لماذا المنهج ؟ (1 ـ 2 )


بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن مسألة اعتماد منهج عمل دقيق، أو برنامج مرسوم، يجب أن تأخذ مكانة متقدمة في سلم الأولويات، ليس فقط بالنسبة للنشاط التاريخي، ولكن بالنسبة للفكر الإسلامي المعاصر عموماً من أجل أن يمضي إلى أهدافه بأكبر قدر من التركيز، والاقتصاد في الجهد، وتجاوز التكرار، وتغطية المواضيع الملّحة وفق تسلسلها في الأهمية.

منهج، أو برنامج عمل، واضح الأبعاد، محدّد المفردات، بيّن الملامح، مثبّت الأهداف، من أجل حماية أنشطتنا الثقافية كافة من الارتجال والفوضى، وربما التناقض والارتطام.

إن القوم في عالم الغرب يغزوننا اليوم بأكثر من سلاح، وإن (المنهج) الذي يستهدي بمقولاته ونظمه معظم المفكرين، أفراداً ومؤسسات، لهو واحد من أشد هذه الأسلحة مضاءً في تمكينهم من التفوق علينا وفرض فكرهم في ساحاتنا الثقافية كافة.

هم منهجيون في كثير من أفعالهم وممارساتهم، بغض النظر عن مدى سلامة هذا المنهج وصدق مفرداته وصواب أهدافه التي يتوخاها..منهجيون وهم يتحاورون ويتناقشون..منهجيون وهم يكتبون ويبحثون ويؤلفون.. منهجيون وهم يدرسون ويقرؤون ويطالعون.. إن المنهج بالنسبة للمثقف الغربي يعني ضرورة من الضرورات الفكرية، بل بداهة من البداهات، وبدونه لن تكون الحركة الفكرية بأكثر من فوضى لا يضبطها نظام، وتخبّط لا يستهدي بهدف، ومسيرة عمياء لا تملك معالم الطريق..

ونحن، إلاّ قلّة من المفكرين، على النقيض من هذا في الكثير من أفعالنا وممارساتنا.. بلا منهج في حوارنا ومناقشاتنا.. بلا منهج في كتاباتنا وأبحاثنا وتآليفنا.. بلا منهج في دراساتنا وقراءاتنا ومطالعاتنا.. وأنشطتنا الثقافية بعامة..

لكأن الرؤية المنهجية التي منحنا إياها كتاب الله وسنة رسوله - عليه السلام - (1) قد غابت عنا، وأفلتت مقولاتها من بين أيدينا، وتلقفها القوم كما تلقفوا الكثير من معطياتنا الثقافية فذكروها ونسيناها، والتزموا بها وتركناها، وتحققوا بحضورها الدائم، وغبنا نحن عنها، أو غابت هي عنا، فكان هذا الذي كان..

ولكأن الخطط الخمسية التي قبسناها عنهم في أنشطتنا الاقتصادية هي الخطط الوحيدة التي يمكن أن تُؤخذ عنهم من أجل وضع مناهج عمل لممارساتنا الاقتصادية تتضمن المفردات، ووحدات الزمن المطلوبة، والأهداف، في سياق إستراتيجية بعيدة المدى، قد تتحقق بعد عشر من الخطط الخمسية أو عشرين..

أليس ثمة مجالات أخرى، غير الاقتصاد، أو مع الاقتصاد، يجب أن يُبرمج لها، وأن تُوضع لها الخطط والمناهج الزمنية المحددة، الصارمة، لكي تصبّ ـ على هدى وبينة ـ في بحر الأهداف الإستراتيجية لمسارنا الثقافي؟

إن اعتماد المنهج في أنشطتنا الفكرية، ليس اقتباساً عن حضارة الغرب بقدر ما هو رجوع إلى الجذور والتقاليد الأصيلة التي صنعناها نحن على هدى كتاب الله وسنة رسوله - عليه الصلاة والسلام -، ومعطيات أتباع هذا الدين زمن تألقهم الحضاري..

وإن حيثيات الصراع الراهن مع الحضارة الغربية تتطلب ـ فيما تتطلب ـ أن يكون لنا منهج عمل فكري يمكننا- من خلال النظم الصارمة التي يلزمنا بها- من الأخذ بتلابيب القدرة على الفاعلية والتحقق بالريادة والكشف والابتكار والإضافة والإغناء..

أن نكون ـ باختصار ـ أنداداً للفكر الغربي، قديرين على أن ندخل معه في حوارٍ,

يومي.. وأن نتفوق عليه..

إن العقيدة التي نملكها، والمضامين الثقافية التي تخلّقت عبر تاريخنا الطويل في مناخ هذه العقيدة، تعلو، بمسافات لا يمكن قياسها، على عقائدهم وفلسفاتهم ورؤاهم ومضامينهم الثقافية.. هم يقولون هذا مراراً ويؤكدونه تكراراً، قبل أن نقوله نحن ونؤكده، وبعده..

والذي يعوزنا هو المنهج.. هو طرائق العمل الإستراتيجي المبرمج المنظم المرسوم.. وحينذاك فقط يمكن أن نطمح، ليس فقط إلى تأصيل ذاتنا الثقافية وتحصينها ضد عوامل التفكك والغياب والدمار.. بل على التفوق على ثقافة الخصم واحتوائها، باطراح دمها الأزرق الفاسد والتمثل بدمها القاني النظيف..

إن المنهج يعني-في نهاية التحلي- حشد الطاقات وتجميعها والتنسيق بين معطياتها لكي تصب في الهدف الواحد، فتكون أغنى فاعلية وأكثر قدرة على التجدد والإبداع والعطاء..

وغن غياب المنهج يعني ـ بالضرورة ـ بعثرة الطاقات وتفتيتها وإحداث التصادم بينها.. فلا تكون ـ بعد ـ جديرة بالإضافة والفاعلية والعطاء..

لقد أكد القرآن الكريم والرسول - عليه السلام - هذا المعنى أكثر من مرة.. وحذرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - من أن الذئب لا يأكل من الغنم إلا الشياه القاصية..

إن العدسة (المفرقة) تبعثر حزمة الضوء فتفقد قدرتها على الإحراق، أما العدسة

(اللامّة) فتعرف كيف تجمع الخيوط لكي تمضي بها إلى البؤرة التي تحرق وتضيء..

إن (المنهج) هو هذه العدسة اللامّة.. وبدونه لن يكون بمقدور آلاف الكتب التي تطرحها مطابعنا سنة بعد سنة أن تمنحنا (النار) التي نحن بأمس الحاجة إليها في صراعنا الراهن..

تحرق الضلالات والخرافات والأوهام.. وتضيء الطريق للمدلجين..

 

----------------------------------------

(1) أنظر الفصل الأول من كتاب (حول إعادة تشكيل العقل المسلم) للمؤلف للاطلاع على خصائص التصور المنهجي الذي طرحه القرآن الكريم.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply