الدعوة ديدن الرعيل الأول


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الدعوة ديدن الرعيل الأول وهجيراهم:

لقد حث رسول الله أصحابه خاصة وأمته عامة على الدعوة إلى الله، وتبليغ دين الله - عز وجل - ولو بآية واحدة، وكان يأمرهم (أن يبلغ شاهدهم غائبهم، بل كان يبايعهم على تبليغ هذا الدين، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى النصح لكل مسلم، وعلى قول الحق لا يخافون في الله لومة لائم، وكان يخبرهم أن هداية رجل واحد على يد أحدهم خير له من متاع الدنيا ومالها، ففي الصحيح أنه قال - عليه الصلاة والسلام -: لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: \"والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم\"(1) وقال لسهل بن سعد - رضي الله عنه -: \"والله لأن يُهدى بهداك رجل واحد خير لك من حمر النعم\"(2) وفي الصحيح عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: \"بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم - أو نقول - بالحق حيثما كنا ولا نخاف في الله لومة لائم\"(3).

وفي حديث جابر - المتقدم(4) - قال - عليه الصلاة والسلام - للأنصار: \".. تبايعوني على السمع والطاعة، في المنشط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم.. \" وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال: \"بايعت رسول الله (على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم\"(5) وقال لأصحابه (في حجة الوداع يوم النحر: \"ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه، أن يكون أوعى له من بعض من سمعه.. \"(6) وقال - عليه الصلاة والسلام -: \"بلغوا عني ولو آية.. \"(7) \"\"ولو آية\" أي واحدة ليسارع كل سامع إلى تبليغ ما وقع له من الآي ولو قل.. \"(8) وقال - عليه الصلاة والسلام - في حديث زيد بن ثابت: \"نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه.. \"(9) وقد قال هذا الحديث بالخيف من منى كما في المسند من حديث جبير بن مطعم عن أبيه قال: قام فينا رسول الله (بالخيف من منى فقال: نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها، فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب المؤمن، إخلاص العمل، والنصيحة لولي الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تكون من ورائه \"(10) فهكذا كان رسول الله (يحثهم على البلاغ والدعوة إلى الله في المجامع الكبيرة جداً لتكون الأمة - عامةً - داعية إلى الله، مبلغةً أمر الله إلى غيرها من الأمم.

وقد أخذ الرعيل الأول هذا الأمر والحث منه (مأخذ الجد، واستجابوا لأمره إياهم بدعوة الناس إلى دين الله - عز وجل - بل جعلوا ذلك الأمر شغلهم الشاغل وهمهم الأكبر، بل كانوا دعاةً لهذا الدين العظيم بمجرد إسلامهم فهذا وفد بني عبد القيس يقولون للنبي: ( \".. إنا هذا الحي من ربيعة وقد حالت بيننا وبينك كفار مضر، فلا نخلص إليك إلا في شهر الحرام، فمرنا بأمر نعمل به وندعو إليه من وراءنا\"(11) فهم يعلمون أنه لا يكفي أن يتعلموا فقط بل لابد أن يعلموا من خلفهم وهذا وفد الجن يقول الله عنهم: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى.. } (12) فما إن سمعوا قول الحق وآمنوا به حتى انقلبوا إلى قومهم ينذرونهم ويدعونهم إلى الاستجابة لداعي الله - عز وجل -: {يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين} ولم يكن أمر الدعوة قاصراً على الرجال، فقد كان من نساء السلف الصالح داعيات إلى الله - عز وجل - روى مالك عن ابن شهاب أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام وكانت تحت عكرمة بن أبي جهل فأسلمت يوم الفتح، وهرب زوجها عكرمة بن أبي جهل من الإسلام، حتى قدم اليمن، فارتحلت أم حكيم حتى قدمت عليه باليمن فدعته إلى الإسلام فأسلم، وقدم على رسول الله (عام الفتح فلما رآه رسول الله (وثب إليه فرحاً وما عليه رداء حتى بايعه فثبتا على نكاحهما(13).

وقد كانوا يحرصون على تبليغ حديث رسول الله (امتثالاً لأمره فعن مكحول قال: دخلت أنا وابن أبي زكريا وسليمان بن حبيب على أبي أمامة بحمص فسلمنا عليه، فقال: إن مجلسكم هذا من إبلاغ الله لكم، واحتجاجه عليكم وإن رسول الله (قد بلغ، فبلغوا (14). وعن سليم أن عامراً قال: كنا نجلس إلى أبي أمامة الباهلي فيحدثنا حديثاً كثيراً عن رسول الله (فإذا سكت قال: أعقلتم؟ بلغوا كما بُلغتم\"(15) وعن وابصة ابن معبد - رضي الله عنه - أنه كان يقوم للناس بالرقة في المسجد الأعظم يوم الفطر ويوم النحر فقال: إني شهدت رسول الله(في حجة الوداع وهو يخطب الناس... ثم قال: يا أيها الناس ليبلغ الشاهد منكم الغائب. فادنوا نبلغكم كما قال لنا رسول الله) (16). وقد خرج صحابة رسول الله (إلى جميع أنحاء المعمورة يفتحون البلدان بأعمالهم الصالحة، وأخلاقهم الحميدة قبل سيوفهم.

هذا وإن قتال حزب الله بالـ               أعمال لا بكتائب الشجعان

والله ما فتحوا البلاد بكثرة                أنى وأعداهم بلا حسبان

وكذاك ما فتحوا القلوب بهذه الـ        آراء بل بالعلم والإيمان (17)

خرجوا يقاتلون من كفر بالله، حاملين على كواهلهم أعباء الدعوة إلى الله، والموت في سبيل الله أحب غائب ينتظرونه، خرجوا مجاهدين في سبيل إعلاء كلمة الله التكبير نداؤهم وسرج الخيل ركابهم، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله غايتهم، والشهادة في سبيل الله أغلى أمانيهم، فهذا خالد بن الوليد - يكتب للفرس يقول لهم: إن معي جنداً يحبون القتل كما تحب فارس الخمر(18) وكان يقول: ما من ليلة يهدى إليََّ فيها عروس أنا لها محب، أحب إليَّ من ليلةٍ, شديدة البرد، كثيرة الجليد، في سرية أصبح فيها العدو(19). وبهذه العزيمة التي لا تفل، والإيمان الذي لا يقهر، بلغ الإسلام الهند والسند شرقاً والأندلس غرباً في أقل من قرن من الزمان وإذا بعقبة بن نافع - رحمه الله - يقف على أطراف المحيط وقد خاض بفرسه الماء وهو يقول: \"اللهم رب محمد لولا هذا البحر لفتحت الدنيا في سبيل إعلاء كلمتك\".

وهذا قتيبة بن مسلم - رحمه الله - وقد توغل في بلاد الترك يقول له أحد أصحابه محذراً ومشفقاً عليه: لقد أوغلت في بلاد الترك يا قتيبة، والحوادث بين أجنحة الدهر تقبل وتدبر. فأجابه قتيبة: بثقتي بنصر الله توغلت، وإذا انقضت المدة لم تنفع العدة. فلما رأى ذلك المحذر عزمه وتصميمه على المضي لإعلاء كلمة الله قال له: اسلك سبيلك حيث شئت يا قتيبة فهذا عزم لا يفله إلا الله.

وهذا صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله - بعدهم بقرون - يقول لصديقه الحميم القاضي الفاضل: متى يسر الله - تعالى - فتح بقية الساحل، قسمت البلاد وأوصيت، وودعت وركبت هذا البحر إلى جزائرهم، أتبعهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت.. قلت: ما هذه إلا أمنية جميلة ولكن المولى يسيّر في البحر العساكر، وهو سور الإسلام، ولا ينبغي أن يخاطر بنفسه، فقال: أنا أستفتيك: ما أشرف الميتات؟ فقلت: الموت في سبيل الله. فقال غاية ما في الباب أن أموت أشرف الميتات (20).

بمثل هذه النفوس نشروا دين الله، فسلام الله على تلك الأرواح، وبركاته عليهم ما مثلنا ومثلهم إلا كما قيل:

نزلوا بمكة من قبائل هاشم ونزلت بالبيداء أبعد منزل

وصدق القائل:

لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد

 

ـــــــــــــــــــــــــ

(1) هو قطعة من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - المتقدم ص21. حاشية (6).

(2) أبو داود - كتاب العلم - باب فضل نشر العلم ح: 3661 ج3/322.

(3) البخاري - الأحكام - باب كيف يبايع الإمام الناس ح: 7199 - 7200 ج13/192.

(4) تقدم، ص17 حاشية (1).

(5) البخاري - الإيمان - باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: الدين النصيحة... ح: 57 ج1/137 مسلم - الإيمان - باب بيان أن الدين النصيحة ح: 97 - 99 ج2/231.

(6) البخاري - الأضاحي - باب من قال: الأضحى يوم النحر ح: 5550 ج10/8.

(7) البخاري - أحاديث الأنبياء - باب ما ذكر عن بني إسرائيل ح: 3461 ج6/496

(8) فتح الباري 6/ 498 نقلاً عن المعافي النهرواني في كتاب الجليس.

(9) المسند/ 183، أبو داود - العلم - باب فضل نشر العلم ح: 3660 ج3/ 322.

(10) المسند 4/80.

(11) مسلم - الإيمان - باب الإيمان بالله - تعالى - ح: 23 ج1/150.

(12) سورة: الأحقاف، الآيات: 29 - 32.

(13) الموطأ - النكاح - باب نكاح المشرك إذا أسلمت زوجته قبله ص450

(14) الطبراني في الكبير ح: 7614 ج1/ 159.

(15) الطبراني في الكبير ح: 7673 ج8/187 قال الهيثمي: وإسنادهما حسن - مجمع الزوائد 1/139 - 140)

(16) قال الهيثمي: رواه البزار ورجاله موثوقون (مجمع الزوائد 1/139)

(17) شرح نونية الحافظ ابن القيم - رحمه الله - 1/551.

(18) سير أعلام النبلاء 1/374.

(19) سير أعلام النبلاء 1/357.

(20) الروضتين في أخبار الدولتين 2/222.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply