احتراف خدمة الدين


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تتواتر النصوص الشرعية الآمرة بإتقان العمل وإحسانه بقدر نفس النصوص الآمرة بالعمل نفسه، يقول - تبارك و تعالى -: ( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين )، وقال: ( وجاهدوا في الله حق جهاده )، وقال: ( اتقوا الله حق تقاته )، وقال: ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين )، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ( إن الله كتب الإحسان في كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ).

ومن شأن الأذكياء ذوي الهمم العالية الراقية أن يحرصوا على إتقان أعمالهم، وأدائها على الوجه الذي يحسون معه ببذل كل الوسع وعدم القدرة على التدارك. وفوق كون ذلك مأمورا شرعيا، فهو من كمال مروءة الإنسان أن يكون العمل عنوانا على جلالة الهمة وصفائها:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم *** وتأتي على قدر الكرام المكارم

وتعظم في عين الصغير صغارها *** وتصغر في عين العظيم العظائم

وقد استقر في وجدان كل مسلم ضرورة إتقان عباداته كالصلاة والصوم والحج، ولا شك أن هذا مطرد في كل مناحي الشريعة، بل إننا نجد في القرآن أمرا لو أعطيناه حقه من الفهم لاستطعنا أن ندرك حقيقة ما نتكلم عنه، ألا وهو قوله - تعالى -: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) والاستطاعة لا شك متفاوتة بين المكلفين، لكن المتيقن أن في استطاعة كل مكلف أن يبذل لدينه على الأقل مثل ما يبذل لدنياه.

وإن إتقان العمل يتوازى بدرجة عالية مع حجم العوائق والتحديات التي تفسد العمل، بل وإن الاهتمام بالعمل يتعاظم بقدر مكانة العمل نفسه، فاستحضار الخشوع في الصلاة يتعاظم إذا علم العبد قدر الوساوس التي تحول بينه وبين الخشوع وقدر ما يبذله الشيطان اللعين في الحئول بينه وبين ثمرة الصلاة، وليس الاهتمام بإتقان ذكاة البهائم كمثل الاهتمام بإتقان مجاهدة العدو المستعد بأعلى الاستعدادات للإفناء القيم والمثل الإسلامية.

وإنه ليس من البذل للدين في شيء أن نرى أعداء الله - تبارك و تعالى - يستغلون كل المستجدات العصرية المتطورة ثم إذا نظرنا نظرة إلى الدعوة الإسلامية إذا هي تدار بطريقة عشوائية، وإذا بالمسلمين يعجزون عن خوض المعركة الحضارية الكبرى مع ملل الكفر بشيء من إتقان العمل وإحسانه.

إن الله - تبارك و تعالى - لا يحابي في سننه أحدا، وجعل في سيرة الأنبياء مدكرا لكل ذي لب، فلم يشفع لهم كونهم رسلا من عند الله - تبارك و تعالى -، ولم يشفع لهم نقاء الحق الذي يحملونه، فكذبوا وأوذوا وطردوا وحوربوا بل وجرحوا وقتلوا، ومع ذلك فقد بذلوا الوسع في القيام بالدعوة، فدعوا إلى الله سرا وجهرا وجيشوا الجيوش واشتروا السلاح واستعاروه وحفروا الخنادق وابتكروا وسائل الكر والفر، ولم تلن لهم قناة في أمر الدين.

وهكذا ينبغي أن يكون دعاة اليوم، في هذا العصر الذي صار المحك في الغلبة للأخذ بالمتطور من مستجدات العصر كأجهزة اتصالات وتقنية إدارة الأعمال وغير ذلك مما يحتاج إلى ملاحقة وبحث لا أن ننتظر استعمال الخلق لها حتى إذا اهترأت فكرنا أن نخدم الدين بها بينما سوح الكفر تهنأ بأحدث وسائل الخدمة والمواجهة.

وإذا كنا قد تجاوزنا إشكالية الوسائل الدعوية فإن أول بدهية يجب أن تحتل مساحتها اللائقة في عقولنا أن العلوم العصرية بكل أصنافها لها دور فعال في تسخير قوانين الكون لخدمة الإنسان.

وفي الصحاح قال - صلى الله عليه وسلم -: ( ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء، علمه من علمه وجهله من جهله )، فتأمل قوله: ( علمه من علمه وجهله من جهله ) وأنه لا يحول بين المكلف وبين الاستفادة مما بثه الله من منافع وطيبات في الكون إلا ببحث المكلف وسعيه في تحصيل ما ينفعه.

وهكذا في مواجهة أهل الإيمان لعروش الكفر، فإنه لن يحول بينهم وبين النصر إلا عجزهم عن السعي الحثيث في بذل المستطاع، وإذا تقرر أن نصر الله يتلو نصر العبد لدينه، فإن تقصير المجاهدين في بذل المستطاع يعد سببا وجيها لتأخر نصر الله.

إن قناعة الدعاة إلى الله بضرورة احتراف الدعوة سبب رئيس من أسباب النصر، فلا تجدي في هذه العصور محاولات الهواة لمزاحمة المحترفين في مجالاتهم. وقد تصاعدت اهتمامات دعاة الكفر بما يدعون إليه حتى إنه في سبيل ذلك سخروا كل العلوم العصرية لخدمة كفرهم.

وإذا أردنا أن نؤرخ لابتداء احتراف جهد الدعوة إلى أية فكرة فنستطيع أن نذكر محاولات التنصير الحاذقة التي ابتدأت في قارة آسيا مع مطلع القرن السابع عشر حيث تزامن مع الحركة الاستعمارية الاقتصادية الأولى - على يد الشركات الشرقية - زحفُ المنصرين من كل المذاهب على تلك البلاد البكر ( كالهند وما جاورها ) فنشأت أولى الحركات التنصيرية المحترفة التي كانت تمول بأموال الشركات الاقتصادية الاستعمارية، وتدار بجمعيات علمية ( جغرافية وطبية اجتماعية ) تحت رعاية التاج البريطاني رأسا، حيث كانت الملكة إيلزابيث الأولى ملكة التاج البريطاني وراعية الكنيسة الإنجيلية.

ثم تطورت جهود المنصرين العالمية في توسيع رقعة نشاطاتهم حتى غدت جهدا دوليا مكثفا تتوجه لخدمته كل الإمكانات المتاحة وبإدارة مجلس الكنائس العالمي الذي تأسس للتنسيق بين ملل النصرانية المتناحرة.

وفي إحصائية متأخرة ذكر بعض الباحثين أن ميزانية جمعيات التنصير لعام 1999 م قد فاقت 200 مليار دولار، ولا شك أن هذا المبلغ متواضع جدا مقارنة بالمبلغ الحقيقي الذي تنفقه الدول النصرانية في تسيير سياسات العالم بما يصب في مصلحة المنصرين لا محالة.

أمام هذا البذل الذي يبذله أهل الكفر، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن من أسئلة: ماذا أعد الدعاة أمام هذا الإتقان في العداء للدين؟! إن الجواب الذي يرضي كل منصف أن دين الله تبارك و- تعالى - يأخذ مجراه في قلوب الناس ويغزو كل الأقطار بتقدير الله وحسب، ولم يأخذ حقه من جهد الدعاة بل المسلمين.

حتى المجهودات التي تبذلها الهيئات الإسلامية العالمية نجدها – مع كثرتها وتشعب أنشطتها – تدار بطرق بدائية، ولا يعتمد في إدارتها على المتخصصين، كما أن تلك الهيئات لا تملك تصورات محددة لأنشطتها المستقبلية، وغدت أعمال الدعاة – كمال قال بعض الغيورين – مجرد ردود أفعال للمآسي التي تحيق بالمسلمين بين الحين والحين.

إن الفاتيكان قد أعلن في خطط واضحة وصريحة جعل عام 2000 من الميلاد هو عام تنصير أفريقيا، وبينما كان كرادلة الفاتيكان يمدون إلى وزارات الأوقاف في العالم الإسلامي يدا حانية زاعمين رغبتهم في الحوار بين الأديان كانت يدهم الثانية الملوثة بنجاسة الكفر تمتد إلى أدغال أفريقيا وغابات إندونيسيا، بل إن إرساليات التنصير التي تعتمد على المدارس الراقية والمستشفيات المتقدمة ما فتئت تجوس خلال ديار الإسلام بل وديار الكفر على السواء تمارس دورها التنصيري في كل أرجاء العالم دون حياء أو خفر.

وبينما نرى الكاتدرائيات النصرانية والكليات اللاهوتية تخرج من بين جدرانها منصرين على مستوى عال من المهارة والإتقان في دعوة الناس فإننا نرى مناهج الكليات الإسلامية والدعوية في كل جامعات العالم الإسلامي ( لا نستثني والله شيئا منها ) لا تلبي في قليل أو كثير طموح الزحف الإسلامي الذي بدأت جحافله تطرق أبواب الفاتيكان دون إراقة قطرة دم تحقيقا لبشارة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

وقد عقد في إحدى الولايات الأمريكية – لاحظ – مؤتمرا تنصيريا عالميا كان الهدف منه دراسة أوضاع البعثات التنصيرية في جميع أنحاء العالم، وقد اطلعت على كل أبحاث هذا المؤتمر التي طبعت في مجلد ضخم، ولشد ما تعجبت حينما وقعت عيني على تلك الأبحاث. لقد كانوا يطرحون كل المشكلات التي تواجه البعثات التنصيرية في كل بلاد العالم، وكم كانت المسائل التي يعالجونها دقيقة تعتمد على دراسات أنثربولوجية راقية، وكان يتبع الأبحاث مناقشات دقيقة واعية لما يطرح. وعلى سبيل المثال فقد كان من ضمن الأبحاث التي طرحت: مدى تأثير الروحانيات ( السحر والاعتقاد في الحسد ) على العوام من المسلمين، ولم أدرك حينها مع التمعن فائدة دراسة عادات المسلمين واعتقاداتهم الاجتماعية ولو كانت باطلة أو خرافية، ثم تراءى لي أن القوم من الذكاء بمكان، فهم يعملون كما تعمل أجهزة المخابرات التي تستقصي كل معلومة عن عملائها في كل أنحاء العالم، لعل أن تكون المعلومة الواحدة – وإن كانت تافهة في ذاتها – ذات أثر في يوم من الأيام.

وهكذا يتحرك التنصير في أنحاء العالم، وفي بلد مثل تايلاند حدثني بعض المسلمين هناك أن مجموعة من المنصرين الشباب ذوي السحنة الأوروبية طرقوا عليه الباب وأخذوا يكلمونه عن النصرانية بلغة تايلندية طليقة تنبئ عن أن القوم إذا أعدوا لشيء أعدوه على الوجه الذي يظن به بلوغ الأرب.

ولقد رُزئت الأمة الإسلامية في العقد الأخير بنكبات مدوية هزت أركان عزيمتها وأثخنتها بجراح غائرة في عزتها وكبريائها ما زالت تعاني نزيفها المتوالي.

ولقد كانت التحديات التي واجهت الأمة الإسلامية في البوسنة وكوسوفا بمثابة امتحان حقيقي لإمكاناتها البشرية والاقتصادية والسياسية، فسقطت بجدارة في الجميع.

وقد رأينا كيف كانت C.I.A ( المخابرات الأمريكية ) والبنتاجون ( وزارة الدفاع الأمريكية ) والناتو ( حلف شمال الأطلسي ) والاتحاد الأوروبي يديرون الأزمة وسط همسات الدول الإسلامية وهمهمات أصحاب القضية بحجم المؤامرة الكبير.

ووسط مرارات وصلت إلى الحلقوم رأينا كيف استقبلت إسرائيل عشرات الأسر المسلمة من كوسوفا في استعراض سياسي مدروس الأبعاد بينما لم تتقدم أية دولة إسلامية باستعراض مماثل!

إن مثل ردود الأفعال هذه هي التي تنبيك أيها المسلم بحجم التخبط الذي يعتري جهودنا في خدمة الدين، ولست بلائم أفرادا بأخطاء دول، كما أن اعتذار البعض بأن أوزار الحكام في تشرذم الأمة لا يجوز أن يتحملها المحكومون اعتذار صحيح وتخلص وجيه، ولكنني أزعم أن الهيئات والجماعات الإسلامية ما زالت تخنس عن دورها الأصيل في تبني القضايا الكبرى، وما زالت تتوارى وراء طرق بالية في إدارة الدعوة حتى أضحت رهينة العادة والهوى والآلية الصماء التي لا تغني عن نصرة الدين فتيلا.

وبإزاء قناعة الأفراد بأهمية احتراف خدمة الدين لا بد أن تتولد في وجدانات القيادات الدعوية مثل هذه القناعة حتى تهب الهمم لمشروع حضاري كبير يستنقذ الأمة من نكباتها وهزائمها.

حقا إن التحديات التي تواجهها الصحوة في كل الأصعدة شديدة وخطيرة، وتربص أعدائها بها على كل المستويات وفي كل زمان ومكان، لكل ذلك كله في نظري سيضمحل أمام الإمكانات الحقيقية لقطاعات الصحوة المتكاثرة، وظني أن الصحوة تفتقر بشدة إلى شخصيات إدارية عالية المهارة تعمل على تفعيل الكوادر الموجودة بالفعل، والرقي بإمكانياتها والنهوض بمستوياتها ورفع درجة الاستفادة من الخبرات التي تمارس عملها بالفعل، ولنا مع هذا الموضوع عود.

لم يعد من المجدي أن يمارس الداعية في أي ميدان نشاطه بارتجالية، ولم يعد مقبولا أن نترك دعاتنا فريسة للتجارب الدعوية التي تستقطع وقتا ومجهودا أولى بنا أن نسخره في التدريب وصقل الخبرات.

إننا نرى بوضوح كيف أن الغيورين من شباب الأمة يبذلون الغالي والرخيص في سبيل رفعة شأن الأمة، وكيف أنهم يضحون بأوقاتهم وأموالهم وبكل ما يظنون أن الدعوة تحتاج إليه، لكنهم يفاجئون أن محاولاتهم الدعوية تذهب أدراج الرياح ومجهوداتهم تصير رهينة أماكنها، لا لشيء إلا أنهم واجهوا واقعا دعويا صعبا بآلات بدائية وبدون خبرة أو ممارسة سابقة.

تأمل ( مثلا ) الجهد التربوي الذي يقوم به الدعاة، إن جميعهم – إلا من رحم ربي – يشكو كثرة مشكلات الشباب وتعقيدها وصعوبة فهم شخصيات المراهقين. ولا شك أن هؤلاء الدعاة سيعانون أكثر عندما يلتزم الشباب بالدين دون أن تحل مشكلاتهم التي تنشأوا عليها في الجاهلية. وقد رأينا كيف أن رواسب التربية الخاطئة التي بدأ التزام هؤلاء الشباب عليها تطفوا سريعا عندما تتعرض تلك الشخصيات لأول محك في حياتها الجديدة، بل إن علماءنا قد نصوا على أن فساد الانتهاء من فساد الابتداء.

إن مثل هذه الإشكالية في نظري مأتاها من تقصير الدعاة في العلوم الاجتماعية والتربوية، وقلة مطالعاتهم لكتابات ذوي الخبرة والديانة في هذا المجال، وأنا أجزم غير شاك أن قطاعا كبيرا ممن يمارسون دعوة الشباب جاهلون بأساسيات العلوم التربوية مما يتعلق بنفسية المراهق ونحو ذلك.

ومما لا شك فيه أن هذه العلوم فيها الغث والسمين، وأن واضعيها بعضهم ممن لا خلاق له في دين الله تبارك و- تعالى -، ولا شك أيضا أننا لا نقصد بالاستفادة من هذه العلوم أن نعتمد قوانينها واكتشافاتها وتجاربها الغضة، بل المقصود أن يستفيد الداعية والمربي من تلك الدراسات التربوية والنفسية والاجتماعية في فهم النفسية البشرية، ولا شك أيضا أن الممارسة التربوية قائمة بالدرجة الأولى على براعة فهم الشخصية التي يراد تربيتها واختيار المنهج التربوي الملائم، وكل ذلك راجع إلا ذكاء المربي في فهم الشخصية التي يربيها، وهذا الفهم يرجع جزء كبير منه للفراسة التي بعضها كسبي يُجتنى بالخبرة وبالبعض الآخر فطري يُمنح من الله - تبارك و تعالى -.

وليس على الدعاة من بأس إن هم حاولوا صقل تجاربهم بمثل هذه العلوم والقراءات التي وإن لم يستفيدوا منها في دعوتهم فلا شك أنها ستفيدهم في أمور دنياهم لا محالة.

بل إنه يمكننا أن نمثل لإشكاليتنا بأمثلة أعمق في آلامها ونتائجها، ألا وهي قضية خلق الداعية، فإنه مما لا شك فيه أن ثمة تقصيرا حادا على مستوى الأفراد والجماعات في تلقين الدعاة المثل الأخلاقية العليا التي تليق بدعاة الإسلام والمتحدثين باسمه بين الناس.

وإنه لمن الطبعي أن نجد بعض الدعاة يأتي أفعالا هي في عرف الشرع من المباح الذي لا إثم فيه ولكنها في بعض الأعراف من المستشنعات، والعادة محكّمة، وسيحتاج الداعية حتما حينئذ إلى تهذيب بعض عاداته حتى يدرأ المطاعن عن نفسه وعن الدين، فالجهلاء أعداء أنفسهم، وهؤلاء وغيرهم من أعداء الدين متربصون بالدعاة يعدون عليهم هناتهم، فما أحرانا أن نقطع على هؤلاء محاولاتهم ونقدم لهم نماذج دعوية تبهر العقول والألباب.

والعجيب أن مثل هذا التلقين – أعني تلقين الأخلاق – كان سلفنا وعلماؤنا يجعلونه علما مستقلا يدرس في حلقاتهم، وكانت لهم مؤلفات حافلة في علم الآداب حوت المنظومات الألفية وشروحها وتناولت أدق تفاصيل الآداب حتى إنهم تعرضوا لآداب استعارة الكتب وآداب المسلم في السوق وفي الشارع على نحو ما تراه في كتاب الجامع في الآداب للشيخ جمال الدين القاسمي - رحمه الله -، وقد رأيت متنا مشروحا في آداب النكاح والزواج لأحد المالكية ينبئ أن تراثنا جمع فأوعى.

وفي قضية احتراف خدمة الدين: لا أريد أن أعقد المشاكل أو أن ألزم الدعاة بما لا يلزمهم شرعا، فإنني لا أماري في أن في شرع الله غنية عن كل شيء، ولكن شرع الله نفسه قد حض على المعرفة وبارك أهل التخصص وألزم الناس بالرجوع إليهم والاعتداد برأيهم ومشورتهم.

والمنصف لا يمكن أن يتخيل مفتيا في مسائل الاقتصاد والتجارة لا يعرف في عرف التجار والاقتصاديين نقيرا، كما لا يمكن أن نأخذ بقول من يفتي الناس في الفرائض حال كونه لا يحسن حساب الكسور.

ولو تجاوزنا القضايا الجزئية في جانب احتراف الدين إلى القضايا الكبرى العامة، كقضية الصراع الحضاري بين الإسلام والأيديولجيات الأرضية فإننا سنبصر هوة سحيقة تفصل بين الحركات التي تتبنى موقف الإسلام وبين خصومها المختلفين.

إن اليهود عندما فكروا في إقامة دولتهم، وحددوا موقعها على خريطة العالم، بل وحددوا موعد إعلان تلك الدولة، لم يعيشوا بعدها معيشة الحالم المتمني، بل تناسب البذل مع ضخامة المهمة، ولا أعتقد أن وعد بلفور هو الذي أفرز الكيان وأوجده على وجه الأرض، بل تحديد الأهداف والتخطيط السليم والتنفيذ الدقيق والمتابعة المستمرة هي التي أعطت اليهود حق الوجود، وتأمل قوله - تعالى -: { ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا }. إن إسرائيل لم تنتظر من الأمريكان أن يدافعوا عنها، بل ولم تعتمد على أسلحتهم أبد الدهر، فقد كونت جيشها من خلّص اليهود، وتبنت عقيدة عسكرية واضحة المعالم، وسعت لتطوير تقنية صناعتها العسكرية، وجعلت الرافد الذي يغذي كل ذلك اقتصاد قوي مرموق، حتى أضحت تلك الدولة اللقيطة في خمسين عاما أقوى دولة في المنطقة اقتصاديا وعسكريا، وأصبح متوسط الدخل في هذا الكيان من أعـلى المستويات.

وأنا أهمس إلى كل المسلمين بمزايا أخرى أقامت هذه الدولة على ساق قوية، ألا وهو تبنيها لمبادئ في الحرية والعدل وصيانة حقوق الإنسان لا يوجد في غيرها من بلدان المنطقة. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: إن الله يقيم دولة العدل وإن كانت كافرة ويديل دولة الظلم وإن كانت مسلمة. معنى كلامه - رحمه الله -.

ولا أظن دعاة الإسلام يرضون أن يواجهوا هذا المعترك العالمي والخضم الدولي بكيانات هشة، وإمكانيات متواضعة، فكان لزاما قبل كل شيء أن تبث عقيدة الاحتراف في صفوف الدعاة جماعة وأفرادا، بحيث نصل إلى المستوى الذي يستنكف معه الداعية أن يؤدي عملا دون أن يعد له العدة المطلوبة، فيكون بذلك معظما لشعائر الله صادق الغيرة على دينه.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply