الدعاة ومهمة التنوير


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الدعاة هم حملة مشاعل النور {أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس} وتنوير الناس من أولى مهمات الدعاة.. وكثيرًا ما نسمع كلمة المستنير مضافة إلى كلمة «المسلم\"أو «الداعية»، ويراد بها حين إطلاقها وإضافتها أن الموصوف بها «عصري\"أو منفتحًا أو غير ذلك من الكلمات والأوصاف.

 

وحين تضاف كلمة المستنير إلى الداعية فإنها في رأيي لا تضيف جديدًا، حيث لا يكون الداعية إلا نورًا أو منيرًا ومستنيرًا، وحين نطالع القرآن نجد ذلك واضحًا في وصف الداعية الأول - صلى الله عليه وسلم -: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين} (المائدة: 15)، وقوله - تعالى -: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا. وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا} (الأحزاب: 45، 46)، فالإنارة والتنوير من أولى مهمات الدعاة وصفاتهم، فحين يفقد الداعية النورانية أو النور لا يستطيع تنوير الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} (إبراهيم: 1).

 

وقبل أن نبدأ بأهمية أن يقوم الدعاة بتنوير الناس وتوعيتهم، يحسن بنا أن نطل إطلالة سريعة على بعض ما جاء في معنى هذه الكلمة ومشتقاتها لندرك أبعاد هذه المهمة.

 

جاء في المعجم الوجيز: «أنار: أضاء، وأنار الأمر: وضحه وبينه، ونوَّر فلان.. أرشده وبيَّن له أمرًا واستنار: أضاء.

 

ويقال: استنار الشعب: صار واعيًا مثقفًا، ويقال: استنار برأي فلان: اهتدى به، والمنار: موضع النور، والمنارة: المئذنة، أو ما يقام في الموانئ لتهتدي بها السفن، والنيِّر المضيء والمشرق.

 

ومن جملة هذه المعاني يتضح أن التنوير يعني التوضيح والبيان والتبيين والإرشاد والتوعية والتثقيف والهداية.

 

والمتأمل لكتاب الله يلحظ بوضوح أن الخطاب القرآني هو خطاب تنويري ومهمة الدعاة هي تنوير الناس وتعليمهم وإرشادهم وهدايتهم، فالخطاب الذي يقدمه الدعاة للناس هو خطاب نوراني وتنويري في آن واحد:

 

{قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين} (المائدة: 15).

 

{إنا أنزلنا التوراة فيها هدي ونور} (المائدة: 16).

 

{وآتيناه الإنجيل فيه هدي ونور} (المائدة: 46).

 

 

{فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا} (التغابن: 8).

 

ومهمة الدعاة هي تنوير الناس

 

{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور} (إبراهيم: 5).

 

{كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} (إبراهيم: 1).

 

وهكذا نجد الآيات تؤكد مهمة الإنارة والتنوير لمن يقومون بواجب الدعوة إلى الله، والتي هي في النهاية دعوة إلى النور {الله نور السماوات والأرض} (النور: 35)، ومن ثم فإن الدعاة هم أولى الناس بإطلاق صفة التنوير عليهم، وليسوا كما يسميهم البعض - ظلاميين -.

 

ولكي يقوم الدعاة بمهمة التنوير لابد لهم من حيازة بعض المؤهلات والقدرات من أهمها:

1 - القراءة: لا يمكن للداعية الذي يقوم بمهمة التنوير إلا إذا كان قارئًا محبًا للقراءة جليسًا للكتاب مطالعًا للأخبار، ولذلك كانت الآية الأولى في الوحي للداعية الأول {اقرأ باسم ربك الذي خلق} ومعلوم أن النبي كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب، فكانت أولى خطواته على طريق التنوير هي تعلم القراءة والكتابة، ولابد من تدريب الدعاة على القراءة والكتابة، فالقرآن يحتاج إلى قراءة {وقرآنًا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث} (الإسراء: 106)، والكون يحوي من الآيات ما يحتاج إلي قراءة وفكر {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} والواقع يحتاج إلى قراءة والتاريخ يحتاج إلى قراءة.

 

وفي حديث القرآن عن بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الأميين ما يشير إلى الهدف من بعثته ومهمته في تنوير هؤلاء الأميين وتعليمهم الكتاب والحكمة، والتي هي بداية ترتيبهم وتزكيتهم وهي مهمة كل من يتصدي لتعليم الناس وإرشادهم.

 

ولذلك فإن من أوجب واجبات الدعاة أن يعلموا الناس القراءة والكتابة ومجالسة الكتب، فالقراءة والوعي والعلم صنو الإيمان {فاعلم أنه لا إله إلا الله} والناس أعداء ما جهلوا فلن يعادي الناس الإسلام إلا لجهلهم به وعدم قراءتهم ومعرفتهم به، فقبل أن نلوم الناس ونتهمهم بمعاداة الإسلام ومحاربته، لابد من توعيتهم وتعليمهم به، وليكن للدعاة في رسول الله أسوة حسنة حين جعل فداء أسري المشركين في بدر أن يعلم كل أسير عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابةº لأن الجهل أخو الكفر، ولعلها ليست مصادفة أن يلقب الرسول «عمرو بن هشام\"بـ «أبي جهل»، وإذا كنا نريد لهذه الدعوة أن تنتشر فلابد من تعليم الجهلة والغافلين {لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم فهم غافلون} (يس: 6) «ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم»، «خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه»، «بلغوا عني ولو آية»، «نضر الله وجه امرئ سمع مقالتي فوعاها وبلغها كما سمعها، فرب مبلغ أوعي من سامع».

 

وهل كانت مصادفة أن يسمي الرسول مصعبًا أول داعية في المدينة (بالقارئ) أعتقد أن هناك علاقة صداقة بين القراءة والدعوة، وأنهما صنوان لا يفترقان.

 

وفي هذا السياق حبذا لو تبني الدعاة إلي الله مشاريع لمحو أمية الأمة الأمية الأبجدية والأمية الدينية والأمية السياسية والأمية الواقعية كلٌ علي قدر طاقته، وحبذا لو قام الدعاة بتوظيف طاقات الشباب وخريجي الجامعات في المساهمة في محو أمية الناس، حيث يثبت الواقع أن معاداة الدين وانتشار الخرافات والبدع والأمراض والاستبداد لا يكون إلا حيث ينتشر الجهل والأمية، وحين يسهم الدعاة في تعليم الأمة فإّنهم بذلك يقضون على منظومة الأمراض التي تعانيها الأمة.

 

خصوصًا إذا علمنا أنه في عصر الفضائيات وثورة المعلومات يوجد 72 مليون عربي يعانون الأمية، كما أن هناك 12 مليون طفل عربي خارج نطاق التعليم الإلزامي ومرشحون للزيادة وفقًا لإحصائيات الشبكة العربية لمحو الأمية.

 

2 - البيان والتبيين: بان الشيء ظهر واتضح فهو بائن وبيِّن وأبان فلان أفصح عما يريد، وأبان الشيء فصله ووضحه، والبيان الحجة والمنطق الفصيح، والبيِّن الواضح، وفي المثل: «بيَّن الصُبح لذي عينين».

 

إذا أردنا للداعية أن ينير للناس طريقهم إلى الله فلابد له من امتلاك ناصية البيان، فكتاب دعوته بيان {هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين} (آل عمران: 138)، والرسول ما جاء إلا ليبين للناس ما نزل إليهم، والرسول الداعية ينبغي أن يكون مبينًا، والله - سبحانه وتعالى - لم يترك الناس دون بيان {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء} (النحل: 89)، وعندما أنزل الله القرآن على نبيه فقال: {ثم إنا علينا بيانه} (القيامة: 19)، فلم تترك عملية البيان للرسول أو لم يترك الرسول دون بيان لهذا القرآن الذي أوحاه الله إلي نبيه، والدعاة كذلك إذا لم يبينوا للناس مراد الله منهم لا يكونون قد قاموا بالبلاغ المبين، إن كثيرًا من الدعاة يخطئ حين يخاطب الناس بالعموميات والمبهمات والمتشابهات والمشكلات دون توضيح أو بيان أو تفصيل والمبين كلمة اقترنت في القرآن بالبلاغ والرسول والسلطان «الحجة» والكتاب والنذير والقرآن والحق واللسان، والداعية في دعوته يستخدم في دعوته البلاغ والحجة والكتاب والحق واللسان، وكل أولئك ينبغي أن يكون مبينًا وواضحًا، فالأعجم غير الفصيح يكون ضرره أكثر من نفعه.

 

وإذا كانت الرسل تأتي أقوامها بالآيات البينات والمبينات، فالدعاة أولي الناس بهذا البيانº لأن الله لا يحاسب عباده إلا بعد أن يقيم الحجة عليهم {قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات} (غافر: 50)، فالهلاك لا يكون إلا بعد البيان، {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة} (الأنفال: 42)، {وما كان الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} (التوبة: 115).

 

ولذلك فمن الظلم أن نتهم الناس بالهلاك، رغم أن الذي أهلكهم هم أولئك الذين لم يبينوا لهم ما فيه نجاتهم.

 

والذي نخلص إليه أن الدعاة سيكونون مقصرين وآثمين إذا لم يقوموا بالبلاغ المبين، فعدم البيان هو نوع من الكتمان تجب التوبة منه {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدي من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم} (البقرة: 159، 160).

 

إن توضيح الإسلام ومحاسنه وبيان مقاصده السامية لإسعاد البشرية من أوجب ما ينبغي للدعاة أن يشغلهم أنفسهم بهº لأن هذا البيان هو طريق الهداية {كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} (آل عمران: 103)، إن الله استجاب لسيدنا إبراهيم حين طلب منه أن يبين له ويريه كيف يحيي الموتى، وكان هذا البيان والتبيين من الله طريق إبراهيم إلي الإيمان واليقين {فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير} (البقرة: 259).

 

إن الذي يحاول خدمة الرسالة الإسلامية دون أن يكون محيطًا بأدب العربية في شتى أعصارها إنما يحاول عبثًا، وكما يقول الشيخ محمد الغزالي: «أنى لرجل محروم من حاسة البلاغة أن يخدم دينًا كتابه معجزة بيانية، ورسوله إمام للحكمة وفصل الخطاب؟ والداعية لابد أن يدرس آداب العربية القديمة والحديثة، وأن يدرب نفسه على الأداء الراقي والعبارة الرائقة، وليس القصد أن يكون كلامه إنشاءً منمقًا، وإنما القصد أن يحسن صوغ العلم النافع والحقائق في أسلوب يبرز ما فيها من نفع وقوة، وقد قالوا: «الخط الحسن يزيد الحق وضوحًا»، وكذلك القول الحسن والخطاب الجميل.

 

3 - العلم: لابد أن يمتاز الدعاة عن غيرهم من عامة الناس بعلم ما لا يعلم الناس، ويكون لسان حالهم: {وأعلم من الله ما لا تعلمون} ويكون قدوتهم في ذلك آدم حين علَّمه الله الأسماء كلها، فالعلم ضروري لإقامة الدين شرائع وشعائر {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكاري حتى تعلموا ما تقولون}، {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صمًا وعميانًا}، وكيف يتأتى للعميان والصم قيادة الناس وهدايتهم وإرشادهم.

 

أعمى يقود بصيرًا لا أبًا لكم *** قد ضل من كانت العُميان تهديه

 

فالدعاة في مجالهم يجب أن يكون أهل ذكر يسألهم الناس إن كان لا يعلمون، وإذا فقد الدعاة هذه الميزة تساووا مع الناس وافتقدوا إمامتهم وقيادتهم.

 

ومما يتصل بهذا المجال ينبغي على الدعاة إتقان فن التأويل والتفسير والاستنباط. والرسوخ في العلم طريق الدعاة إلى الاستنباط والتأويل واستخراج الأحكام وتنزيلها على الواقع، كما أن العلم وتدريسه للناس طريق الدعاة إلى الربانية {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}.

 

ومما يتصل بهذا أيضًا أن يتعلم الدعاة كتاب دعوتهم، {ويعلمهم الكتاب والحكمة} فتعليم وتعلَّم الكتاب والحكمة من أولى مهمات ووظائف الدعاة، وكذلك تعليمهم الرشد في الكلمة وفي التصرف وفي السلوك، وفي الموقف {هل أتبعك علي أن تعلمني مما علمت رشدًا}.

 

وخلاصة ما سبق لكي يتقن الدعاة مهمة التنوير لابد أن يكون عندهم علم من الكتاب، وأن يتعلموا منطق الناس والأفكار والعادات والأمم، كما علم الله سليمان منطق الطير.

 

وأختم بهذه الكلمات لشيخ الدعاة وأستاذهم محمد الغزالي - رحمه الله - والتي أوردها في كتابه «مع الله.. دراسات في الدعوة والدعاة\"يقول الشيخ: «إن تكوين الدعاة يعني تكوين الأمة، فالأمم العظيمة ليست إلا صناعة حسنة لنفر من الرجال الموهوبين وأثر الرجل العبقري فيمن حوله كأثر المطر في الأرض الموات، وأثر الشعاع في المكان المتألق، ومن هنا أري أن سبيل النهضة الناجحة لا يتمهد إلا إذا استطعنا على عجل بناء جماعات من الدعاة المدربين البواسل ينطلقون في أقطار العالم الإسلامي ليرأبوا صدعه ويجمعوا شمله، ويتعهدوا مسيره، ويقوموا عوجه، ويذودوا عنه كيد الخصوم، ومكر الأعداء، وعبث الجهال، وسفاه المفتونين.

 

الإسلام أحوج الأديان الآن إلي من يتعلمه علي حقيقته النازلة من رب العالمين، ثم يكرس حياته لإنعاش المسلمين به بعدما سقطوا في غيبوبة طويلة علِّتُها الأولى والأخيرة هي الجهل الطامس البليد، الإسلام أحوج الأديان الآن إلي الدعاة الذين يغسلون عنه ما التصق به من خرافات، ويقصون من طريقه الحواجز التي شَيِّعت أهله وقسمتهم طوائف ومذاهب، الإسلام فقير إلى رجولات متجردة تهب حياتها لله وتجعل مماتها فيه، سيكون هؤلاء الدعاة هم طلائع النور في أمة طال عليها الليل، وبوادر اليقظة في أمة تأخر بها النوم، وأمل العالم في عصر أجدبت فيه الدنيا من رسل الرحمة واليقين وامتلأت بزبانية الأثرة والإلحاد».

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply