من لي بأمثال هذا الداعية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

في قرية نائية من قرى مالي التقينا مع داعية من الدعاة يحدوه الهم لتعليم الناس وتبليغ الدين، قام من خلال جهد فردي بإنشاء إذاعة محلية في منزلة، هذه الإذاعة يُشغِّلها ويديرها ويقدم برامجها بنفسه، ولا تتجاوز تكلفتها بطارية بقيمة مائة دولار، ويبث من خلال هذه الإذاعة برامج تعليمية وأشرطة قرآن كريم على مدى ساعتين في الصباح، وساعتين في المساء، وحين يسافر يكون قد أعد مجموعة من الأشرطة الصوتية وأناب زوجته بتشغيلها فترة غيابه.

ويقبل أهل القرية على سماع هذه الإذاعة ومتابعة برامجها، ويتنظرونها ويتلهفون عليها بشغف.

إن هذا الداعية -الذي ربما لم يحمل تأهيلا جامعيا- ينتج بعمله هذا على المدى الطويل أضعاف ما ينتجه كثير ممن يملك أعلى المؤهلات.

كثيراً ما نقدم أفكاراً طموحة، ونتحدث عن مشروعات ضخمة، وكثيراً ما يبدو في حديثنا عن الأعمال والمشروعات تهميش الأفكار الجزئية والأعمال الصغيرة.

ومن هنا تعلو لدى بعض الناس وتيرة النقد، وكلما ارتبط النقد بالأكابر –أفراداً أو مؤسسات- صار أكثر شهية.

ومما لا شك فيه أن مشروعنا الدعوي يحتاج منا إلى أن نفكر بطريقة أعمق، وإلى أن نقدم برامج طموحة، وإلى أن نخضع مشروعاتنا للنقد والتقويم، وأننا نعاني من سطحية في التفكير ومحدودية في الآراء.

لكن هذا قد يدعونا إلى أن نغفل عن أمر له آخر ألا وهو الروح العملية والإنتاج.

فمع أهمية الأفكار الطموحة، ومع ضرورة معايشة تحديات الواقع، إلا أن ذلك كله ما لم يقرن بجهد عملي يبقى حبراً على ورق.

والناقدون للأعمال والعاملين ما لم يقدموا برامج عملية واقعية فإنهم لا يحققون أمراً ذا بال.

أينما رحلت في المشرق والمغرب ولقيت العديد من شباب الصحوة فأنت ترى فئات عديدة من الخيرين، وتسمع ما يسرك من الأفكار والآراء، لكن حين تنتقل إلى الواقع العملي وتبحث عما يقدمه هؤلاء فسترى أن العامل قليل.

وتزداد المشكلة حين يكون التحليق في جو الأفكار المثالية والمشروعات الطموحة وسيلة نفسية يمارسها أصحابها للهروب عن العمل المنتج، فحين تبدو أمامهم مجالات للعمل، وحين يدعون للمشاركة يحتقرون ما يدعون إليه، ولو أنهم انشغلوا عنه بما هو أولى وأجدى نفعا لكان مسلكهم محمودا، لكنهم إنما ينشغلون باجترار الكلام وترديد المقولات.

وأمثال هؤلاء ينبغي أن يذُكَّروا بقول الله - عز وجل-:  (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفعَلُونَ .كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفعَلُونَ) (الصف: 2-3).

وحري بالمربين والموجهين أن يُخرِّجوا جيلا يكون العمل أول ما يفكر فيه، ويدرك أنه إنما يسئل يوم القيامة عما قدم وعمل، وإنما يجزى على عمله إن خيرا فخير، وإن شراً فشر.

وهذا لن يتم إلا من خلال قدوات واقعية يرونها، ومن خلال فتح مجالات عمل يُشرك الناس فيها.

والاهتمام بالعمل لا يعني إهمال الفكر وإلغاءه، بل نحن بحاجة إلى ننفق المال من أجل الوصول إلى أفكار بناءة تختصر علينا الكثير من الخطوات.

لكن ينبغي أن ندرك أن قيمة هذه الأفكار إنما تظهر حين تكون خطوة نحو العمل الإيجابي، وإلا صارت علما لا ينفع، وقد استعاذ خير من ذلك الخلق صلى الله عليه وسلم.

كما ينبغي أن ندرك طاقات الناس وإمكاناتهم، وأن الداعية الناجح هو من يستطيع أن يدفع الناس لأن يعملوا ويقدموا ما يطيقون من جهد وعمل، وأن يتقي كل منهم ربه فيما يستطيع.

 

وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين .

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply