كتاب ومحراب


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

في الزمن القديم، وبالتحديد في خلافة عمر بن عبد العزيز، خامس الخلفاء الراشدين، كانت مشكلات تشابه مشكلاتنا التي نعيشها الآن وإحباط، وحالة حزن ترهق المؤمنين، بسبب الفتن والمظالم التي تراكمت، فعالجها عمر بالعلم، كما عالجها بالعدل، وبانتصابه قدوة للأمة في التجرد، وابتذال النفس فكتب لكل وال من ولاته أن:\"أما بعد، فمر أهل الفقه، و العلم من عندك، فلينشروا ما علمهم الله في مجالسهم، ومساجدهم\"

و قد كان منهم الأداء، فكانت النهضة العلمية التي قادها عمر، هي التي رممت ما هدمته سيوف التأول، وعواصف الخلاف من قبله.

و أمرنا شبيه، ولنا به اقتداء، وإذا كان تحليلنا ينتهي إلى أن في الأمة الإسلامية اليوم تخلفاً وفتناً و افتراقاً، أو أن الدعوة الإسلامية تشكو من تعاكس المواقف، فإن العلم يتكفل بتوضيح الرؤية، وتوحيدها، والتأثير إيجابياً في أخلاق الرجال، ويجدر بنا أن نعلم فوق ذلك، أنه منزلة اختصاص، وتفضيل، كما فهمها أبو بكر الآجري، حين قال:

إن الله - عز وجل -، وتقدست أسماؤه، اختص من خلقه من أحب، فهداهم للإيمان، ثم اختص من سائر المؤمنين من أحب، فتفضل عليهم، فعلمهم الكتاب والحكمة، وفقهم في الدين، وعلمهم التأويل، وفضلهم على سائر المؤمنين، وذلك في كل زمان، وأوان، رفعهم بالعلم، وزينهم بالحلم، فهذا الحلم هو الثمرة الأخلاقية الإيجابية التي نعنيها، وهو أساس علاج الفتن والافتراق وما ينتجه الحلم من التأني، وهدوء النفس، هما أيضاً أساس البحث المستفيض العقلاني، الذي يدرأ تعاكس التأويل المسؤول عن تعاكس المواقف، لكن العاطفة حين تستبد تشرق و تغرب وذلك هو سر الخيرية الذي أشار إليه النبي              - صلى الله عليه وسلم -: كما في الحديث الصحيح عند البخاري، حين قال:\"من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين\"

 

العلم الشرعي حقق و حدة أجيال الأمة:

بل و أكثر من هذا، فإن داعية الإسلام إذ يعيش في مجتمع الصخب الحاضر، إنما يقبل على الكتاب، والعلم، إقبالاً يتعدى الحافز الشرعي، والإحساس المحرك الإيماني، ليجد سلوة وتحقيقاً لحاجة نفسية يستريح لها، تنسجم مع سمته الإصلاحي، وإعراضه عن اللغو، لأنه يكره نفاق المداهنين،وتحاسد الناس، فيجد في الكتاب الصاحب الوفي، كما قال الشاعر:

نعم الجليس إذا خلوت به ***  لا مكره يخشى و لا شغبه

 

فالكتاب أمين لا يغدر، صامت لا يهذر، ناصح لا يشاغب، هذه أوصاف عالية، و أخلاق صافية، ليس في هذه الدنيا أحد أفرح بها من داعية مسلم، أحاطه الجد، فدق على صدره، وقال أنا للإصلاح، ثم يدق ثانية، ويقول: أنا لمواصلة الدرب، وأنا صلة الأجيال، وذلك أن الأمة إنما بقية حية نابضة القلب، بحياة العلم الشرعي، و حياة العلماء التي أفصح عنها الشاعر بقوله:

ما مات قوم إذا بقوا لنا أدباً ***  و علم دين و لا بانوا و لا ذهبوا

 

فالوارث لهم يستشعر وحدة الأمة في كل أجيالها، وأنها طبقات متصلة مجتمعة حاضرة، غير منقطعة، و لا متفرقة، ولا غائبة، وذلك أن ثلة الفقهاء الأولين المتتالين لم تمت، ولم تتناثر حلقاتها، وإنما أحياء بيننا بكتبهم، وحروفهم، ويمكن أن نصدق، أو أن نكذب في دعوى وراثتهم، بمقدار الوفاء الذي نكنه لهم، وبمستوى الهمة التي تحركنا إلى مطالعة أوراقهم

 

زيت و أحبار لا خمر و أوتار:

و كان قد قيل لبعض الحكماء:\"بم كنت أعلم قرنائك؟ قال: لأني أنفقت في زيت المصباح لدرس الكتب، مثل ما أنفقوا في شرب الخمر

فهذا فرق ما بين الجمع العلمي المبارك، والرهط الزكي، و بين آخرين من أبناء جلدتنا، تلهيهم حفلات المعازف، ورنات الكئوس.

 

إلا أن الجهل قد تقطعه انتفاضة، تتمرد على الاسترسال في الصدود، ولذلك وصف العلم بأنه\"بداية تذكرة للغافلين\"، لكن خيريته لا تنقطع، بل تزداد، وتتعاظم، فيكون أيضاً\"سبب منافسة بين المطيعين، و بذلك لا يقتصر على أن يؤدي دوره في تجديد حياة المعرض\"، و إنما هو دافع يدفع التقى على أن يعدد صوابه، ويوسع دوائره، صاعداً سلم ارتفاع، يظل أبداً يسمو ومستنيراً بشعاع هاد مستمر في الانتشار، تومض به قمة كل منار.

 

أبيض و أسود:

لكن قابلية هذا العلم على التأثير في حملته، والتعدي إلى الآخرين، متوقفة على شرطين مهمين:

 

الشرط الأول: صفاء بلا ابتداع

بأن يكون على السنية المحضة، والاتباع الصارم، والانتساب إلى ما كان عليه السلف، فهماً و عملاً، وهذا الانتساب معلم بارز من معالم تمييز البدعة، أشار إليه النسفي في تفسيره لما وصفه الله - تعالى - به نفسه أنه: {بديع السموات و الأرض} فقال: أي مخترعها و مبدعها، لا على مثال سبق، وكل من فعل ما لم يسبق إليه، يقال له: أبدعت، ولذلك قيل لمن خالف السنة و الجماعة مبتدع، لأنه يأتي في دين الإسلام، ما لم يسبقه إليه الصحابة، والتابعون.

 

و يجتمع هذا التمييز إلى تمييز آخر، كان في الوضوح الذي حواه الدعاء الذي فرضه الله لكل مؤمن فهو يقوله بكرة و أصيلاً، ويتضرع: {اهدنا الصراط المستقيم}

أي ثبتنا على المنهاج الواضح، كما قال النسفي: فصاحب السنة ظاهر مفاخر مشاور، و المحدث باطن شائن مائن، وذو الاتباع أبداً في العرصات علانية، والمبتدع يهرب أبداً إلى الدهاليز، والأقبية والظلام يتوارى

و كأن هذه الاحساسات هي التي أنطقت الشاعر في تشبيهه للسماء، فقال:

 وكأن النجوم بين دجاها ***  سنن لاح بينهن ابتداع

 

قال السكاكي: فإنه حين رأى ذوي الصياغة للمعاني، شبهوا الهدى، والشريعة، والسنن، وكل ما هو علم بالنور، لجعل صاحبها في حكم من يمشي في نور الشمس، فيهتدي إلى الطريق المعبد، فلا يتعسف، فيعثر تارة على عدو قتال، ويتردى أخرى في مهواة مهلكة، وشبهوا الضلالة، و البدعة، كل ما هو جهل بالظلمة، لجعل صاحبها في حكم من يخبط في الظلماء، فلا يهتدي إلى الطريق، فلا يزال بين عثور، وبين تردد، قصد في تشبيهه هذا تفضيل السنن في الوضوح على النجوم، وتنزيل البدع في الإظلام فوق الدياجي\"

 

اجتهادنا المنضبط في مواجهة الاعتزال الجديد:

ثم إن الدعوة إلى العالم الإسلامي هي أبعد من مجرد دعوة تعميمية إلى علم إسلامي، ملفق من أقوال علماء المسلمين، بلا قاعدة تحدد الاختيار، والانتقاء، وإنما هي دعوة تخصيصية للرجوع إلى علم شرعي، على منهج الأصالة الذي تركته لنا و اضحاً جمهرة أئمة المذاهب الأربعة، ومن قاربهم من السلف القديم، وهو عالم وقاف عند النصوص الحديثة الصحيحة مستنبط لما فيها من معان، وفق قواعد في أصول الفقه، وضوابطه الدقيقة، إنها إذن دعوة إلى العلم، مرتبطة بمنهجية صارمة، هي وحدها القادرة على أن تتكفل بتحجيم (المنهجية العقلية) التي رفعت رأسها مجدداً على طريقة التوسع في التأول، في إطار المدرسة الاعتزالية المعروفة و التي ربما ستجلب مزايدات غير محدودة في الترخيص، والتسهيل و التجانس مع الحياة العلمانية السائدة، تبعاً لاختلاف عقول المشاركين في الإفتاء، والتوصيف، والتعليل، والدليل على ذلك أن من حاز علم الأصول من أصحاب هذه المدرسة، لا زال أقل إغراباً من غيره وأسلم قولاً

 

نحن دعاة الاجتهاد، والإبداع والنظر الشمولي ـ ولا فخر ـ، ولنا في ذلك بحمد الله صولات وتشهد لنا وثائق، ولسنا نقبل الجمود، والتقليد و إلغاء العقل، والوقوف عند أقوال الفقهاء الذين لا تسند النصوص مكان ذهبوا إليه، ولكن الاجتهاد الذي نرومه،إنما هو اجتهاد منضبط ومحروس بسنن، وهو يتجول بحرية داخل العرصات الواسعة، التي منحتها (القواعد الفقهية) للمتفقه والمفتي، بحيث يذهب مع المصالح، والضرورات إلى أبعد مدى، لكن اجتهادنا قد ألزم نفسه أن يقترب ما أمكن، من منطق الشاطبي في موافقاته، مثلما يقبس من جرأة ابن حزم في محلاه، متجنباً غرائبه القليلة، و أن يقترب من احتياطات ابن حجر في فتحه، ومن ترددات النووي بين التهيب و إحداث قول جديد في مجموعه، مثلما يساير و يماشي توسيعات ابن تيمية في فتاواه، و أمثال ذلك مما أتى به علم فطاحل آخرين، كأن القدر جمع علم بعضهم إلى بعض لتكتمل صورة فقهية ناضجة، تفرض نفسها علينا بقوة حجمها، ووضوح تقعيدها، وغاية اجتهادنا أن يستجيب للمستجدات التي أتت بها الحياة المعقدة المعاصرة، من خلال الارتباط الوفي باجتهادات السلف الأولين، وليس غايته نبش، وقلب صورة الفقه التي تكونت في قرون الفضل الأولى، من خلال ظنون، وتأولات تترك الناس في فوضى، أمام زخم العقلانيات، التي قد تكون متضادة بنفس حجم تضاد العقول البشرية، والخلفيات التي ينطلق منها الخائضون حتى أن رغبات السلاطين باتت تشكل إحدى أهم هذه الخلفيات التي تحاول التمرد، فتحيص حيصة مفضوحة، كلما حاصرتها عوازم الفقه، وجوازم الإيمان.

 

ثم يحرس اجتهادنا نفسه مرة أخرى، بمظلة من العقيدة السنية النصية، في وفاء ثان لحدود عقيدة الإمام أحمد بن حنبل، التي ميزها عن الاستطرادات البدعية، التي أوغلت في التعطيل والتمثيل، ونحن ندرك أن المدرسة العقلية الفقهية، التي يريدها الاعتزال الجديد، ستقوده إلى نزعة عقلية في الاعتقاد ـ ولابد ـ لأن المحركات واحدة.

 

الشرط الثاني: إخبات بمحراب

كما قال بعض الصالحين:\"ما فتح الله على عبد حالة سنية، إلا باتباع الأوامر، و إخلاص الطاعات، ولزوم المحاريب) و استشهد بدعاء زكريا، وكيف أن الله وهبه يحيى، وبشره به وهو قائم يصلي بالمحراب، والتأثير في الآخرين في أسمى هذه الصور السنية التي تطمح لها ولن تكون إلا من خلال المحاريب

 

و إنما يحرك المحراب فينا معاني الرجاء، والخوف معاً، وهي أحوال قلبية، وممارسات عملية معاً.

أما الرجاء، فرجاء الكرامة، والفوز، والنجاة، وطريق هذه النعم معروف، بينته معادلة شرطية في القرآن، في قوله - تعالى -: {و أوفوا بعهدي أوف بعهدكم}

 

قال النسفي: قال أهل الإشارة أوفوا في دار محنتي، على بساط خدمتي، بحفظ حرمتي، أوف في دار نعمتي، على بساط كرامتي، بسرور رؤيتي.

و أما الخوف، فمن فزع يؤمئذ، وأقل هذا الفزع ما صوره صالح الميري لما قرأ قارئ: {و أنذرهم يوم الأزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم و لا شفيع يطاع}

فقطع صالح عليه القراءة، وقال: كيف يكون الظالم حميماً، أو شفيعاً، و المطالب له رب العالمين؟! إنك والله لو رأيت الظالمين و أهل المعاصي يساقون في السلاسل، والأنكال إلى الجحيم، حفاة عراة، مسودة و جوههم مزرقة عيونهم، ذائبة أجسادهم، ينادون: يا ويلنا! يا ثبورنا! ماذا حل بنا؟! أين يذهب بنا؟! ماذا يراد منا؟! و الملائكة تسوقهم بمقامع النيران، فمرة يجرون على وجوههم، ويسحبون عليها منكبين، ومرة يقادون إليها مقرنين، من بين باك دماً بعد انقطاع الدموع، ومن بين صارخ طائر القلب، مبهوت إنك والله، لو رأيتهم على ذلك، لرأيت منظراً لا يقوم له بصرك، ولا يثبت له قلبك، ولا تستقر لفظاعة هوله على قرار قدمك.

ثم نحب، و صاح: يا سوء منظراه! يا سوء منقلباه! و بكى، وأبكى الناس, فقام فتى، فقال: أكل هذا في يوم القيامة، يا أبا بشر؟

قال: نعم، والله، ابن أخي، وما هو أكثر, فصاح الفتى: إنا لله، واغفلتاه على نفسي أيام الحياة! وا أسفا على تفريطي في طاعة الله! وا أسفاه على تضييعي عمري في دار الدنيا! ثم بكى، واستقبل القبلة، فقال:اللهم إني استقبلك في يومي هذا بتوبة لا يخالطها رياء لغيرك، اللهم، فاقبلني على ما كان في واعف عما تقدم من فعلي، وأقلني عثرتي، ثم استقام حتى مات.

 

وهذا النمط من كلام صالح المري، هو الأصل الذي وسعه سيد قطب في وصفه لمشاهد يوم القيامة في القرآن، و إنما تتاح لك مثل هذه الذكرى التي تنفعك، وتنفع المؤمين إذا طالعت كتب الرقائق والمواعظ، وقصص أهل الصلاح، وأصحاب المحاريب، وهي تجربة ابن الجوزي - رحمه الله -التي يشدد عليها قال: رأيت الاشتغال بالفقه، وسماع الحديث، لا يكاد يكفي في صلاح القلب، إلا أن يمزج بالرقائق، والنظر في سير السلف الصالحين، لأنهم تناولوا مقصود النقل، وخرجوا عن صور الأفعال، المأمور بها إلى ذوق معانيها، والمراد بها.

و ما أخبرتك بهذا، إلا بعد معالجة، وذوق لأني وجدت جمهور المحدثين، وطلا ب الحديث همة أحدهم في الحديث العالي، تكثير الأجزاء، وجمهور الفقهاء في علوم الجدل، وما يغالب به الخصم، وكيف يرق القلب مع هذه الأشياء.

وقد كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح، للنظر إلى سمته، هديه لا، لا قتباس علمه وذلك أن ثمرة علمه هديه، وسمته فافهم هذا، وامزج طلب الفقه، والحديث بمطالعة سير السلف والزهاد في الدنيا، ليكون سبباً لرقة قلبك، و لذلك حذرنا في مناسبة أخرى من طريقة الفقهاء في تجريد دراسة الأحكام، حين جعلوا النظر جل اشتغالهم، ولم يمزجوه بما يرقق القلوب، من قراءة القرآن، وسماع الحديث، وسيرة الرسول - صلى الله عليه و سلم - وأصحابه، ومعلوم أن القلوب لا تخشع بتكرار إزالة النجاسة، والماء المتغير، وهي محتاجة إلى التذكار، والمواعظ لتنهض لطلب الآخرة، ومسائل الخلاف و إن كانت من علم الشرع إلا أنها لا تنهض بكل المطلوب.

وذلك لأن هذا النظر إنما يفتيك الفتاوى التي تحكم الجوارح و الأبدان، وذلك نصف الإسلام وأما نصفه الآخر، فعلم يكشف لك أحوال القلوب، ومكانتها من الإخلاص، والتجرد، و الرضا والشكر والتوبة في مئة منزل، تنزلها قلوب السالكين، إذ هي في مدارج الإيمان الصاعدة.

 

في ظلا ل التفويض:

وكما يكون في أحكام الجوارح اجتهاد، ومذاهب يكون في علم القلوب اجتهاد، ومذاهب أيضاً وذلك أن المؤمن يظل يزداد تأملاً في أحوال القلب، حتى يدخل مرحلة الاجتهاد الإيماني، ربما يسعفه الإلهام و التوفيق، فيكون أقوى فراسة، وأدق تمييزاً، و أكثر جمعاً للمصالح.

 

فمما لا يدركه كثير من الناس أن الاجتهاد، كما يكون في أحكام فقه الحلال، والحرام، يكون في فقه الإيمان ـ أيضاً ـ فيفاضل بين منازل الأخلاق، أو يكون له ذوق في المزج بين منزلتين، أو الفصل بينهما مثلاً، ومن أجمل، وأبرع الاجتهادات الإيمانية، اجتهاد البخاري رحمه الله، فيما يروى عنه في سيرته بين الدعاء، وتركه، و قوله إنه قد دعا الله مرتين، فاستجاب له، فهو يستحي أن يستطرد في الدعاء، أو يخشى الاستدراج.

ولا يفهم الناس هذا التمنع، ويظنونه عدولاً عن سنة، فإن الدعاء سنة إيمانية محكمة، بل هو مطلوب مندوب على إحسانه، وكرمه، ولكن البخاري إنما ينتقل عبر هيبته تلك لله - تعالى - إلى سنة أخرى، يراها في مذهبه، واجتهاده، أبلغ و أحكم في الإخبات، والتواضع، والتذلل بين يدي حكمة الله، وهي سنة التفويض، فإنه يكل الأمر إلى ربه، يفعل به ما يشاء، و يختار له الأصلح في دينه ودنياه، وهذا نوع آخر من الثقة بالله، هو قيم الثقة المحركة للدعاء و تعبير آخر عنها، ويسع المجتهد في فقه الإيمان أن يفاضل بينهما.

ومما يزيد في توضيح معنى الاجتهاد الإيماني، وإثبات وجوده، أن تعلم ما ارتكبه بعض المسلمين من خطأ في السلوك، باسم التصفية و التزكية و الترويض و التربية، مما كثر عند بعض المتصوفة، أو من خطأ في فهم العقيدة، حتى استحال خطؤهم إلى بدع متتالية، وكل ذلك إنما هو اجتهاد، لكنه خاطئ، ومذهب في التأويل، لكنه قاصر، وإذا كان هناك اجتهاد مثل هذا هو عن الصواب بمعزل، فإن ذلك يعني إمكانية أن يكون هناك اجتهاد، له من التوفيق نصيب و انظر في هذا ما يروى عن رابعة العدوية من عدول عن التعبد، بنية الثواب، أو خوف العقاب مما هو عدول عن عبادة سنية محضة، يتضح لك مثل من أمثلة الخطأ في الاجتهاد الإيماني، و في إرهاق النفس، وفطمها عن المباحات، مثل آخر فعله، و يفعله آخرون خلاف السنة، وفي فعل الكرامية، الذين يرتكبون القبائح، لتكون توبتهم ـ بزعمهم أوثق ـ و لكن بمقابل ذلك دارت اجتهادات أخرى، في دائرة المتمكن، و السائغ و المقبول، كمفاضلة البعض بين الشكر و الصبر أيهما أفضل، وأعلى، مما هو مشهور في محاورات أصحاب القلوب، والتأمل في هذه الأمثال يفتح لك باب الفهم لمعنى الاجتهاد الإيماني.

 

ومن شعب هذا الإيمان: الاستسلام للقدر، حين يرى العبد أن الأسباب الظاهرة المألوفة عند الناس، ما عادت تجدي، أو توصله إلى مبتغاه، ومراده، فيدرك أن في الأمر سر ربانياً، وحكمة خفية، وأن الله يريد به لطفاً ربما حين يمنعه عن نيل ما يناله الناس، ربما حتى فاجرهم بل كافرهم، فيطرح نفسه على باب ربه متذللاً مفوضاً، و يختط لنفسه مذهباً قدرياً خاصاً، فيفتي نفسه أن يكون ريشة في مهب ريح القدر، و قد كان من قبل يصارع قدر الشر، بقدر الخير على طريقة عبد القادر الجيلاني المشهورة الصحيحة السنية، و قد أتاها، و حاول، وأجهد نفسه وقواه، ورصد الأسباب، فسلكها، و خاض الغمار، وأوغل في العمق، واحتال بكل الحيل، لكنه فشل، فيغمره إدراك حينئذ لموقعه، وأنه محروس بلطف، ورعاية آلهية مما يظنه خيراً، وهو شر له، أو هو معاقب ممنوع من جبار منتقم بعدل، فيتميز له طريق التوبة إذهو في حالة الإذعان المبالغ فيه، والإخبات الذي يوصله إلى درجات المسكنة، ونكورات الذات، والازدراء في نفسه، و توبيخها، وردعها و اتهامها و منعها من الاعتذار و التأول فيسد عليها مسارب التملص كلها، و يحملها المسؤولية كاملة، حتى يرهقها محاسبة، فعسى عندئذ أن يفتح له باب من التوفيق، يلج من زاويته هارباً، أو يسلك في الدرب الذي بعده صاعداً و هذا مذهب سني صحيح، ليس له مع مذهب الابتداع القدري التقاء، وإنما يميزه قدماء أهل المعاناة فقط، ولن يأذن لطارئ أن يقارب مغزاه، وهو شأن القلب و أحاسيس اللجج، لا شأن اللسان ودعاوى اللجاج.

 

فإذا استوى على أمواج القدر، وهتف به من جانب الأفق هاتف، في صور صاحب صلاة، يتلو ويبشره أن: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} فليس في ذلك الأوان أسعد منه، ولا أكثر منه وثوقاً في المستقبل، فيدرك أن العاقبة للمتقين، و أنها محجوزة له، محتكرة إذا استقام، وإذا قرأ {فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً}\"فإن قلبه يجد إلى الطمأنينة سبلاً، و كأنه يتناوش اليسر من مكان قريب، أو يرمي به إليه هدية، وعليها اسمه، وعنوانه، ملفوفة بوثيقة امتياز يؤهله لتصرف غير ذي حد، ولا انتهاء، إلا أن يكون هو الناكل بعد ما يتدخل حسد الشيطان فينكبح، فتكون له قصة توبة ثانية، ليست لذة الاستئناف فيها، بأقل من لذة الرفل بتلك السكينة الأولى، لو كان مستمراً، أما إن سمع: {و كفى بربك هادياً و نصيراً} أو إحاطته معاني: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً و يرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً}.

فإنه سيبلغ ذروة عالية، وكان زمام الصعاب في يديه، فما من شوارد، ولا صوائل، و يزداد ثقة إذا قرأ أمثال: {فأما من أعطى و أتقى و صدق بالحسنى فسنيسره لليسرى}.

وفي القرآن الكريم مبشرات كثيرة أخرى،وفي الحديث الشريف، وفي شعر المؤمنين، وهي البشائر التي نقلها عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله، حين وصف صاحب اليقين، فقال:

 

ولا يرى من فزع رهن أسى *** يقينه كالطود في القلب رسا

 

يبصر في غور الخطوب قبساً *** من نصرة الله إذا ما استيئسا

ثم استطرد شعراء الإيمان في جمعهم للمعاني الكبير في ألفاظ صغيرة، تهز قلب المؤمن هزة التمحيص، لتتركه يستقر ثابتاً عند ركن التفويض، أو طائفاً حول محاول العمل على سنة الترويض، فهو يكفيه موعظة أن يذكره شاعر، بأن عيون الناس قد نامت قاطبة، لكن عين الله لم تنم، فيحس معنى الحراسة الربانية، وآن له أن يستريح، و أن يسبح خافقاً بجانحيه مع الريح لأنه في كلاءة الله - تعالى - و لطفه، تلحظه عين الرعاية أينما انقلب، فترد عنه العدو، وصور الشر، فتكون له جرأة على الاقتحام في مواطن يتلكأ عنها الغافلون المحرمون من تحسس تلك الكلاءة و يقدم على التحدي، وهو رابط الجأش بفؤاد متين، ثم يحس في انعطافه مباشرة معنى الرقابة الربانية أيضاً و أنه محاصر بها، أينما ذهبت به حيل التفلت، فيدرك عجزه عن الاختباء في زاوية، أو في قعر كهف، أو بين جدران فهو مفضوح مكشوف أينما ذهب

 

وليس له إلا أن يذعن، ويستسلم، ويضع نفسه في تيار التعبد الدائب، وهكذا يظل المؤمن الموقن بأن عين اله لم تنم، متقلباً بين هذين الإحساسين الإيجابيين، فهو رافل بسكينة اللطف من جانب، متدرع من جانب آخر بطمأنينة إبراء الذمة فيما يظن، بعد أن قدم من العمل شيئاً، ولاذ بركن الرجاء، طامعاً ببر الرب، هو عند حسن ظن عبده به.

 

ومن فروع هذا التفويض ـ أيضاً ـ: قبول المؤمن لوقوع الظلم عليه من آخرين بلا مقاومة، أو انشغال بالرد، ولا سعي لا التقاضي، ورفع الخصومة لدى المحاكم، أو الشكاية إلى أولي الأمر، أو إلى ذي مكانة يستطيع أن يردع الظالم، بل يسكن ويتعفف، ويرى أن مكانته الإيمانية أعز من أن يتساوى في الظاهر مع ذي العيوب الذي اعتدى عليه، و يرى أن المروءة تدعوه إلى أن يشمخ على الذي يبدي الإسفاف، وأن يترفع عن موقف يقوده إلى رفع صوت، أو إثارة فضول الغرباء، أو جدل، أو لجاج، فيلوذ بالصمت، ويركن إلى معاني التوكل على الله، إنه هو سبحانه الذي سيعوضه خيراً مما سلب منه، و إن كان مالاً، فيبارك له من مصدر آخر، أو كان ذماً، فيفتح قلوب الناس لمحبته، ويحسن ذكره في الآفاق، أو كان حرماناً من منصب، أو رئاسة، فسيهبه نقابة المؤمنين، و الصدارة في جماعة الخير، و أنا نفسي قد اخترعت هذا النوع من التفويض في حياتي، فوجدته لذيذاً جداّ، ووجدت الله كريماً معي غاية الكرم، يعوضني الضعف إذا سلبني أحد دراهمي، ويبعث لي من يسمعني ألفاظاً جميلة، إذا تجاوز علي متجاوز فاستفزني، وهكذا صرت أتأول الخير، وحسن العقبى، حتى في صغار الأمور اليومية، كأن يأخذ أحد دوري في دخول محل، أو ركوب حافلة مثلاً أو حصول غش من بائع لي فاستولت على سجية الاسترسال مع رغبة المنافس أو الطامع و بقلب بارد مطمئن إلى أن ما هو أحسن إنما هو في انتظاري في حين أرى غيري يشتاط، ويزمجر و يدخل المعارك في مثل ما استقبله أنا بالتجمل و يتوسع الأمر السلمي، ومفهوم الوداعة حتى يشكل سلسلة من الذوقيات الرفيعة التي وصفتها في تقريري الميداني المعروف، بل صغتها لأصحابي في قوانين تعاملية، ذات حساسية مسرفة في التعفف، و الدماثة، وهضم حقوق النفس في سبيل إرضاء الغير مع حياء فيه مبالغة و حرص على التشبه بأصحاب مكارم الأخلاق و تقليد النبلاء و مازال يتوسع عدد الرهط الذين ارتضوا هذه القوانين و لكن مازال هناك من لا يصبر على الأراء الظاهرية لهذه المسألة غير منتبه إلى ما في باطنها و عواقبها من لذائذ روحية حين يرى المسال نفسه في الأماكن العوالي لكن هذا الباب إنما هو إزاء الحقوق الشخصية، أما الظلم السياسي فشأنه.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply