التجديد...سنة ماضية!


 

بسم الله الرحمن الرحيم


إن النفس الإنسانية بطبيعتها تملَ من الشيء المكرر، والتفاوت والإختلاف بين البشر صفة لصيقة بالنفس ولازمة. ولأن التركيبة النفسية قائمة على التنوع، فإننا نصادم الفطرة إذا تعاملنا معها بأسوب متماثل ونمطي وفن واحد لا يتعدد، لذا، كان لزاما على أهل الفكر والدعوة أن يجتهدوا في عرض الأفكار بصورة جديدة، وأن ينكب من ألهمه الله منهم في تجديد الوعي والفكر والسلوك.
مرَ علينا عقود من الزمن ونحن نجترَ الأفكار نفسها والخطاب نفسه ونورث الوسائل نفسها، حتى أصبحنا لا نرى العمل الإسلامي أو الإمامة على الناس توجيها وتأثيرا إلا مشهدا واحدا، وما إن حلت علينا وسيلة جديدة (من الغرب) كالشبكة العالمية (الانترنت) حتى ملأت على الأمة وقتها وفكرها وعقلها ونفسها، وهكذا دأبنا مع عالم الوسائل والتسخير، نغرق في وسيلة وجزئية معينة إلى الحد الذي نحجب فيه أنفسنا عن ميادين وقضايا واهتمامات أخرى. وما زلنا نعيش على وقع تجارب الماضي المكررة، فهذا لا يرى في مناهج التغيير إلا مذهب السيف، وذاك نصب نفسه ندَا للآخر، وارتأى طرف للانخراط في مشروع نظام الحكم، وأصبح يغشى مجال الناس بلسان غيره وعقل الحاكم..ونحن في هذا لم نأت بجديد، وإنما نكرر ما سبقنا إليه الجيل الذي قبلنا وهكذا.. ومن فرط الإجترار والتماثل، أصبح الواحد منا يحاكي بسهولة ودون عناء أسلوب هذا الداعية وذاك المفكر أو المصلح أو ذاك الغاضب الناقم أو هذه التجربة، حتى الكتابات والمحاضرات والأحاديث إنما هي نسخة واحدة يتكرر طبعها بتنقيحات مغايرة...وهذا مؤشر على نوع من الجمود الذي ارتضيناه لأنفسنا خوفا من المستقبل، أو درءا للمخاطرة، أو طلبا للسلامة أو العافية، أو تنفيسا عن مشاعر وحالات الإحباط. نعم إن ميزة السياسة الإسلامية (أيا كان نزعها، فكرية، تربوية، سياسية..) أنها توجب على القادر أن يتصدى للإمامة إن لم يسد أحد مَسَدَه، وهذا منصوص عليه في كتب السياسة الشرعية، لكن الإشكال في المحاكاة والتماثل وندرة التجديد.
وأذكر أنه في بداية التحصيل والطلب، نُدرس مناهج التغيير ورواد الإصلاح والنهضة في العالم الإسلامي، وطُبع في أذهاننا مقولات ظلت تتكرر ويتناقلها الخلق بل وتتيناها تجارب ومؤسسات وجماعات إلى يوم الناس هذا، فكان يُقال لنا مثلا:\"رواد النهضة الإصلاحية انقسموا على أنفسهم، فالشيخ محمد بن عبد الوهاب ركز على الإصلاح العقدي وتحالف مع الساسة لتأسيس دولة، فالحق لا بد له من قوة ناصرة، والأفغاني تبنى التغيير من الأعلى أي الحاكم وطالب بأسلمة مؤسسة الحكم، وتلميذه محمد عبده خالف شيخه وتبنى منهج الإصلاح التربوي، ومالك ابن نبي راهن على إصلاح العقل المسلم وتحدث عن شروط النهضة، والمودودي خاض في مسائل الحاكمية والبنا تطلع إلى التغيير الشامل...\"، و توارث الناس جيلا بعد جيل هذه المقولات، والذي أضاف شيئا لم يخرج عن كونه راجع بعض مفردات هذه المقولة ونقض بعضها ولم يسلم بالبعض الآخر، وساق حججا فكرية واعتبارات تاريخية. وكأن الفكر الإسلامي أو العطاء في مجالات التغيير والإصلاح توقف عند حدود تجارب بشرية معينة لم يتجاوزها، وحدد له سقفا. وناقشت مرة المفكر الأديب د.محمد الأحمري عن إشكالية الإرتباط والإمتداد في العمل الإسلامي، وذكرت مجلة المنار الجديد مثالا، وأن عنوانها يوحي ظاهريا بأنها امتداد لمجلة المنار للشيخ محمد رشيد رضا، فمما جاء في رده، أن الارتباط أصبح عقدة وقيدا، يعيق حركة الإبداع والتجديد، والإمتداد قد يحملك ما لا تتحمله من أخطاء السابقين واجتهاداتهم التي لا تلزمك ولا تقرها أصلا، وهذا صحيح إلى حد كبير.
إن الذي نعانيه ونشكر منه اليوم، هو صدى لعصور الإنحطاط وصورة من صور جمود الفكر على أنماط وقوالب معينة. نعم ثمة يقضة في الشعور والوعي والتلاحم لا نخطئها العين، لكن من المهم أن تصاحبها يقظة فكرية تخرجنا من أسر التماثل والنمطية. إن المتابع –مثلا- للتجربة الإسلامية الجزائرية في العقد الأخير، وخاصة ثنائية منطق المغالبة والمطالبة (بقيادة الشيخ علي بن حاج) ويقابله الإرتباط والإنخراط في مشرع السلطة (بزعامة الأستاذ محفوظ نحناح)، يجد صدى هذه الثنائية في بلدان أخرى، وخاصة في بلاد الجزيرة، فكأن الخيار الأول يستلزم بروز الثاني وهكذا، أو كما عبر عنها أحد المتابعين للجهاد الأفغاني، لكل بلد قلب الدين حكمتيار وبرهان الدين رباني، ولعل هذا جزء من حركة التاريخ، فالإرجاء إنما هو رد فعل على ظهور الخوارج، وهذا التقابل هو انعكاس -إلى حد كبير- لحالات نفسية، فالنفس البشرية تتجاذبها نوازع وميولات، وتأتي مهمة المفكر والمصلح والعالم التجديدية لمحاولة الخروج من ضيق هذه الثنائية، وصولا ما أمكن إلى حالة من الإتزان الفكري والسياسي والعلمي. ولا نعني بالتجديد، الإتيان بالضرورة بالجديد، أبدا، فالتجديد معاني ودلالات ومستويات، وهو شعب متعددة. المهم أن لا نجمد على نمط معين في التفكير والحراك.
ولهذا، لا غرابة أن تجد مجتمعا برمته تسلل إليه الملل والضجر، فإلى جانب كون التماثل أوالتكرار أصبح صفة لازمة في الحكام عندنا، فهو متداول بشكل واسع في الأوساط الإسلامية على اختلاف توجهاتها، فاالذي عاشه الجزائريون من عشر سنوات تجده يتكرر (مع بعض الاختلاف) في السعودية اليوم، الثنائية نفسها حطت رحالها في أرض الجزيرة ( وإن كانت لاحت هناك بوادر وملامح لتجاوز هذه الثتائية)، فما الذي يمكن أن يتنازل عنه أصحاب الانخراط في مشروع السلطة أكثر مما تنازل عنه الراحل الشيخ محفوظ نحناح، وما الذي يمكن أن يضيفه أصحاب منطق المغالبة والمنازعة أكثر مما طالب به وفعله الشيخ علي بن حاج. ويبدو أن حكمتيار ورباني اللذان أشغلا الساحة لسنوات بخلافاتهما وخياراتهما، عادا مجددا في أشكال مغايرة نسبيا ليشغلا الساحة لفترة. والمطلوب بصفة استعجالية، هو الخروج من أقبية التماثل والتكرار الممل، فهذه حاجة نفسية قبل أن يقرها واقع أو تصدقها شواهد، وأن نمنح لجمهور المسلمين فسحة أوسع للإختيار والنظر.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply