الذين كانوا يحفرون شقوقاً في الأرض، ويوقدون فيها النار، ثم يلقون المؤمنين من الرجال والنساء فيها، روى ابن جرير وغيره أن هؤلاء المجرمين كانوا من بني إسرائيل، قال - تعالى -: ((قتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد)) [البروج/ 4-8].

 

وعندما استيقظ أصحاب الكهف من نومهم الطويل، وأرادوا أن يبعثوا أحدهم إلى المدينة ليبتاع لهم طعاماً، كانوا يخشون أن يفتنهم أهل المدينة فيعيدوهم إلى ملتهم أو يرجموهم، وهذا هو أسلوب الكفار مع المؤمنين - كما يفهمه أهل الكهف -، قال - تعالى -: ((إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم، ولن تفلحوا إذن أبداً)) [الكهف/20].

 

وبعد أن أسلمت الأنصار، اجتمعت قريش في دار الندوة، ليتشاوروا في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -، واتفقوا أخيراً على قتله، قال - تعالى -: ((وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)) [الأنفال/30].

 

وليس هناك أي أمل في تغيير موقف الطواغيت من أنبياء الله، ومن سار على نهجهم من المصلحين والعلماء في القديم والحديث، قال - تعالى -: ((ولا يزالون يقاتلوكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)) [البقرة/217]. إخبار من الله - جل وعلا - عن دوام عداوة الكفار للمسلمين، وأنهم لا ينفكون عنها حتى يردوهم عن دينهم [عن الكشاف]، ولا مجال للمصالحة والتقارب بين الطرفين، اللهم إلا إذا تنازل الدعاة والمصلحون عن أهم ما يدعون إليه، أو إذا تاب الطغاة وآمنوا بالمنهج الرباني الخالد... وهذا أو ذاك يعني حدوث تغيير أساسي في مسار المعركة.

 

ليس أمام الطغاة إلا أن يتخلصوا من الأنبياء والمصلحين، ولهذا فهم يرفعون شعار: اقتلوهم، حرقوهم، ارجموهم!!، أو يردوهم عن دينهم، وينتزعوا منهم أهم ما يؤمنون به ويدعون إليه، وقد ثبت فشل ما يسمونه اليوم سياسة الجسور المفتوحة، وبئست هذه الجسور التي تقوم على الرياء والمداهنة والتضليل.

 

إن الطغاة يحيطون أنفسهم بهالة من التعظيم والتقديس، ولا يسمحون لأحد من رعيتهم بنقدهم وبيان فساد أنظمتهم، وقد اعتادوا على بطانة فاسدة تزين لهم الباطل، ولا تعترض أو تستنكر أي فعل يفعلونه.

 

إنهم - الطغاة - عاجزون عن مقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل، ولا يفهمون منطق الوصول إلى الأصلح عن طريق الحوار، ويدركون جيداً أن حبل الكذب - مهما طال - قصير... ولهذا كله فإن قلوبهم تطير فزعاً وقلقاً من الأنبياء ومن اقتفى أثرهم من الدعاة والمصلحين، ويقفون منهم موقفاً حاسماً، ويحاولون وأد هذه الدعوات في مهدها: ((ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)).

 

ومن هنا نعلم:

- لماذا دبّر ملك مصر المخلوع - فاروق - جريمة اغتيال الشيخ: حسن البنا - رحمه الله -؟!. فاروق المسؤول الأول عن أمن المواطنين يخون واجبه، ويأمر قادة جهاز أمنه باغتيال مواطن أعزل لا يملك جيشاً ولا شرطة ولا مخابرات ورجال أمن.

 

- ولماذا أقدم جمال عبد الناصر على إعدام الشيخين: محمد فرغلي وعبد القادر عودة ومعهما نخبة من الدعاة بعد أن نسب إليهم مؤامرة صنعها رجال أمنه.. وبعد أحد عشر عاماً أو يزيد قليلاً أقدم الطاغية نفسه على إعدام سيد قطب ومعه مجموعة من إخوانه، ونكب العاملون إلى الله في مصر كلها على مختلف اتجاهاتهم وانتماءاتهم؟!.

 

- ولماذا تطالعنا أخبار الصحف ووكالات الأنباء يومياً عن إعدام مجموعة من الشباب الدعاة في أكثر من بلد عربي... كما تطالعنا المصادر نفسها عن أخبار مجموعات من الشباب يقتلهم رجال الجيش والشرطة في معارك يومية غير متكافئة في عدد من البلدان العربية؟!.

 

- ولماذا يمنع طاغية من الطغاة شيخاً فاضلاً من خطبة الجمعة، والشيخ أعمى، ومعروف أنه لا ينتسب إلى حزب أو جماعة، ولا يدعو إلى ثورة أو انقلاب، وجلَّ ما يقوله في خطبته: الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والطاغوت يريد شيوخاً يجعلون المنكر معروفاً.

 

ومن جهة أخرى: فقد تضاعف إقبال الناس على مسجد الشيخ لسماع خطبه، وانتشرت أشرطته انتشاراً واسعاً، وهذا بحد ذاته تجاوز للخط المرسوم لمثل هذا الشيخ، ولابد من إيقافه، وسجنه في بيته.

 

وفي السنوات الأخيرة تفشت ظاهرة منع الخطباء والوعاظ والمحاضرين الذين يصدعون بالحق في جميع البلدان والأمصار، وأقل الطواغيت شراً هم الذين يكتفون بمنع الداعية من تبليغ الدعوة دون سجنه أو إلصاق مؤامرة به، والحكم عليه بالإعدام.

 

وآخر الأوامر الصادرة عن هؤلاء الظالمين تقول: لا تخطبوا الجمعة، ولا تحاضروا، ولا تؤموا المصلين في المساجد، ولا تؤلفوا الكتب، وغير مسموح لكم بتسجيل الأشرطة، ولن نوافق على انتشار ما كان مسموحاً به... ولو شئنا صياغة هذا الأمر بشكل آخر لقلنا: \"عطلوا عقلوكم، ولا يرضينا أن تفكروا، وإذا فعلتم مالا يرضيناº فلن نقبل انتشار أفكاركم بين الناس، وستكون عاقبتكم وخيمة إذا خالفتم هذه الأوامر\".

 

وهذا بحد ذاته نوع من القتل أو الرجم حيث لا قيمة لعالم - رزقه الله مواهب كثيرة - يعيش في بيته، ولا يُسمح له بتبليغ ما أمره الله بالصدع به، ولو أن موسى - عليه السلام - قَبِلَ الجلوس في بيته، وسكت عما أمره الله بتبليغه، لتركه فرعون وشأنه، ولما حاول قتله.

 

وأخيراً: من هنا نعلم لماذا ينفق الطواغيت عشرات المليارات من أموال الشعوب المسلمة على أجهزة إعلامهم الفاسدة المفسدة، ويسلمون زمام هذه الأجهزة لدعاة الخبث والفجور والعصيان من العلمانيين الذين يسخرون هذه الأوكار لنصرة الشيطان وزبانيته... ولا يسمح هؤلاء الطواغيت بصدور جريدة أو مجلة إسلامية تواجه هذا الفساد، وتبين للناس الطريق الحق والتصور الإسلامي الشامل لجميع جوانب الحياة والممات.

 

- ولماذا يسمح الطغاة بتأسيس الأحزاب الجاهلية الحائدة عن منهج الله، ولا يسمحون بقيام أحزاب وجماعات إسلامية، وأي عمل إسلامي إذا كان جماعياً ومنظماً يعتبره الطغاة مؤامرة ضد النظام والوطن والشعب، وما أكثر هذه المؤامرات المزعومة التي يعلنون عنها.

 

الوقفة الثالثة:

من أكثر استبداداً وطغياناً وجبروتاً: فرعون الأمس أم فراعنة اليوم؟!.

 

للإجابة على هذا السؤال لابد من المقارنة التالية:

 

1- دخل موسى على فرعون في مجلسه، فدعاه إلى الإيمان بالله وحده لا شريك له، كما دعاه إلى الإيمان بنبوة موسى - عليه السلام -، وأنه مرسل من رب العالمين... وهذه الدعوة تعني زوال حكم فرعون، وزوال طغيانه وجبروته واستبداده، مع ذلك فقد حاوره فرعون موسى أمام الملأ، وخرج رسول الله من مجلس الطاغية دون أن يسجن أو يقتل، بل دون أن يحاكمه على قتله لأحد الأقباط.

 

وتكررت اللقاءات والحوارات بين موسى وفرعون، وأتاح عدو الله لموسى فرصة ثمينة عندما جمع الناس يوم الزينة ليشهدوا ما حدث بين موسى وسحرة فرعون، وشهد فرعون بنفسه انتصار موسى وإيمان السحرة بنبوته... فمَن مِن فراعنة اليوم يسمح لخصمه - الذي يهدده بانتزاع الحكم منه - بالدخول عليه في مجلسه، ويحاوره أمام كبار مساعديه؟!.

 

ومَن مِن فراعنة اليوم يجمع رعيته ويتيح لخصمه أن يقول ما يريد؟!. لقد رأينا فيما مضى أنهم - أي فراعنة اليوم - لا يسمحون بتأسيس حزب أو جماعة إسلامية، ولا يعطون الدعاة ترخيصاً بإصدار جريدة أو مجلة... وحتى المساجد لا يسمحون للعلماء والدعاة الأحرار بإلقاء المحاضرات والخطب فيها.

 

2- كان فرعون الأمس يجمع الملأ، ويعرض عليهم مشكلات الدولة، ويصغي إلى أقوالهم التي قد تخالف رأيه وقوله، ولا يتردد في التراجع عن رأيه أمام رأيهم، فقد تراجع عن قراره القاضي بقتل موسى أمام معارضة مؤمن آل فرعون وغيره من الملأ.

 

وفي مشهد آخر نقرأ في كتاب الله أن فرعون لجأ إلى الملأ يستشيرهم في أمر موسى، فقالوا له: إنه ساحر عليم، فاجمع له السحرة، وليشهد الناس ما سوف يحدث بينه وبينهم، وعندئذٍ, سيعلم الناس بأنه ساحر وليس نبياً مرسلاً، قال - تعالى -: ((قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم، يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون، قالوا: أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين، يأتوك بكل ساحر عليم)) [الأعراف/109-112].

 

فاستجاب فرعون لرأي الملأ، وعندما نصر الله موسى على فرعون وسحرته في مشهد يوم عظيم لم يعاقب عدو الله أحداً من الملأ، وإنما استمر يستشيرهم ويحترم رأيهم. فهل بين فراعنة اليوم من يستشير ملأه، ويتراجع عن رأيه أمام رأيهم؟!.

 

3- استمر هامان وقارون يؤديان الدور المطلوب منهما إلى أن أهلكهما الله، وكذلك استمر الملأ يحيطون بفرعون ويشاركونه في إصدار القرارات... كانوا جميعاً صفاً واحداً في السراء والضراء، فعندما قرروا قتل موسى والذين آمنوا معه لم يصدر فرعون أمره لجنده، ثم توارى في أحد مخابئ قصره، وإنما تقدم قواته ومعه الملأ، وعندما انشق البحر فكان كل فرق كالطود العظيم لم يتراجع حتى لا يتهم بالجبن والخور، وتبع موسى محاولاً اللحاق به، فأهلكه الله ومن معه.

 

فهل بين فراعنة اليوم من يقود جيشه في المعارك؟، وهل بينهم من يحافظ على أعوانه ومساعديه في الحكم فلا يبطش بهم لأتفه الأسباب، أو يبطشون به عندما تسنح الفرص، ويقتلونه شر قتلة؟!.

 

4- أما فراعنة اليوم، فكل منهم يجمِّع حوله أرقاماً من الإمعات، ويمنّ عليهم بما يشاء من المناصب: فهؤلاء أعضاء مجلس قيادة الثورة أو أعضاء الأسرة الحاكمة، وأولئك رئيس الوزراء وأعضاء وزارته، والثالث قائد الجيش... ثم تتوالى الأرقام، وليست أكثر من أرقام!!.

 

ووظيفة هؤلاء المسؤولين هز رؤوسهم بالموافقة على كل ما يقوله سيدهم، وقد يتراجع السيد فيقول رأياً مخالفاً لما قاله بنفس الجلسة، فيوافقون على الرأي الآخر، ولا يوجد بين هذه الدمى من يجرؤ على أن يقول للزعيم: قرارك خطأ، ثم يذكر ما يراه صحيحاً ويشرح أسباب مخالفته.

 

حدث ذات مرة أن أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة في بلد عربي، قال رأياً يخالف رأي الزعيم، فسفه الأخير رأي العضو، وفوجئ الأعضاء برفيقهم يرد على الزعيم بقوة ويسرد الأدلة والبراهين التي تؤكد صحة قوله وبطلان قول الزعيم، ولم يتحمل الحاكم المستبد هذا التطاول الذي يخالف الأعراف المتبعة في نظام حكمه، فأوقف الاجتماع، ثم استدعى العضو إلى غرفة مجاورة لقاعة الاجتماعات، وأغلق بابها، ثم أخرج مسدسه وأطلق النار على رفيقه، فأرداه قتيلاً مضرجاً بدمائه... وعاد إلى الاجتماع وحده واستأنف مناقشة جدول الأعمال ببرودة أعصاب عجيبة، وكأن شيئاً لم يحدث، واستأنف الرفاق هز رؤوسهم، وهم في حالة من الخوف والهلع لا يحسدون عليها، ولم يستطع أحد منهم أن يسأل السيد الزعيم: أين رفيقنا؟، ولماذا لم يعد؟... إن مثل هذا السؤال يعتبره الزعيم جريمة لا تغتفر، فهم يعرفون كيف يواجه قائدهم المشكلات، وكيف يحاسب من يعترض عليه، وقد سمعوا صوت الرصاص، وما عليهم إلا أن يتعظوا بما حل برفيقهم، وما عليهم إلا هز رؤوسهم بالموافقة، وإن كان لابد من الحديث والتعقيب فليكن في الثناء على آراء القائد الملهم المعصوم، والتأكيد على أنه لا صلاح للأمة إلا إذا تمسكت بهذه الآراء وعضت عليها بنواجذها.

 

هكذا يفكر أحد فراعنة هذا العصر، وبهذه الطريقة يسوس أمور دولته، أما بقية زملائه الفراعنة: فمنهم من يتفق معه في الهدف، ويختلف معه في الطريقة، فالمعارض عندهم يموت موتاً بطيئاً في زنزانة لا تصلح كمأوى للكلاب، أو تدبر أجهزته الأمنية أمر اغتياله، ويمشي فرعون في طليعة المشيعين لجثمانه، ويذرف عليه دموع التماسيح.

 

وأقل هؤلاء الفراعنة استبداد وطغياناً وهمجية، هم الذين يكتفون بتنحية من اعتاد الاعتراض على قراراتهم، ويسمع المسكين قرار تنحيته من نشرة أخبار الإذاعة، وقد لا يكون المسؤول المعزول من المعترضين على قرارات فرعون، ولكنه منع أحد أقرباء الزعيم من اختلاس عقار أو مال فجاءته العقوبة العاجلة لأنه في شريعة فرعون عبد ذليل ولا يحق لمثله أن يتطاول على السادة... وبعد صدور قرار التنحية يدخل المسؤول عالم النسيان، فلا يستشار ولا يشارك بأي قرار، بل وتغلق الأبواب في وجهه.

 

ومن جهة أخرى لا يحافظ فراعنة اليوم على أعوانهم ومساعديهم، كما كان فرعون يحافظ على هامان وقارون وغيرهما من ملئه، ومن يستعرض سيرهم يجد العجب العجاب، فالقائد الثوري غدر برؤسائه الذين طالما أقسم الأيمان المغلظة على طاعتهم وامتثال أوامرهم، وكل من هؤلاء القادة الثوار يعتقد أن حكمه وزعامته لا تقوم إلا على أشلاء زملائه، أما تاريخ شيوخ القبائل الحاكمة فهو حافل بالأمثلة والشواهد على غدرهم وخيانتهم لأقرب الناس إليهم، فكم من أخ قتل أخاه، وابن فتك بأبيه، وشقيق تآمر مع بقية أشقائه من أجل تنحية أخيه والإطاحة به، وكم منهم استعان بأعداء الله ضد أبناء عمومته.

 

لا أدري بعد ذلك كله لماذا يغضب هؤلاء الظالمين إذا قيل أو كتب عنهم: أنتم مثل فرعون؟!. ففرعون كان مستبداً ظالماً جباراً، كما كان عدواً لدوداً لنبي الله والذين آمنوا معه، فمن تنطبق عليه هذه المواصفات من طغاة عصرنا سميناهم فراعنة ولا كرامة، ومن كان يخشى هذه التسمية، فليتجنب أعمال فرعون وأخلاقه.

 

الوقفة الرابعة:

عندما هدد فرعون موسى بالقتل، كان رد رسول الله على هذا التهديد: ((وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب)) [غافر/27].

 

عذت بربي: أي لذت واعتصمت به، والتجأت إليه، وتوكلت عليه.

 

من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب: أي متصف بالكبر لا يصدق بالبعث والجزاء.

 

وعياذ موسى بالله إنما هو في الحقيقة من فرعون، وإن كانت العبارة أعم من خصوص فرعون ((من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب))، وهكذا كان أنبياء الله ورسله يلتجئون إلى الله - جل وعلا -، ويعلمون أن الاعتماد عليه - سبحانه وتعالى- هو الطريق المؤكد المعتبر في دفع الشرور والآفات. قال - تعالى -: ((قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق...)). وقال: ((قل أعوذ برب الناس)) وقال: ((وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم)) [فصلت/36].

 

والاستعاذة من العبادات التي أمر الله - تعالى - بها وصرفها لغير الله شرك. قال - تعالى -: ((وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً)) [الجن/6].

 

قال ابن جرير الطبري: \"كان رجال من الإنس يبيت أحدهم بالوادي في الجاهلية فيقول: أعوذ بعزيز هذا الوادي، فزادهم ذلك إثماً\" [1]

 

وعن أبي موسى - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خاف قوماً قال: \"اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم وندرأ بك من نحورهم\".

 

ونبي الله موسى - عليه السلام - مدرك لفضل الله ومنته عليه:

 

- فالله - جل وعلا - هو الذين أنقذه من بطش فرعون يوم ولدته أمه، وهيأ له الأسباب ليتربى في قصر الطاغية المتأله وليكون عدواً له.

 

- وعندما قتل موسى القبطي قبل البعثة سخَّر له الرجل الذي أخبره بأن فرعون وملأه يتآمرون عليه ليقتلوه، وكتب الله له النجاة من القوم الظالمين.

 

- وعندما استعاذ بالله، والتجأ إليه يسر له الرجل الصالح الذي آواه وأطعمه، وزوجه إحدى ابنتيه.

 

- وعندما تغلب عليه طبيعته البشرية، فيخشى من فرعون وجبروته وبطشه يتذكر وعد الله له ولأخيه هارون - عليهما السلام -: ((لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى))، فتسري الطمأنينة في نفسه، ويعلم أن العاقبة للمتقين، وأن ((كيد الكافرين في ضلال)).

 

إن قوى الأرض - مهما عظمت - المعادية لله ولرسوله وللمؤمنين تافهة وتافهة جداً في نظر ومقاييس العصبة المؤمنة التي تتوكل على على الله، وتتذلل له، وتستعيذ به، ولا تغفل عن الأخذ بأسباب النصر والتمكين.

 

فمن كان يدري أن الاتحاد السوفييتي ودول المعسكر الاشتراكي سوف يصيبها ما أصابها من ضعف وانهيار في السنوات القليلة الماضية... ومن يدري أن الولايات المتحدة الأمريكية سائرة في هذا الطريق؟!، وإذا كان هذا هو مصير السادة، فكيف يكون مصر العبيد الأقزام؟! فما أحوج العلماء والدعاة - وهم قادة الأمة المسلمة - إلى إدراك أهمية الاستعاذة بالله لا سيما وهم الذين يعلمون الناس ويقولون لهم: \"الاستعاذة بالله عبادة، ومن صرفها لغيره فقد جعله شريكاً لله في عبادته، ونازع الرب في إلهيته\"...

 

----------------------------------------

[1] - انظر فتح المجيد، شرح كتاب التوحيد، ص 62.

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply