الطاقات المهدرة


بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

يسّر الله _ تعالى _ لي حضور المؤتمر السنوي الذي أقامه التجمع الإسلامي في أمريكا الشمالية(1)، وكان عامة الحضور من الطلاب الدراسيين في مرحلَتَي الماجستير والدكتوراه في تخصصات تجريبية وإنسانية متعددة، وسألني أحدهم: أليس من الممكن أن يستغل هذا الاجتماع المبارك ثلةٌ من المفكرين والمشايخ لرسم خطة دعوية يعتمد عليها الدعاة في أمريكا الشمالية؟

ويبدو هذا السؤال جميلاً.. لكن صدري ضاق به جداً، فإلى متى ننتظر التلقين من الآخرين..؟!

إلى متى تدار المشروعات الإسلامية بفردية.. وبقية الجموع تتحرك بآلية ساذجة لا تعي ولا تُدرك، ولا تجيد إلا فن المحاكاة والاجترار..؟!

لقد ضاق صدري لأنني أرى أن مسؤولية هذا الدين ليست حكراً على أحد، بل هي قضية كل مسلم في أي مكان ذهب، وفي أي ثغر عمل، كل بحسب طاقته وقدرته، وكما قال الشاعر:

وتزعـم أنك جِـرمٌ صغـيرٌ    وفيك انطوى العالَمُ الأكبرُ! 

 

ولا يعني هذا ألاّ يستفيد الإنسان من خبرات الآخرين وعلمهم وسابقتهم فهذا أمر محمود مأمور به شرعاً، فالتناصح والتعاون أصل من أصول الشرع، ولكن لا يجوز الانكفاء عليهم، والاعتماد المطلق على خبراتهم..!

كما لا يعني أن تتحول كل الجموع إلى قادة ومفكرين، ولكن لا يجوز أن تختزل الأمة كلها وتذوب في آحاد من الناس، هم وحدهم الذين يفكرون ويخططون ويبدعون..!

إنّ الإبداع والابتكار لا يأتي في يوم وليلة، ولكنه محصلة لسلسلة من الإنجازات والتجارب، فالميدان وسيلة خصبة لإثراء المعارف وصقل الخبرات، وقد يخفق الإنسان المرة بعد الأخرى، ولكنه سوف ينجح في النهاية، وسوف تصير الإخفاقات رصيداً تراكمياً من الخبرة ينضج مع علو الهمة وطول العزيمة.

 

وإن الخوف من الإخفاق، والتردد قبل الإقدام، نتيجته الحتمية هي المراوحة في المكان نفسه، بل والتراجع إلى الخلف، والذي لا يخطئ هو الإنسان الميت الذي لا يتحرك، والخلفية التربوية الهزيلة لها أثر كبير في وأد طموح الإنسان، وشل حركته ومحاصرة عقله، كما أن المحاضن التربوية الناضجة لها دور كبير في بناء الإنسان، وشحذ همته، وتوسيع معارفه وآفاقه(2).

وبعد كل هذا الحديث يسألني أحدهم ثانية: نحن طلاب أشغلتنا الأبحاث والمعامل، ولا نملك الوقت للتفكير والتجريب..؟!

لقد آلمتني هذه المداخلة الباردة المخذلة، ألهذه الدرجة يتدنى الهم الإسلامي فيكون في هامش الهموم..؟!

لن تنجح دعوة إذا كان رجالها هواة يشغلون بها وقت فراغهم!

ولن تنجح دعوة إذا كانت نزوة طارئة تغدو وتروح، وتتحكم بها التقلبات النفسية والتغيرات الاجتماعية..!

إن الدعوة عند أبنائها المخلصين البررة هي الهمٌّ الأكبر، والشغل الشاغل، وكل ما سواها يجب أن يُسخَّر لخدمتها ويَصُبَّ في قناتها.

وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين .

************************

الهوامش:

(1) في سنة (1415هـ).

(2) أشار عالم النفس الأمريكي \"هاورد قاردنر\" إلى أن: (المبدعين يتميزون بالخصائص التالية:

أ- قضاء وقت في التأمل والتفكر.

ب- تقوية ما يتقنون ويحسنون.

ت- تحويل الإخفاق إلى تجربة تعليمية مفيدة).

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply