لماذا أصبح الانتساب للإسلام جرماً في ديار الغرب؟


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

عانت الأمة الإسلامية كثيراً ولا تزال تعاني من سوء عرض رسالتها وحضارتها على الآخر، وأدى ذلك ـ في معظم الأحيان ـ إلى سوء فهم الآخر للإسلام ورسالته، وإعاقة كل وسيلة لتحقيق أي اتصال حضاري بين الأمة الإسلامية وغيرها من الأمم، ويحرص كثير من المفكرين والساسة الغربيون والشرقيون إلى وصم الإسلام والمسلمين بكل نقيصة، وأصبح الانتساب للإسلام يمثل جرماً في كثير من عواصم الغرب وخصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر العام 2001م·
ويرجع ذلك إلى عوامل عدة منها: وقوف أجهزة إعلام معينة، ومراكز استشراق، ودوائر رسمية في بعض أجهزة الحكم الغربية يغلب عليها الحقد والتعصب ضد الإسلام والمسلمين خلف هذه الحملات، فيصورون الإسلام للغرب تصويراً منفراً، مثل: الإسلام دين العنف، والجهل، والمراوغة، ودين الجواري والعبيد، ودين الرجل ضد المرأة، وأن المسلمين يعبدون القمر، ويقدسون الحجر، ويؤلهون الخرافة··· ولم يقف ذلك عند ما تردده وسائل الإعلام، بل تحول هذا الكيد والتضليل إلى مناهج مدرسية كما حدث أخيراً في فرنسا، التي تعمَّد واضعو الكتب المدرسية فيها إخفاء معالم الحضارة الإسلامية الزمانية والمكانية، وأظهروها على أنها لا تأثير لها، ونحّوها من أصالتها وعدالتها··· فالحضارة الإسلامية عندهم، هي التسلط العربي الأول، وهي الرفاهية والبذخ والجمال السحري في حدائق وقصور بغداد، وهي صراع الأمراء في الأندلس، وهي تعدد الزوجات، وتبرير الفقر، وهي الماضي والحروب والدماء، وأن الإسلام دين مسخ ابتكره محمد الذي ادَّعى أنه نبي، وأن الحروب الصليبية ما كانت إلا رد فعل معاكس ضد العدوان والنهب والسلب··· الذي كان يقوم به المسلمون في تسابق ومرح·(1)
وقد تم انتحال مصطلح <إسلاموفوبيا> Islamophobia منذ عقدين من الزمان، والذي يعني الفزع من الإسلام أو كرهه أو الخوف من المسلمين أو كرههم·
وهذه الصورة التي رسمتها وسائل الإعلام الغربية لشعوبها، وأقنعتها بها ليس لها من الحقيقة الشرعية أو التاريخية أو الواقعية نصيب، فالإسلام الذي يدين به مليار وربع المليار نسمة في العالم يظل بالرغم من ذلك مجهولاً كثيراً حتى هذه الساعة لدى الغربيين، ويصور على أنه دائم التناحر مع كل ما يحيط به ومع الغربيين خصوصاً رغم أنه قريب منهم جغرافياً وتاريخياً، وكانت معظم شعوب الدول الإسلامية مستعمرة من قِبَلِ الدول الأوروبية وذلك إضافة إلى تمثل الغرب ربما حتى بعض القيم والمفاهيم الإنسانية المشتركة، إلى جانب أن تقدير عدد المسلمين في بعض الدول الأوروبية يتراوح بين 4 ـ 5 ملايين نسمة في فرنسا، ويصل إلى 3 ملايين في ألمانيا، وأكثر من مليونين في بريطانيا، ونحو نصف المليون في السويد، وكذلك الرقم عينه في كل من بلجيكا وهولندا وإيطاليا وسويسرا، كما توجد جاليات مسلمة كبيرة تصل إلى أكثر من ربع مليون في كل من النرويج، وفلندا، والدانمارك، وأسبانيا، واليونان، ويجري الحديث في أميركا عن 6 ملايين مسلم، وكلما وقع حادث في أي دولة اهتزت أكثر صورة الإسلام لدى الغرب، وتتبارى الصحف الغربية في تشويه متعمد للإسلام والمسلمين، فقد نشرت صحيفة <توداي> البريطانية على صفحتها الأولى في اليوم الثاني من انفجار أوكلاهوما المروّع العام 1996م صورة تمزق الفؤاد لأحد رجال الإطفاء الأميركيين وهو يحمل طفلاً ميتاً من تحت الأنقاض وكتبت الصحيفة تحت الصورة <باسم الإسلام> لتستقر تلك الصورة في ذهن القارئ، مترسخة ولم تفسر الصحيفة رفضها الاعتذار حتى عندما اكتشفت بسرعة أن المنفذين لذلك الانفجار لم يكونوا مسلمين، وعانى المسلمون جراء ذلك الحادث معاناة شديدة، وسبب ذلك هو شبهة تعميم تورطهم في حوادث الإرهاب، وما استقر لدى عامة الغربيين عن تحميل المسلمين مسؤولية العنف في العالم، كشف حادث حادثة <أوكلاهوما> في الوقت عينه الأخطار الحقيقية التي يتعرض لها المسلمون بسبب هذه الشبهة، ولو لم يتم إلقاء القبض على الجاني خلال فترة زمنية قصيرة لدفع المسلمون ثمناً باهظاً مضاعفاً لهذه الشبهة، وقد دفعوه غالياً وفادحاً في التفجيرات الأخيرة التي هزَّت واشنطن، ونيويورك!!(2)·
ومنها: إساءة بعض المسلمين إلى دينهم بجهلهم بالإسلام وأحكامه، سواء في داخل الدول الإسلامية أو خارجها، وللأسف تتبنى جهات غربية هذه الأصوات وتسبغ عليها الحماية القانونية، وتفتح لها أجهزة إعلامها فيصورون الأمور على غير وجهها فيسيئون من حيث يريدون أن يحسنوا، وقد تكون هذه الإساءة سلوكاً، أو دعاية، أو كتابة، وغالباً ما يقدم هؤلاء على أنهم المسلمون، ويستشهد بأفعالهم هذه على ما يُراد لصقه بالإسلام، ومن هنا تغيب مفاهيم الإسلام وتصوراته الصحيحة عن الآخرين، وأدى هذا إلى لصق كل نقيصة وكل عيب بالمسلمين حتى ولو كانوا ضحايا، وأي حادث في أي بلد من بلدان العالم يصورونه على أن وراءه المسلمين إلى أن يثبت العكس، حتى ولو ثبت العكس فالمسلمون مدانون أيضاً·
ومنها: قصور الخطاب العربي والإسلامي وعدم نجاحه في مخاطبة الغرب، حتى تم تصوير الإسلام كما يريد المتعصبون والحقودون فيه، أو الجاهلون منَّا·(3)
وهذا القصور أتصوره في الخطاب الإعلامي بصوره المختلفة، وفي خطاب الدعاة، وفي المنتديات والحوارات، وأشد مما تقدم في الخطاب الدبلوماسي للدول العربية والإسلامية، حيث لم تحرص الدبلوماسية الإسلامية ـ غالباً ـ على القيام بدورها المنوط بها في هذا المجال، مع أننا نمتلك نحو ستين بعثة دبلوماسية موجودة كثير من الدول، في الوقت الذي نجد فيه دبلوماسية غيرنا تقوم بحملات تحسينية لصورتها بعد كل أزمة تقع فيها دولتها وتنجح في ذلك وهي بعثة واحدة، مع ثبوت جرائم القتل والتشريد والترويع والسلب للأبرياء والآمنين·
ولا يقع القصور ـ فيما أتصوره ـ على الدبلوماسية الدائمة المحترفة وفقط، وإنما على كل أشكالها وصورها·
وقد أدى تصوير العرب والمسلمين بهذه الصورة إلى وجود فجوة بين الغرب والشرق، وتزداد القطيعة كل يوم عن الآخر، حتى صور الأمر على أن صراعاً بين الحضارات لابد أن يحدث، وآخر يكتب مقالاً لصحيفته عن الأزمة الأخيرة يقول فيه: <هذه الحرب ليست على الإرهاب وإنما عل الإسلام>(4)·
وأمام هذه الفجوة وتلك الهوة السحيقة التي حدثت بين الإسلام وغيره من الشرائع والقوميات يبرز تساؤل: أين دور الدبلوماسية الإسلامية الموجوة في كل بلد ومدينة غربية والتي تمتلك أكثر من ستين بعثة دبلوماسية في التعريف الصحيح برسالة الإسلام الحضارية والأخلاقية؟
وسبب هذا التساؤل هو أن مهمة الدبلوماسية بجميع أشكالها وفق ما تقتضيه الأعراف الدولية، والمعاهدات المنظمة لها أنها أداة الاتصال بين الدول، حيث تعمل على تقريب وجهتي نظر الدولتين في المسائل التي تهمها، أو إحداث تقارب بين أفراد المجتمع الدولي في القضايا التي تهم الجميع في حال المنظمات الدولية·(5)
من خلال استقراء ما تقوم به البعثات الدبلوماسية المختلفة تجاه مصالح بلادها، فإنه يتعين على الدبلوماسية الإسلامية أن تقوم بدورها في التعريف الكامل والصحيح برسالة الإسلام الحضارية والأخلاقية، وهذا جزء من مهمتها الدبلوماسية إن لم تكن الجزء الأكبر والأساسي، ويقع على عاتقها القيام بما يلي:
أولاً: اعتبار هذا الواجب جزءاً من رسالة الدبلوماسية الإسلامية·
كثيراً ما تعني الدبلوماسية بالعلاقات الثنائية، والعمل على تحقيق المصالح المادية، متغافلة هذا الواجب، مع أن الواقع يثبت أن صورة الإسلام والمسلمين المغلوطة تمثل عائقاً قوياً في سبيل توثيق العلاقات، وتبادل المنافع والمصالح بين الدول، حيث تؤثر على الاستثمارات الأجنبية، وعلى السياحة، وعلى المؤازرة في المحافل الدولية، وغير ذلك من الخسائر الجمة المترتبة على هذا التضليل·
وربما تظن الدبلوماسية أن هذا الواجب ليس من اختصاصها، وإنما هو واجب العلماء الشرعيين والدعاة والوزارات المعنية بذلك، وهذا صحيح في جملته، وعلى الدبلوماسية أن تستعين بهؤلاء الدعاة والعلماء لتوضيح الأمور، لكن يبقى على الدبلوماسية العبء الأكبر في رصد هذه الظاهرة، ومعرفة أسبابها، ومن يقف خلفها، وتكوين الرؤية الصحيحة لمواجهتها، ودحضها، فضلاً عن أنها معنية بإزالة كل ما يعيق توثيق العلاقات، وهذا مما يعيقها فعلاً·
ثانياً: مناقشة الشهبات مع أصحابها، ومحاولة دحضها وردها·
لا يكفي أن تعرف الدبلوماسية أن هذا الواجب من اختصاصاتها، ومن صميم عملها، بل عليها أن تقوم بجهود عملية لمناقشة هذه الشبهات وردها، ومواجهة أصحابها بالوسائل والطرق المناسبة، ولا يكون ذلك بالبيانات الصحفية، أو لقاءات المجاملة الدبلوماسية، وإنما تفنيد ومناقشة تدحض هذا الباطل وتدفعه، باستخدام كل الوسائل المتاحة دبلوماسياً ونظامياً، والتغلب على كل العوائق التي تحول دون ذلك·
إن حرب التشويه والتضليل هي حرب قديمة ولم تكن بأقل ضراوة من الحرب العسكرية، وقد واجهها المسلمون في صدر الإسلام، ودخلوا في مواجهة دبلوماسية وفكرية مع الخصوم انتهت إلى تجلية الحقيقة، ودحض الشبهات، وبمطالعة أول مواجهة دبلوماسية بين المسلمين وقريش خارج مكة على أرض الحبشة يتبين لنا كيف استطاع الدبلوماسي المسلم توصيل رسالته، والتعريف الكامل والصحيح بدعوته، وفضح الباطل وتعريته·
فبعد هجرة المسلمين إلى الحبشة، دفعت قريش بداهيتين من دهاتها للحاق بالمسلمين هناك والتأثير على القيادة السياسية بالهدايا، والمنطق، والوقيعة، ليسلموا لهم المسلمين وحاولوا إقناع البطارقة أولاً ثم توجهوا بعد ذلك إلى الملك، وكان مما قالاه: <أيها الملك إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم، لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه>·
وقالت البطارقة: صدقاً أيها الملك فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم·
لكن النجاشي رأى أن يستمع إلى الطرف الآخر المسلم، ودعا وفدهم الذين أجمعوا على الصدق كائناً ما كان، فقال لهم النجاشي: ما هذا الذي فارقتم فيه قومكم، ولن تدخلوا به في ديني، ولا دين أحد من الملل؟
فقال جعفر ـ وكان هو المتكلم عن المسلمين ـ: <أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء إلى الجوار، ويأكل القوي منَّا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منَّا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ـ فعدد عليه أمور الإسلام ـ فصدقنه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله، فعبدنا الله فلم نشرك به شيئاً، وحرَّمنا ما حرَّم علينا، وأحللنا ما أحلَّ لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك>·
فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه عليَّ، فقرأ عليه صدراً من سورة مريم، فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون·
ولم يستسلم وفد قريش لهذه الهزيمة، ولكنهما كادا للمسلمين مرة ثانية، فجاءا إلى الملك في اليوم التالي لمحاولة الوقيعة: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً، فأرسل النجاشي إلى المسلمين، فأجاب جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، هو عبدالله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فأخذ النجاشي عوداً من الأرض، ثم قال: والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود···
ثم قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي <أي آمنون···>(6)·
إن هذه المواجهة توقفنا على حقائق أظنها غائبة في الخطاب العربي والإسلامي للغرب، ولنلاحظ التركيز في حديث جعفر على خطاب التوحيد والأخلاق والجانب الحضاري في الإسلام، وفضح للجاهلية وممارستها·
إن أسلوب الخطاب، وموضوعه جديران بالنظر والمدارسة والتأمل·
كما نجد النبي صلى الله عليه وسلم في مخاطبته للملوك والأمراء، يضمن رسالته تلك الآيات القرآنية التي تظهر العطف والرحمة، واستنقاذهم مما هم فيه، مع مراعاة تقديرهم والاعتراف بهم: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) آل عمران:64(7)·
وقد أشار القرآن الكريم إلى حديث آخر ينادي به غير المسلمين، ويعرفهم حقيقة هذا الدين الذي يدعوهم إليه: (قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون· ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلى وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون· وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلك وصاكم به لعلكم تتقون) الأنعام:151 ـ 351·
كماتضمن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة صوراً من الحوار والمناقشة مع الآخر نوقشت فيها شهبات القوم، ووضح فيه حقيقة الدين الإسلامي وما يدعو إليه·
وعلى الدبلوماسية أن تراعي الوسيلة المناسبة لمناقشة الشبهات مع أصحابها، فقد يكون ذلك عن طريق المحاضرات، أو المقالات الصحفية والأحاديث التلفازية، أو إنشاء مراكز بحثية وعلمية تعني بهذاالغرض، أو الإشراف على منح درسية، مواقع على شبكة الإنرتنت، وليكن طريقة الخطاب مناسبة وملائمة، فكثير هي المقالات والكتب التي تترجم من العربية إلى لغات أخرى بهدف مخاطبة الغرب، ولكنها في الحقيقة صيغت وأُلِّفت لمخاطبة العقل العربي المسلم، ويكتفى بالترجمة فقط، فلا يكون لها أثر عملي في إزالة شبهة، أو تصحيح صورة، فالواجب يقتضي دراسة مفصلة نفسية وسلوكية واجتماعية ومعرفة ما يدور في أذهانهم، وتحديد حاجاتهم بدقة، ثم تلبيتها بعد ذلك بالصور الملائمة·
نعم أقيمت ندوات وعقدت مؤتمرات كثيرة تهدف إلى تحسين صورة الإسلام والمسلمين في أعين الغرب، لكنها في الحقيقة ندوات متعجلة كرد فعل للأحداث، وموضوعها الاعتذار عن أفعال لم يرتكبها المسلمون، بل الاعتذار من بعضهم عن بعض المبادئ الشرعية التي لا تعجب الغرب، وهذا في الحقيقة خطأ وخطر عظيمين، فنحن في حاجة إلى أسلوب جديد في التعريف بالإسلام ودحض الشبهات يقوم على الاعتزاز بالإسلام عقيدة وشريعة، ويوضح مؤهلات الإسلام للعالمية والقيادة، في الوقت الذي يفضح فيه الجاهلية المعاصرة وممارساتها الشاذة والمنحرفة عن أي منطق أو عقل أو شرع·
ثالثاً: تبني وتشجيع أسلوب الحوار مع الآخرين·
الحوار أسلوب من أساليب الدعوة إلى الإسلام، والتعريف به، وسجلت آيات القرآن الكريم والسنَّة النبوية المطهرة وقائع حوارية مع غير المسلمين، وهناك آيات أخرى تضمنت دعوة الآخرين إلى الحوار المشترك·
وفي الفترة الأخيرة كثر الحديث عن الحوار بين الحضارات في رد واضح لنظرية صراع الحضارات التي يتبناها عدد من مفكري الغرب، وقد أطلق الرئيس الإيراني خاتمي نظرية حوار الحضارات في سبتمبر العام 1997م، خلال كلمة ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وقد لقيت الفكرة قبولاً، وعليه حدد العام 2001م على أن يكون عام حوار الحضارات ليكون الحوار معياراً للعلاقات الدولية·
وعقد من أجل ذلك مؤتمرات كثيرة منها: المؤتمر الثاني لحوار الحضارات الذي تم في طهران في نوفمبر العام 2000م وحضره ممثلو الحضارات الأربع القديمة مصر، وإيران، واليونان، وإيطاليا·
وقبل ذلك أبدت منظمة المؤتمر الإسلامي اهتماماً بهذا الشأن، فمنذ العام 1997م تدعو المنظمة إلى إجراء حوار بين الإسلام والغرب، ونصت في ميثاقها على أن أهدافها الأساسية هو إيجاد المناخ الملائم لتعزيز التعاون والتفاهم الدوليين· وأكدت أن الحضارة الإسلامية تقوم بشكل ثابت عبر التاريخ على التعايش السلمي والتعاون والتفاهم المتبادل بين الحضارات، وكذلك على التحاور البنَّاء مع الديانات والأفكار الأخرى·
وأخيراً افتتحت الجامعة العربية مؤتمراً لحوار الحضارات في الرابع والعشرين من نوفمبر العام 2001م كما توجد محاولات متعددة للحوار بين الأديان منذ سنين عديدة، بعضها رسمي وبعضها مطروح من شخصيات وقيادات علمية ودينية مستقلة·(8)
وبالنظر إلى هذا الكم الهائل من المؤتمرات والحلقات والمقابلات، إلا أن أثر هذه الحوارات يكاد يكون معدوماً حتى وصف بعضهم حوار المسلمين والمسيحيين بأن هذا الحوار قد شاخ، لأنهم من أربعين سنة يتحاورون ولا أثر، ومازالت الهوة تتسع يوماً بعد يوم، ومازالت العقلية الغربية متمسكة بموروثاتها العقدية والفكرية عن الإسلام والمسلمين·(9)
ويرجع ذلك ـ من وجهة نظري ـ إلى أمور عدة:
ـ منها: لا يصدق على كثير من هذه المحاولات مسمى الحوار بالمعنى الاصطلاحي لحوار الأديان، أو حوار الحضارات، فالحوار الحقيقي هو البحث عن معرفة واكتشاف الآخر وبلورة رؤية واضحة غير نمطية إزاءه من دون اللجوء إلى إصدار أحكام مسبقة متحيزة ضده، أما ما نشاهده من حوارات فيغلب عليها طابع مقارنة الأديان أو المساجلات الفكرية، والسعي إلى إثبات تفوق وتميز طرف على آخر، أو طغيان الناحية الإعلامية حيث يثبت كل طرف للرأي العام أنه يتحاور وفقط·
منها: فرض أحد أطراف الحوار رؤيته وأجندته على الآخرين مستغلاً تمويله أو موقعه، والواقع أن الحوار بين أي طرفين لا ينفع إلا إذا كانت أطرافه متماثلة، أما هذا الحوار الأعور بين طرف تابع وطرف متبوع فلا يكون حواراً وإنما فرض رؤى وسياسات لا يملك الطرف الضعيف إلا أن ينفد، وليس هناك رغبة في التعرف إلى الآخر واكتشافه·
منها ـ يغلب على كثير من المؤتمرات هذه تحصيل مكاسب سياسية يفرضها الطرف الأقوى كمحاولة دمج إسرائيل في المجتمع العربي والإسلامي مع قيامها باحتلال الأرض، وانتهاك حقوق الإنسان الفلسطيني، كما يستغلها دعاة الماسونية وما يسمى بوحدة الأديان، وإنشاء دين رابع ملفق من الأديان الموجودة·
منها: سيطرة المؤسسات الرسمية الدينية على هذه المؤتمرات، وتنحية القيادات والشخصيات المؤثرة فكرياً واجتماعياً، وغالباً ما تتأثر القيادات الدينية بالرؤى السياسية لدولهم مما يخرج بموضوع الحوار، ويجعله أقرب إلى تظاهرة سياسية، يغلب عليها المجاملة·
منها: اقتصار الحوار على النخبة الفكرية الدينية والسياسية دون إشراك كل القطاعات الفاعلة في المجتمعات، أو الوصول إلى الفرد العادي في المجتمعات، وبالتالي مهما انتهت هذه المؤتمرات إلى نتائج فلن يتأثر بها الأفراد·
منها: عدم وجود تكتل إسلامي في الحوار أمام التكتل الأوروبي، أو الأطلسي، فتواجه الدول الإسلامية هذه التكتلات وهي متشرذمة متفرقة، فيجب أن يكون المسلمون متساوين مع منافسيهم ويشكلون تكتلاً إسلامياً موحداً في مواجهة التكتلات العالمية، وما لم يدرك المسلمون سبيل الوحدة الإسلامية فلن يكون لديهم أمل في الندية والمساواة مع الآخر·
منها: يغلب على المحاور العربي والمسلم الشعور بالخذلان والضعف، والهزيمة النفسية، وإحساس بالنقص أمام الحضارة الأوروبية والغربية الزاهية في مقابل الواقع العربي والإسلامي الموجود، حتى نحت كثير من الدول الإسلامية إلى إحياء حضارات بائدة، واستخدام رموزها في المؤسسات وغيرها، ولا تحرص على هويتها الإسلامية·
منها: واقع الدول العربية والإسلامية من التخلف الحضاري والسياسي العلمي والذي يكرس نظرة الغرب للأمة وتأكيد مقولات المستشرقين ووسائل الإعلام المعادية، وما لم يصاحب الحوار محاولات جادة من قبل الأمة لتصحيح مسارها فلن يجدي الحديث عن القيم والأخلاق·
منها: سيطرة اتجاهات معادية وحقودة على الإسلام والمسلمين في وسائل الإعلام الغربية، ومراكز اتخاذ القرار وصنعه، بحيث تحبط أي محاولة جادة للتقريب، وتصحيح الصورة·
ولذلك إذا أردنا حواراً منتجاً فعالاً فيجب تلافي هذه العيوب أولاً، وعندها يكون فعلاً أداة تفاهم وتعايش ويحل محل الصدام والنزاع·(10)
رابعاً: معرفة الطريق إلى الشعوب، وتقديم الخطاب المناسب لها مباشرة·
كثيراً ما تعني الدبلوماسية بالحديث مع النخبة السياسية والفكرية، دون أن تجتهد في وصول خطابها للقطاعات الفاعلة في المجتمع، كالجامعات، والمراكز العلمية، والإعلام وغير ذلك، ومن هنا فأي حديث عن تصحيح صورة الإسلام والمسلمين يذهب هباء·
والواجب محاولة التخاطب مع الشعوب مباشرة حسب الطرق الدبلوماسية المتاحة والمناسبة، وهي أكثر من أن تحصى، وبالنظر إلى الدبلوماسية الغربية وما تفعله في بلادنا، نجد أن المراكز الثقافية التابعة لها تعج بالنشاط من محاضرات ومؤتمرات، ومراكز تعليم لغة، ومكتبات، وتمويل بحوث، ومنح دراسية، وإصدار صحف، ومشاركة في مناسبات اجتماعية وغير ذلك، وهذا الواجب على دبلوماسيتنا أن تفعله·
خامساً: عمل برامج تصحيحية عن الإسلام والمسلمين لزائري البلاد الإسلامية، من السياح والدارسين وغيرهم·
غالباً ما تحرص وزارات السياحة على تزويد السائح بالمعالم الحضارية والجغرافية والتاريخية للبلاد، وتيسر جميع وسائل الراحة والترفيه المباح منه وغير المباح، ويغيب عنها التعرف إليه وإلى ما يلتصق في ذهنه من صورة لتلك البلد، ولذا فالواجب يقتضي عمل برامج تعريفية وتصحيحية، وتوضيح الرؤية لدى هؤلاء سواء من قبل سفاراتنا في الخارج، أو بإنشاء جهة في الداخل يناط بها هذا الأمر·
سادساً: التواصل مع المراكز البحثية المعنية بالدراسات الإسلامية في الغرب،
فالغرب يعج بمئات المراكز العلمية المعنية بالدراسات الإسلامية، التي يشرف عليها مستشرقون بعضهم يتسم بالتجرد والموضوعية، وآخرون، وهم كثر، يغلب عليهم التعصب والتحيز، وعلى الدبلوماسية التواصل مع هذه المراكز، والعمل على تصحيح الأخطاء، ورد التشويه المتعمد، وتقديم الصورة الصحيحة·
سابعاً: تعيين ملحق دبلوماسي شرعي في سفاراتنا في الخارج،
يجمع بين القدرات الدبلوماسية في الخطاب والحوار وبين العلم الشرعي الذي يؤهله لتفنيد الشبهات وردها·
ثامناً: الإشراف والتواصل مع الجاليات الإسلامية الموجودة في بلاد الغرب من طلاب وغيرهم وتحصينهم من هذا التشويه ليكونوا صورة صحيحة معبرة عن الإسلام والمسلمين،
وحتى لا يشوّهوا صورة الإسلام بسلوكياتهم وأخطائهم الفردية، وحتى لا يقعوا فريسة لبعض المستشرقين، ووسائل الإعلام وغيرها فيكونوا أداة هدم وتشويه من الداخل·
والله أسأل أن يوفق الجميع للخير ويهديهم سبل الرشاد، ويرد اليد العادية عن الإسلام والمسلمين، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير·

الهوامش
1 ـ د·محمد أبوليلة ـ أستاذ الدراسات الإسلامية باللغة الإنجلزية في حوار مجلة المجتمع الكويتية عدد 1467·
2 ـ د·غانم جواد في ورقته التي قدمها للمؤتمر العربي التحضيري في مؤتمر الأمم المتحدة الثالث ضد العنصرية وكراهية الجانب الذي انعقد في <ديربان> بجنوب أفريقيا خلال العام قبل الماضي، وكان عنوانها: <صورة الإسلام في الإعلام العربي من أوكلاهوما إلى محمد الدرة ـ بريطانيا، نموذجاً> موقع islam to day·
3 ـ د·مصطفى الفقي في ندوة الأهرام عن <نحو عالم متعدد الأطراف قائم على العدالة والإنصاف> في 26/10/2001م·
4 ـ ديفيد سيلبورن في مقاله لصنداي تليغراف في 7/10/2001م، ترجمة تركي الزميلي، islam to day·
5 ـ علي صادق أبوهيف ـ القانون الدولي العام ـ 491 ـ منشأة المعارف ـ إسكندرية·
6 ـ ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ 3/66 ـ المعارف ـ بيروت·
7 ـ ابن كثير ـ مرجع سابق ـ 4/262 وما بعدها·
8 ـ تقرير مجلة المجتمع الكويتية عنوانه: <بين الصدام والحوار ـ الحضارات في عصر العولمة، عدد 1442 في 29/8/1422، حوار ماهر عبدالله مع الشيخ يوسف القرضاوي، في برنامج قناة الجزيرة <الشريعة والحياة> عن حوار الأديان في 6/11/2001م·
9 ـ يراجع في ذلك: حوار الشيخ يوسف القرضاوي، المشار إليه من قبل·
10 ـ يراجع في ذلك: حسني تمام ـ باحث وصحفي مصري ـ في مقالته <حوارات الأديان ضرورة إنسانية أم مؤامرة عالمية ـ islam on line، حوار الأديان ـ خطابات متعددة بالموقع عينه

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply