عملية صناعة المنهج المدرسي الحديث عملية بناء و تقييم لا نهائية


بسم الله الرحمن الرحيم

 

توطئه:

لا يخفى على أحد هذه القفزات الخرافية المتسارعة التي تشهدها حضارات الأرض اليوم في كافة جوانبها السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و التقنيه…إلخ. ولعل البعد التربوي/التعليمي يعد أحد أهم هذه الجوانب بل لا نبالغ كثيرا إذا ما قلنا أنه العنصر الأس الفاعل في كل تلك الدوائر التي تتشكل منها أي حضارة وذلك على اعتبار أن التربية هي \"عملية إعداد مستمر لإفراد المجتمع للحياة\". إن هذا الإعداد الذي تتولاه مؤسسات المجتمع التعليمية و التربوية المختلفة للنهوض بالفرد وتهيئته للقيام بأعباء متطلبات الارتقاء بالحضارة يحتاج إلى \"منهج\" يكون متوائم مع \"خصوصية\" و مسلمات ذلك المجتمع ومتماشيا في الوقت عينه مع ظروف العصر المتغيرة أبد الدهر بما تمليه عليها سنن الله في الكون. وهذا ما سنحاول في الأسطر القادمة أن نسلط الضوء أو بعضه عليه.

 

المنهج قديما وحديثا:

يعود الاهتمام بالمنهج المدرسي إلى أيام الإغريق حيث لفت الفيلسوف اليوناني\"أفلاطون\" PLATO في حوالي القرن الرابع قبل الميلاد الأنظار إلى أهمية وجود \"منهج\" يمكن استخدامه كمسلك أو طريقه لإعداد أفراد مجتمعه \"الطبقي\" \"المثالي\" الذي لم يرى النور للحظة!، كذلك أولى \"كومينيوس\" في القرن السابع عشر الميلادي و \"فرويبل\" في القرن التاسع عشر المنهجَ و مشاكله قدرا طيبا من الدرس و المناقشة. و في القرن العشرين بدأت تتضح ملامح ظهور المنهج كعلم مستقل له علماؤه و منظريه حيث شرعت الكثير من كبريات مؤسسات التعليم العالي في الغرب عموما و في الولايات المتحدة خصوصا في افتتاح فروع في كليات و أحيانا كليات خاصة بالمنهج و طرق التدريس. بل إن لجانا و جمعيات أسست على مستوى الولايات المتحدة لهذا الغرض، \"كرابطة تطوير المناهج والإشراف عليها\" مثلا لا حصرا و التي تعد الملتقى المهني للمهتمين بالمناهج على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية. وخلال السنوات الأخيرة حذت جامعاتنا المحلية و العربية حذوهم في إنشاء أقسام وأحيانا كليات مستقلة للمنهاج و طرق التدريس. والحقيقة أن هذا الاهتمام المتزايد و التطور المستمر الذي شهدته\" المناهج\" في الحقل التربوي خلق أرضيه خصبه تتعدد وتتباين فيها وجهات النظر اتجاه التعريف العلمي الدقيق لماهية \"المناهج\". فالبعض كمكدونالدز يرى أنها \" مهام و إجراءات مسبقة الإعداد\"، في حين يرى آخرون كفوشي وغيرها \"أنها وثيقة عمل\"، على أن آخرين كالكساندر و سميث و ستينلي يرى أن المنهج\" خبرات وتجارب مسبقة التخطيط و التحضير. كما وأن أصحاب مشروع ألاسكا 2000 يرون أن المنهج\" هو كل ما ينبغي أن يعرفه الطالب و يتمكن من القيام به…\" على أية حال أيان كان ذاك التعريف فالجميع متفق تقريبا على أهمية تجريد و إفراغ المنهج الحديث من تلك النظرة القديمة التي كانت تحصره في المقرر المدرسي(الكتاب فحسب إن شئت) والدفع به إلى آفاق أوسع وأكثر شمولية تتعدى الكتاب المدرسي لتشمل الطالب و المسهل و أولياء الأمور و الإدارة و المبنى المدرسي و الوسائل التعليمية و المختبرات …وعلى وجه الإجمال نقول أن المنهج الحديث يشمل كل ما يتعلق بالعمل التعليمي و التربوي.

 

بناء المناهج:

حين الحديث عن عملية \"بناء\" المناهج الحديثة هناك من المختصين في هذه الصناعة من يرى أن الفروق الدقيقة التي توجد ما بين عملية\"بناء\" و \"هندسة\" و\"تشكيل\" المناهج يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. إلا أننا نميل في هذه العجالة إلى عدم إغراق القارئ الكريم الغير مختص في بسط القول حول متاهات تلك الفوارق الدقيقة. وسنكتفي بتسليط الضوء على الأسس التي يجب أن تبنى عليها عملية \"البناء\" تلك:

 

أولا: تحديد الاحتياجات

من المسلم فيه أن عملية صناعة المنهج كأي مشروع تنظيمي آخر تحتاج منا قبل الشروع في تجهيزها الإجابة، ربما عن طريق تصميم \"استبانه\" خاصة، على جملة من الأسئلة التي تتعلق:

1. بالفئة المستهدفة من ناحية الفئة العمريه و الجنس والاحتياجات والأهداف القصيرة والبعيدة المدى وطبيعة المتلقي…الخ.

2. طبيعة المجتمع الذي تعيش فيه تلك الفئة المستهدفة من ناحية فلسفه ذلك المجتمع في النظر إلى الحياة وطبيعة مسلماته وخصوصيته…فعلى سبيل المثال ينبغي أن تختلف مفردات منهج اللغة الانجليزيه المعدة كلغة ثانيه لأفراد المجتمع الصيني عن مفردات ذلك المنهج المعد لأفراد يعيشون في مجتمع عربي ومسلم، تبعا لاختلاف نظرة المجتمعين للحياة.

3. الإمكانات المادية المتوافرة: كالأجهزة و المعدات المصاحبة لعملية صناعة المنهج و أيضا و هو الأهم تلك المخطط لها أن تكون مصاحبه لعملية تطبيق المنهج و تدريسه، كمعامل تعليم القرآن الكريم و اللغات الاجنبيه و أجهزة العرض فوق الرأس و الحاسب و السبورة و الشبكة العنكبوتية…إلخ.

4. طبيعة المنشأه التي يتم إعداد المتلقي للعمل بها مستقبلا: فعلى سبيل المثال ينبغي ان تكون مفردات المنهج الذي يصمم للطالب العسكري تختلف جذريا عن تلك التي تصمم للطالب المدني بحكم خصوصية و طبيعة إعداد و عمل كل منهما.

5. تحديد المشتركين في عملية صناعة المنهج: هل هم أهل الخبرة من المسهلين فحسب أم ان الأمر يشمل غيرهم كالآباء و الإدارة و صناع استراتيجيات المجتمع..؟

 

ثانيا: صناعة المنهج:

تتكون عملية صناعة المنهج من عدة خطوات يمكن إجمالها في:

1. تدارس محصلة عملية تحديد الاحتياجات السابقة بحيث يتم الوقوف على تلك الاحتياجات المختلفة بشكل دقيق يضمن تلبيتها أو اكبر كمية منها.

2. وضع خطه لتلبية تلك الاحتياجات التي تم الوقوف عليها بحيث يتم صياغتها على شكل مفردات لذلك المنهج تمهيدا للبدء في إنشائه و تكوينه.

3. أخيرا يتم التنفيذ الفعلي لمفردات ذلك المنهج المنشود.

 

ثالثا: تطبيق المنهج المعد:

في هذه المرحلة يتم الأخذ بكافة الأسباب و الطرق اللازمة لتهيئه الظروف والشروط المنشودة بغرض الشروع في عملية \"تطبيق\" مفردات ذلك المنهج الذي فرغ للتو من أعداده، من ناحية التأكد من تطابق ما ورد في تحديد الاحتياجات الواردة في الفقرة \"أولا\" أعلاه مع ما هو موجود حاليا على أرض الواقع من ناحية الطلبة المستهدفين وطبيعة مجتمعهم و البيئة الدراسية و الصحية و الاداريه و المستلزمات الدراسية من معدات و مواد خام و غيرها. يلاحظ هنا إننا في هذه المرحلة نشرع في الحقيقة في عملية \"تنفيذ\" مفردات ذلك المنهج الجديد على أرض الواقع و هذا يعني انه سيكون لزاما علينا مراقبه كل خطوات التنفيذ هذه على اعتبار أنها\" تجريب\" لما تم إعداده سابقا يتم لأول مرة، بقصد منع خروج عمليه التطبيق تلك عن أغراضها المنشودة.

 

رابعا: تقييم نتائج تطبيق المنهج:

خلال عملية التجريب المشار إليها أعلاه كنا قد أكدنا على أهمية متابعة عمليه التنفيذ بدقه و بروح مهنية واضحة بغرض الوقوف على نقاط الضعف في مفردات ذلك المنهج ليتم لاحقا تعديلها وأيضا للوقوف على نقاط القوة ليتم تعزيزها. وعليه فانه يمكننا القول أن عملية التقييم تلك يجب أن تتم على مرحلتين:

1. المرحلة الأولى: وهي التي تتم أثناء تطبيق المنهج وتنتهي بمجرد الفراغ من تجريب ذلك المنهج.

2. المرحلة الثانية: وهي التي تتم بعيد الانتهاء من المرحلة الأولى و بشكل دوري قد يكون شهري أو سنوي أو غير ذلك حسب تقدير أهل الاختصاص و ظهور الحاجة لإعادة النظر في صياغة مفردات ذلك المنهج أو تغييرها كليه، بما يضمن مسايرة المنهج للمستجدات الموجودة في البيئة المحلية بل و أحيانا البيئة العالمية، بما لا يتعارض بطبيعة الحال مع مسلمات و خصوصية المجتمع المعني. وكما يلاحظ هنا فان المرحلة الأولى مؤقتة في حين أن المرحلة الثانية لا نهائية. هذا ويلزم للقيام بأعباء المرحلتين إعداد معايير\"قياسات\" للأداء performance standards والتي يتم على ضوء نتائجها التعرف على مجمل نقاط الإخفاق أو القوة في المنهج محل النظر.

 

وفي الختام….

وانطلاقا من النقطة الأخيرة نستطيع أن نخلص إذن الى أن عمليه صناعة المنهج وتعديله وإعادة صياغة بعض مفرداته هي عمليه ينبغي أن تكون لا نهائية لتتواكب مع سنة الله في الكون: تغير و تبدل لا يعلم منتهاه إلا الله في علاه. ومن الخطأ الجسيم أن يظن أحد أن عمل صناع المنهج ينتهي بمجرد الشروع في تطبيقه ذلك أن بعض مفردات المنهج لا يتبين ضعفها من قوتها إلا من خلال العمل الميداني و التطبيق الفعلي لها. كما ينبغي ألا يغيب عن الأذهان\"أن تطوير المنهج وتغييره أمر واقع لا محالة وأنه سيتم رغم محاولات البعض اعتراض سبيله، على انه لا ينبغي الحكم على ذلك التغيير بأنه سيئ أو جيد وإنما يحكم على مساره فقط بالخطأ أو الصواب… وما دام التغيير واقع لا محالة فانه من الحكمة أن يحدث تحت إشراف أناس من أهل الرشد و العقل و الاختصاص بحيث يتم تفادي إحداث التغيير في المناهج بطريقة عشوائية أو كاستجابة لظروف تاريخية مؤقتة\"

برحه لكم بجهد المقل المقصر.

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply