إلى دعاة الترقيع


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

يصف الله ـ سبحانه وتعالى ـ هذا الدين بالحبل المتين، بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، ويحث المؤمنين بل الأنبياء والمرسلين على صدق الاستمساك به وأخذه بقوة: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة)، ويمدح ـ سبحانه وتعالى ـ الذين يمسّكون بالكتاب وأولئك (الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا)، كما يذم من تشكّكوا (وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يتردّدون)، ويجعل الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ  الجنة جزاءً لمن قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه... فما حقيقة هذا الاستمساك؟! وكيف يكون صدق الأخذ بالدين؟!

 

العقيدة هي ما يعقد عليه الإنسان قلبه من رأي، هي الإيمان الجازم الذي لا يتطرق إليه الشك عند معتقده، فالمؤمن يعبد الله، على نور من الله، يرجو ثوابه ويخاف عقابه. غايته جلية وهدفه واضح، لا تتزعزع مبادئه ولا تتغير ثوابته، ملء عطفيه الإيمان والثقة بموعود الله، حاله كحال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. تحزبت عليه الأحزاب وضاقت الأرض بما رحبت وقال المنافقون: (ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غروراً)، ومع هذا..

 

يهبط باسم الثغـرِ             يدكّ الصخر بالمعول

يناجي واثقاً ربـــه             يبشّر صحبه العــزّل

بفتح ممالك القيـصر

نعم.. هكذا يكون ثبات أهل العقائد في أحلك المواقف وأشدّها، فالطمأنينة ملء جوانحهم لاستهدائهم بكتاب الله وما فيه من وعد بالتمكين والغلبة.. لاسترشادهم بسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ  واستيقانهم بما ورد فيها من بشارات، فغايتهم ليست الغلبة في الدنيا والرفعة الوضيعة على أهلها.. بل الغاية رضا الله. فإن كان ذلك بالموت فحيّهلاً، وإن كان سبيل ذلك تنكيلاً وتعذيباً فمرحباً وأهلاً. يفعل واحدهم ذلك وهو يردد:

ولست أبالي حين أُقتل مسلماً          على أيِّ جنبٍ, كان في الله مصرعي

 

هذا هو الفرق بينهم وبين متبني الآراء الذين لهم في كل يوم موقف، تجدهم اليوم يخاصمون من كانوا بالأمس يضاحكون ويحالفون، ليس لهم لون مميز ولا طعم ولا رائحة، فصاحب الرأي سهل أن يتحوّر وأن يتحوّل، هو عند المصلحة تصاغ في شكل دليل، ظاهر النتائج يتحكّم فيهº فليس له هادٍ, من الشرع يعصمه، أو دليل من السنة يطمئنّ إليه، لذلك تجده ييمِّم اليوم شطر ما كان بالأمس يوليه ظهراً وقفا.

ثم يتولّى من بعد ذلك قبلةً أخرى و\"قفاه على الإقدام للوجه شاتم\". فهو يدور  في دائرة ما يستجدّ له من آراء وما تضطره إليه الظروف، فله في كل حين وجهة، يدور حول الرحى ويمشي مكباً على وجهه غافلاً عن مراد ربه، شتان بينه وبين من وضع نصب عينيه قول إمامه وقدوته: (لو وضعوا الشمس في يمين والقمر في يساري على أن أدع هذا الذي جئت به ما تركته).

 

     تعترض كلا الاثنين العقبات والشهوات، ويطول الطريق إلى الأهداف ويكون ذلك من باب البلاء والتمحيص، (ليميز الله الخبيث من الطيب)، فما يكون موقف كليهما؟!

 

     صاحب الرأي سريع الانزلاقº لأنه أصالةً قد وضع الاحتمال وترك للنكوص مجالاً، فليس للرأي عليه سلطان ولا يتعلّق رأيه بأحكام، فغايته تبرر الوسيلة، وهدفه قد تُحطّم في سبيله فحواه! أمّا صاحب العقيدة فلديه من الحق وازع، وله من إيمانه ركن وثيق، لا يرى في الباطل مركباً يقوده إلى الحقº وذلك أنه يتعبّد الله بالوسائل كما يتعبّده بالغايات، يتذكّر قوله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم) فينتصر على القلق والتردد ولا يستعجل النتائج، تقع عليه النكبات ويُبتلى في دنياه فيستبشر ويعلم أنه قد سُلِك به طريق الأنبياء والصالحين، تتكالب عليه الدنيا ويجتمع عليه المنافقون والكفار ويرمونه عن قوسٍ, واحدةٍ, فيزداد يقيناً أنه على الحق، تكاد تزهق روحه فيظلّ في طريقه باسماً لأنه يعلم أنه ليس محور الرسالة بل هو حامل لها مدافعٌ عنهاº فإن سقط هو أقام الله سواه، فالملة منصورة به أو بغيره. والعاقل من جعل لنفسه في هذه النصرة حظاً ونصيباًº فثباته محيِّر ووضوح عقيدته يبهر الأبصار. وإليك المثال:

 

الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ  يموت عمه وحاميه وكنفه ومؤويه أبو طالب، فتفرح قريش بذلك وتقول: من لمحمد بعد عمه وزوجه؟!، فتأخذ الحمية أبا لهبٍ, ويجعل من نفسه له بمكان من مات، فتندم قريش إلاّ أنها تمكر وتحتال وتطلب من أبي لهب أن يسأله عن مآل من بذل نفسه دونه: أفي الجنة هو أم في النار؟ فما كان ردّه عليه الصلاة والسلام؟! هل حار جواباً والتمس عن الردّ ملاذاً؟ هل باع عقيدته ليحافظ على مكتسبات المرحلة؟ كلا والله! فالأمر أمر دين وعقيدة، جدُّ لا هزل فيه وأمانةٌ لا بد من أدائها، مصيرٌ ينبغي أن يعلمه كل أحدٍ, حتى يحدّد موقفه، مبتدأه ومنتهاه.

 

الثلة الكريمة السابقون إلى الإيمان يشتدّ بهم الأذى فيهاجرون إلى الحبشة، ويدخلون في حمى النجاشي، فيؤمّنهم ويأبى أن يردّهم، فيأتيه عمرو بن العاص – وكان كافراً - بالقول الذي ظنّه سيستأصل شأفتهم: إنهم ليقولون في عيسى قولاً عظيماً! فيُستدعون ويعلمون أنهم بين الأمرّينº إمّا فقد الدين وتلبيس العقيدة، وإمّا أن يردّوا إلى مكة حيث فرّوا. فما تراهم فاعلين؟ أيلجؤون إلى فقه الاستضعاف، ويلتمسون المعاذير لأنفسهم؟ كلا بل يقول قائلهم: ما نقول فيه إلاّ ما قال الله ورسوله: هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

 

هذه المواقف تُهدى إلى المسلمين بعامة وإلى العاملين في حقل الدعوة خاصةً، إلى الذين يسعون لنيل رضا اليهود والنصارى فيستحون من قول: لا إله إلا الله، إلى دعاة الترقيع وتوحيد الرايات المتباينة، ألا فليعلموا أن الاتفاق على حساب العقيدة ما هو إلاّ وأدٌ لها وقتلٌ.. ونختم بقول أحد من أسلم حديثاً: \"على الذين يريدون الدعوة إلى الله أن يقدّموا الإسلام على حقيقته بدون أيّ تنازلات، لأن عرض الإسلام على حقيقته واجبٌ ويدلّ على إيمان الداعي بما يدعو إليه، وفي هذا قوةٌ يراها الآخرون بخلاف العكس\".

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply