معلمات تحت المجهر


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

1 - عاجل الخير:

القاعة مكتظة بالحضور.. بدأت المحاضرة محاضرتها بأسلوب جميل مؤثر، كان تأثيرها في الحاضرات واضحاً فعيونهن تطارد كل كلمة تخرج من فمها... أنهت محاضرتها.. تقدمت إليها جملة كبيرة من الحاضرات يعبرن عن عميق شكرهن ويسألن لها الثبات ويطالبنها بالاستمرار.. شقت المحاضرة صفوف النساء متجهة نحو امرأتين تتحدثان.. كان حديثهما كغيرهما في التعبير عن مدى التوفيق الذي قدمت به المحاضرة محاضرتها.. قطعت المرأتان حبل الحديث وهما مندهشتان حين تأكد لهما أن المحاضرة تقصدهما دون غيرهما.. قامتا لمصافحتها.. صافحت المحاضرة أولاهما في حرارة بالغة وطبعت على جبينها قبلة وسط اندهاشها.. قالت لها المحاضرة:

 

 - لعلك عرفتيني؟

 - بالخير إن شاء الله.

 - ألست تدرسين في المدرسة (.........).

 - بلى وقد تركت التدريس من سنوات.

 - ألم تدرسي الصف الخامس؟

 - بلى.... بلى..

 - أتذكرين طالبة أعجبك صوتها فاعتدت إن تجعليها تقرأ بعد قراءتك مباشرة..

 - آه تعنين فاطمة أل............

 - هي بالضبط.. إنها أنا...

 

نظرت إليها المرأة باندهاش وطفرت من عينها دمعتان وهي تقبل من جديد على معانقتها...

 

قالت المحاضرة لمدرستها السابقة: إن تأثرّك بالآيات التي كنت تتلينها علينا والذي كان يتضح في وجهك ونبرة صوتك كان يعمل عمله في نفوسنا حين ذاك.... وإن تعليقك على الآيات الذي يبدو أنك كنت تتعبين في إعداده لا يزال يمثل أمامي كلما مررت بتلك السور التي درّستينا إياها.

 

وإن التوجيهات التي كنت تنفحيننا بها بأسلوبك الهادي الجميل ساهمت إلى حد كبير في تقويم سلوك كثير من الطالبات... وأشهد ما رأيت زميلة لي واستعرضنا شيئاً من مسيرتنا الدراسية إلا كنت من أبرز المحطات فيها، وأسال الله أن لا يحرمك دعواتي ودعوات الزميلات.

 

حاولت المرأة المندهشة التي تركت التدريس منذ زمن أن تداري دموعها وهي تقول: لم أجد طعم الراحة في التدريس سوى هذه اللحظة.... وسأظل أحمد الله بأن منَّ عليَّ بأن أؤدى عملاً آخذ عليه راتباً ومن خلاله أستطيع غرس مثل هذا الثمر الطيب..!!

 

2 – تذكر:

حين يقدر لجملة من الأصدقاء أو الصديقات أو الزملاء الالتقاء في جلسة مفتوحة يصبح الحديث متشعباً فينتقل دون استئذان من موضوع إلى آخر.. وحين يقدر أن يعرّج (تيار) الحديث في المجلس على التعليم - وكثيراً ما يستأثر موضوع التعليم بالحديث - فسيجد كل واحد من الجالسين أن أمامه فرصة جميلة لاستعادة ذكريات الصبا وحمل الحقيبة وقفز الخطوات إلى المدرسة والحركات العابثة داخل الفصل، وحين يسرع به قطار الذكريات متخطياً المرحلة الابتدائية إلى المتوسطة فالثانوية سيجد أنه في غمرة نسيانه لكثير من مدرسيه أسماءً وملامح لم ينس جملة منهم حتى لكأنهم أمامه.. فالأستاذ (فلان) الذي درّسه في الصف الثاني الابتدائي كان دائم التجهّم، مكفهر الوجه، منقبض العضلات.. وهو وإن كان يرغب في الزعيق لكن لم يكن صوته يسعفه! كان الأطفال كلهم يمقتونه وإن كانوا هادئين عنده... أما الأستاذ (فلان) والذي درّسه التاريخ في الصف الرابع.. فإن صورة الابتسامة تجعله يبادله إياها الآن رغم مرور خمسة عشر عاماً عليها.. وهو لم ينس كيف كان الأطفال يأخذون طريقهم إلى المقاعد بأقصى سرعة دون أن يأمرهم بذلك بل بمجرد رؤيته مقبلاً إلى الصف.. كان حين يدخل ترتسم الابتسامة المعهودة على شفتيه.. ثم يلقي التحية.. كان كل طالب يجهد في المشاركة في نشيد رد التحية: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

 

ومدرس الرياضيات في أولى متوسط.. يا لقسوته بل يا لوحشيته.. من يصدّق أن مدرساً يكسر يد طالب بدعوى التأديب؟! أما مدرس النصوص في العام نفسه فالكل يشهد له بالسماحة والمسامحةº لقد كان كل من يحدث إزعاجا في الصف ولو غير حادٍ, يأتي إليه معتذراً لأنه كان يعاتب بعينيه!!

 

أعتقد جازماً أن مدرس اليوم أو مدرس الغد هو طالب الأمس، وهو يملك شريط ذكريات طويل تتخلله محطات يستوقفه ويستعذبها وأخرى يشمئز منها.. يا ترى ألا يشكل هذا المخزون الواقعي مادة جميلة ودروساً ثرة للمدرسين والمدرسات في رسم أسلوب التعامل مع الطلبة أو الطالبات.. أظن أن الإجابة ستكون عند الأذكياء بالإيجاب.. وأقول \"الأذكياء\"º لأن الأغبياء ربما كانوا يعيشون بلا ذاكرة.. وبذا يحرمون وجود تاريخ يقبسون منه حياة جميلة لواقعهم..!!

 

3 - أنت تملين هم يملون منك!!

 - أفّ.. ما أتعبها من حياة.. وما أزعجه من عمل!!

 

هكذا تردد بعض من المدرسات وهي تنهض للدرس الخامس أو السادس.

 

إن دفتر التحضير يشكل إزعاجا حاداً وهو يلحّ على المدرسة أن تملأ صفحة أو أكثر كأنه أحد أفراد العائلة.... ودفاتر الواجب.. آه.. ما أقبحها.. يا ترى هل وراءها فائدة.. أم إنها وضعت لمضاعفة العبء على المدرسين؟! ولو تجاوزت هذه الأعباء وغيرها لرأيت أنها واحة ظليلة بالنسبة لشغب الطالبات ومشاكلهن التي لا تنتهي.. إنها حين تدخل الفصل بتثاقل يظل سيل الطالبات هو الآخر بطيئاً رغم التهديدات المستمرة بالمنع من الدخول... ويظل صوت الطالبات يرتفع كلما دخلت طالبة.. وتظل المدرسة تكتب كلمة من الدرس على السبورة لتلتفت إلي الطالبات طالبة منهن الصمت.. ومع أن صوتها يضيع في وسط أصواتهن إلا أنها لا تلبث أن تنفعل وبقدر انفعالها يرتفع صوتها حتى تصبح كأنها قائد جيش يؤنب جنوده على التقاعس.. وقد تفلح سياط حديثها بإيقاف موج الكلام الهادر ولكنها ما إن تعود إلى الكتابة حتى تظل نار الحديث ترتفع وترتفع إلى أكثر (ربما) من مستواها الأول.. وهذه الأصوات المزعجة جداً ما إن تبدأ المدرسة بشرح الدرس حتى يبدأ النعاس يداعب أجفان الطالبات اللاتي كن قبل لحظات في أوج نشاطهن وهن يتبادلن الأحاديث فيما بينهن... وربما تراءى للمدرسة أنها بالغت في إيضاح الدرس.. تقيم طالبة من وسط الفصل فتسألها عن نقطة في الدرس فإذا هي كأنها لم تسمع الدرس من قبل.. وتقيم ثانية وثالثة ورابعة... وتكاد تصعق!! فهل تلام على الشعور بالملل؟... هناك من يقول: نعم هي مسؤولة.....!

 

فالطالبات أولا يشعرن بالملل أكثر منها.. فهي تستلم راتبا يدفعها للمواصلة والتحمل وبعضهن ربما لا يملك ريالاً يشتري به (سندوتشاً).

 

ثم هي ثانياً لها السيطرة عليهنº ولذا فهي تحب من تشاء وتبغض من تشاء وتثني على من تشاء وتسخر ممن تشاء..!! وهن لا يملكن إزاء ذلك إلا الصمت وإن كانت مراجل صدورهن تغلي!.. وثالثاً.. أن درسها في غاية البرود الذي تبدو معه أيام الشتاء مقبولة! فهي تدرس هذا العام بالأسلوب نفسه التي كانت تدرس به قبل عشر سنوات، وأغلب المواد التي تدرسها حينذاك هي المواد التي مازالت تدرّسها الآن، وبالتالي بدأت تشعر بأنها تجتر اجتراراً.. وتسرب إلى نفسها الملل الذي دفعها لاستخدام السلوكيات البغيضة من السخرية والاحتقار والسب واللوم.. فهل على الطالبات من لوم إن شعرن نحو درسها بالملل، وعبرّن عن ذلك بالنوم حيناً وعدم الفهم حيناً آخر؟!

 

4 - أحبّ ما تعمل.. تعمل ما تحب!!

كم تشعر المدرسة بالفرح، كم يهون عندها التعب - مهما بلغ - حين تحسّ بالتجاوب من الطالبات.. إن حضور الطالبات المبكر إلى الفصل وإحضارهن دفاتر الواجب بانتظام وإصغاءهن إلى المعلمة حين شرح الدرس واستفسارهن عن بعض الفقرات وتأدبهن معها في التعامل... ذلك كله تعبير واضح يجسد الرضا الذي تشعر به الطالبات تجاه مدرستهن... وهو ينبىء عن ارتياح نفسي عميق لها... لم...؟!

 

 - لأنهن يدركن في كل حركة من حركات مدرستهن إخلاصا عميقا للمادة، إن كلمات العتاب التي قلّ أن تنفح بها هذه المدرسة طالباتها تشهد في كلماتها وطريقتها بذلك الإخلاص.. عندما تقف كالنخلة بجدٍّ, محبوب والكلمات تتقافز من فمها بحرارة: أنا أشعر نحوكن بحب عميق... وأنا أشعر معكن براحة... ولذا لا أرضى لكن إلا التفوق.... تبدو وهي تشرح كمن يجمع الفواكه الجميلة في ألوانها، الرائعة في مذاقها، ثم تقوم بعصرها وتقدمها بكأس بديع الصنع!!.. فما لشرحها لا يبلغ الأعماق بعد ذلك...

 

بقدر ما تحس الطالبات بشحوب وجوه بعض المدرسات يوماً بعد آخر تحس بإشراق وجه هذه المدرسة.. وبقدر ما يعمل مرور الزمن من الفتور في حياة بعض المدرسات كان مرور الزمن يحقنها بالحيوية والنشاط يوماً بعد آخر...

 

لا تذكر الطالبات أن مدرستهن رفعت صوتها ونالت من طالبة أو عرّضت بزميلة أو شكت من عمل أو تململت من مهنتها.

 

حين شرحت درساً يبدو أنه صعب.. ورد إليها في نهايته أكثر من طلب بإعادة شرح فقرة منه.. قالت طالبة: أزعجناك يا أبلا..!! ابتسمت قائلة: تعبكن راحة..

 

إنه الحب المتبادل الذي يفجر الحيوية فإذا التعب راحة في وقت تشعر أخريات بالتعب وسط الراحة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply