أصول وقواعد منهجية ( 1 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى وبعد...

فقد تميزت دعوة أنصار السنة المحمدية منذ نشأتها الأولى وعبر تاريخها الطويل بالمحافظة على أصول المنهج السلفي الأصيل وقواعده في تلقي الإسلام وفهمه وتطبيقه ودعوة الناس إليه، وهي بذلك تمثل الخط المستقيم والامتداد الطبيعي للمسلمين الأوائل الذين توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض، قال - تعالى -: \"والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم\" {التوبة: 100}.

ولما كان الأمر كذلك كان لزامًا علينا أن نبين أصول المنهج الذي ننتمي إليه ونشرف بالانتساب إليه وقواعده

 

أولاً الأصول:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فالأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع هي بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء ليس لأحد خروج عنها، ومن دخل فيها كان من أهل الإسلام وهم أهل السنة والجماعة، وما تنوعوا فيه من الأعمال والأقوال المشروعة فهو بمنزلة ما تنوعت فيه الأنبياء، قال - تعالى -: \"والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين \" {العنكبوت: 69}، وقال - تعالى -: \"قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم \" {المائدة: 15، 16}،، وقال - تعالى -: \"يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين\" {البقرة: 208}. اه.

وقال أيضًا: ومحمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم الرسل، فعلى جميع الخلق اتباعه واتباع ما شرعه من الدين، وهو ما أتى به من الكتاب والسنة، فما جاء من الكتاب والسنة هو الشرع الذي يجب على جميع الخلق اتباعه، وليس لأحد الخروج عنه، وهو الشرع الذي يقاتل عليه المجاهدون وهو الكتاب والسنة، وسيوف المسلمين تنصر هذا الشرع. اه.

وأول هذه الأصول:

تقديم الشرع (النقل) على العقل

أول هذه القواعد اتباع السلف في الفهم والتفسير، وهي من السمات البارزة لمنهج السلف، ففي الصفات الإلهية إثباتها بلا كيفية، وفي المسائل الأخرى، اتخاذ الأوائل قدوة في النظر والعمل، فالقرآن والحديث أولاً ثم الاقتداء بالصحابةº \"لأن الوحي كان ينزل بين أظهرهم، فكانوا أعلم بتأويله من أهل العصور التالية، وكانوا مؤتلفين في أصول الدين ولم يفترقوا فيه ولم يظهر فيهم البدع والأهواء\"، فيتميزون بأنهم يبدأون بالشرع ثم يُخضِعون العقلَ له، بما يتفق مع الشرع، وأن الأوئل كانوا أكثر فهمًا ودراية للشرع من غيرهم.

وتظهر أصول العقيدة لديهم في الإيمان بصفات الله - عز وجل - وأسمائه من غير زيادة عليها ولا نقص منها ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها ولا تشبيهها بصفات المخلوقين، بل أمروها كما جاءت في كتاب الله أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وردوا علمها إلى قائلها.

قال ابن تيمية في \"نقض المنطق\" (ص309): \"المعقول عندنا ما وافق هديهم، والمجهول ما خالفهم، ولا سبيل إلى معرفة هديهم وطريقتهم إلا هذه الآثار\".

فطريقتهم في إخضاع العقل للنص، لا العكس مخالفين بذلك قواعد المتكلمين من المعتزلة والأشعرية الذين قدموا العقل وأولوا النصوص تبعًا له، مستدلين بما استدل به ابن تيمية من قوله - تعالى -: \"ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين\"، وقوله: \"وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا\"، فالآثار هي الرواية، وفي الآية الثانية دليل على نفاق من يحاكِم إلى غير الكتاب والسنة، وإن زعم أنه يريد التوفيق بين الأدلة الشرعية وبين ما يسميه هو عقليات من الأمور المأخوذة من بعض طواغيت المشركين والكتابيين، وهذا الاعوجاج في التفكير الذي قوَّمه ابن تيمية هو الذي يتخذه أصحاب المنهج العقلي المعتزلي المعاصرون، الذين يحاولون إخضاع الدين والشريعة لمتطلبات العصر المتجددة، ومن جملة هؤلاء محمد عبده وتلاميذ مدرسته العقلانية، ومن تأثر بمنهجه من اتباعه كعلي عبد الرازق، وطه حسين، وقاسم أمين، والكواكبي.

ومنهجهم يصرحون فيه بوجوب تأويل النص ليوافي مفهوم العقل! وهو مبدأ خطر، فإطلاق كلمة \"العقل\" يرد الأمر إلى شيء غير واقعي! فهناك عقلي وعقلك وعقل فلان، وليس هناك عقل مطلق لا يتناوله النقص والهوى والجهل يحاكم النص القرآني إلى مقراراته، وإذا أوجبنا التأويل ليوافق النص هذه العقول الكثيرة فإننا ننتهي إلى فوضى!

ولقد حاول أصحاب الاتجاه التغريبي إخضاع النصوص لأهوائهم وعقولهم، وفسروا الدين في ضوء ما يذهب إليه مفكروا الشرق والغرب وفلاسفته، ولذا وجب الحذر والتحذير، وخصوصًا مع اشتداد هذا التيار في أيامنا هذه بزعم الحداثة والتطوير والتنوير!! إن الإسلام جاء ليقوِّم عوج الحياة لا ليذر بها عوجها.

 

أقوال علماء السلف

يقول ابن تيمية - رحمه الله -: ولا يوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأي وقياس ولا بذوق ووجد ومكاشفة، ولا قال قط: قد تعارض هذا العقل والنقل، فضلاً عن أن يقول: فيجب تقديم العقل، والنقل يعني: القرآن والحديث وأقوال الصحابة والتابعين، فإن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبين القرآن وتدل عليه وتعبر عنه. {مجموع الفتاوى (13-28، 29)}.

يقول الشاطبي في الاعتصام: إن الشريعة بينت أن حكم الله على العباد لا يكون إلا بما شرع في دينه على ألسنة أنبيائه ورسله، ولذلك قال - تعالى -: \"وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا\" {الإسراء: 15}، وقال: \"فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول\" {النساء: 59}، وقال: \"إن الحكم إلا لله\" {الأنعام: 57}، وأشبه ذلك من الآيات والأحاديث، فخرجت عن هذا الأصل فرقة زعمت أن العقل له مجال في التشريع وأنه محسن ومقبح فابتدعوا في دين الله ما ليس فيه.

وقال شارح الطحاوية: \"وكل من قال برأيه وذوقه وسياسته مع وجود النص، أو عارض النص بالمعقول فقد ضاهى إبليس حيث لم يسلم لأمر ربه، بل قال: \"أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين\" {الأعراف: 12}.

وقال - تعالى -: \"من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا\" {النساء: 80} وقال - تعالى -: \"قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم\" {آل عمران: 31}، وقال - تعالى -: \"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما\" {النساء: 65}.

أقسم - سبحانه - بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا نبيه ويرضوا بحكمه ويسلموا تسليمًا\". {\"الطحاوية\" (ص190، 191)}.

وقال أبو المظفر السمعاني: \"اعلم أن فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو مسألة العقل فإنهم أسسوا دينهم على المعقول وجعلوا الاتباع والمأثور تبعًا للمعقول، وأما أهل السنة، فقالوا: الأصل في الدين الاتباع والمعقول تبع ولو كان أساس الدين على المعقول لاستغنى الخلق عن الوحي وعن الأنبياء صلوات الله عليهم ولبطل معنى الأمر والنهي، وقال من شاء ما شاء، ولو كان الدين بني على المعقول وجب ألا يجوز للمؤمنين أن يقبلوا أشياء حتى يعقلوا\". {\"صون المنطق\" ص182}.

ويقول ابن تيمية - رحمه الله -: إن كثيرًا مما دل عليه السمع يعلم بالعقل أيضًا والقرآن يبين ما يستدل به العقل ويرشد إليه وينبه عليه كما ذكر الله ذلك في غير موضع، فإن الله - سبحانه وتعالى - بيّن من الآيات الدالة عليه وعلى وحدانيته وقدرته وعلمه وغير ذلك مما أرشد العباد إليه ودلهم عليه، كما بين أيضًا ما دل على نبوة أنبيائه، وما دل على المعاد وإمكانه، فهذه المطالب هي شرعية من جهتين: من جهة أن الشارع أخبر بها، ومن جهة أنه بين الأدلة العقلية التي يستدل بها عليها، والأمثال المضروبة في القرآن هي أقيسة عقلية، وقد بسطت في غير موضع، وهي أيضًا عقلية من جهة أن تعلم بالعقل أيضًا. {مجموع الفتاوى ج3}.

وقال أيضًا في \"نقض المنطق\" (ص49): \"والعجب أن من هؤلاء - مدعي النظر والاستدلال - من يصرح بأن عقله إذا عارضه الحديث، لا سيما في أخبار الصفات، حمل الحديث على عقله وصرح بتقديمه على الحديث وجعل عقله ميزانًا للحديث، فليت شعري!! هل عقله هذا كان مصرحًا بتقديمه في الشريعة المحمدية فيكون من السبيل المأمور باتباعه، أم هو عقل مبتدع جاهل ضال خارج عن السبيل، فلا حول ولا قوة إلا بالله\". {انظر \"ملامح رئيسية للمنهج السلفي\"}.

 

أنصار السنة يقتدون بسلف الأمة ويقفون في وجه دعاة المدرسة العقلية!!

يقول الشيخ عبد الرزاق عفيفي - أحد شيوخنا وعلمائنا البارزين - ناعيًا على من يقدمون العقل على النقل:

ولا يغترن إنسان بما آتاه الله من قوة في العقل وسعة في التفكير، وبسطة في العلم، فيجعل عقله أصلاً، ونصوص الكتاب والسنة الثابتة فرعًا، فما وافق منهما عقله قبله واتخذه دينًا، وما خالفه منهما لوى به لسانه وحرفه عن موضعه، وأوله على غير تأويله إن لم يسعه إنكاره، وإلا رده ما وجد في ظنه إلى ذلك سبيلاً - ثقة بعقله - واطمئنانًا إلى القواعد التي أصلها بتفكيره واتهامه لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، أو تحديدًا لمهمة رسالته وتضييقًا لدائرة ما يجب اتباعه فيه واتهامًا لثقاة الأمة وعدولها، وأئمة العلم، وأهل الأمانة الذين نقلوا إلينا نصوص الشريعة، ووصلت إلينا عن طريقهم قولاً وعملاً.

فإن في ذلك قلبًا للحقائق، وإهدارًا للإنصاف مع كونه ذريعة إلى تفويض دعائم الشريعة وإلى القضاء على أصولها.

إذ طبائع الناس مختلفة واستعدادهم الفكري متفاوت وعقولهم متباينة، وقد تتسلط عليهم الأهواء، ويشوب تفكيرهم الأغراض، فلا يكادون يتفقون على شيء، اللهم إلا ما كان من الحسيَّات أو الضروريات.

فأي عقل من العقول يجعل أصلاً يحكم في نصوص الشريعة فترد أو تنزل على مقتضاه فهمًا وتأويلاً.

أعقل الخوارج في الخروج على الولاة، وإشاعة الفوضى وإباحة الدماء؟

أم عقل الجهمية في تأويل نصوص الأسماء والصفات وتحريفها عن موضعها وفي القول بالجبر.

أم عقل المعتزلة ومن وافقهم في تأويل نصوص أسماء الله وصفاته ونصوص القضاء والقدر وإنكار رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة؟

أم عقل الغلاة في إثبات الأسماء والصفات، والغلاة في سلب المكلفين المشيئة والقدرة على الأعمال.

أم عقل من قالوا بوحدة الوجود... إلخ.

ولقد أحسن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إذ يقول: \"ثم المخالفون للكتاب والسنة، وسلف الأمة من المتأولين لهذا الباب في أمر مريج\".

فإن من أنكر الرؤية يزعم أن العقل يحيلها، وأنه مضطر فيها إلى التأويل، ومن يحيل أن لله علمًا وقدرة، وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول: إن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل، بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد، والأكل والشرب الحقيقيين في الجنة، يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل، ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل.

ويكفيك دليلاً على فساد قول هؤلاء أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل، بل منهم من يزعم أن العقل جوَّز وأوجب ما يدعي الآخر أن العقل أحاله.

فيا ليت شعري، بأي عقل يوزن الكتاب والسنة؟! فرضي الله عن الإمام مالك بن أنس حيث قال: أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -\". {مجموع الفتاوى}.

هذا، وإن فريقًا ممن قدسوا عقولهم، وخدعتهم أنفسهم، واتهموا سنة نبيهم قد أنكروا رفع الله نبيه عيسى ابن مريم - عليه السلام - إلى السماء حيًا بدنًا وروحًا، ونزوله آخر الزمان حكمًا وعدلاً، لا لشيء سوى اتباع ما تشابه من الآيات دون ردها إلى المحكم منها، واتباعًا لما ظنوه دليلاً عقليًا، وما هو إلا وهم وخيال.

وردوا ما ثبت من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - نزولاً على ما أصلٌّوه من أنفسهم من أن العقائد لا يستدل عليها بأحاديث الآحاد، واتهامًا لبعض الصحابة فيما نقلوا من الأحاديث، وفي ذلك جرأة منهم على الثقات الأمناء من أهل العلم والعرفان دون حجة أو برهان.

 

موقف السلف من قضية العقل

لم تكن مشكلة العقل والنقل أو الوحي والمعرفة الإنسانية موجودة لدى السلف الأولين، ذلك أن العقل المؤمن كان حاسمًا في موقفه المنهجي المبني على منطق العقل السليم: الوحي من علم الله الذي يمثل الحق المطلق في كل ما قدمه من قضايا، ومن ثم: فإن أي تشكيك في قضية من قضاياه ينقض ذلك الإيمان أي أن هذا التشكيك يعني موقفًا غير عقلي.

العقل مصدر للمعرفة، وهو الوسيلة التي كلفنا الله على أساسها وأمرنا أن ننظر في أمر الرسالة، ومن ثم الوحي من خلالها: \"قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة\" {سبأ: 46}، لكن هذا العقل جزء من الإنسان المخلوق المحدود، ومن ثم فإن المعرفة الناتجة عنه تبقى دون العلم الذي يقدمه الوحي، إنه علم الإنسان أمام علم الله، وهي معادلة واضحة وعقلية.

لكن ذلك لم يكن لدى أولئك السلف، أنه ينبغي أن يضمر العقل وأن تبطل وظيفته الإبداعية ما دام الوحي موجودًا لم ينظروا إلى إيمانهم بالوحي وحقائقه المطلقة على أنه استغناء عن العقل، ومن ثم عزلٌ له، كلا إن العكس هو الصحيح، إن انطلاق العقل - لدى هؤلاء - وإبداعه وفتوحاته في المجالات السياسية والاجتماعية والعلمية، وتنوع نشاطاته، كان نتيجة ذلك الإيمان بالوحي.

والمقصود أنه لدى السلف - الأولين - من صحابة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وتابعيهم بإحسان، كان وجود الوحي - مع توفر العقل- السبيل إلى قيام حياة إنسانية تتحلى في كل جوانبها بالكمال - الممكن بشريًا - آمنوا بهذا في وعيهم، وتحققوه في حياتهم، فلم يكن وجودهما معًا مشكلة، بل إن المشكلة في فقدان أحدهما، حيث إن فقدان الوحي يحرم العقل من الهادي الذي يدفعه في مجالات العلم، ويحدد له غايات حركته ويرسم له الضوابط التي يحقق بالتزامه بها إنتاجًا مثمرًا.

كما أن فقدان العقل أو فساده: يعني أن لا يتحقق لتعاليم الوحي وجودها الواقعي في حياة الناس، فتبقى هذه الحياة دون مستواها الإنساني المأمول\". {السلفية وقضايا العصر (197- 198)}.

 

التلازم بين العقل والنقل

يذكر ابن تيمية وجود التلازم والتوافق بين الأدلة الشرعية النقلية، والأدلة العقلية، فيقول: \"والقول كلما كان أفسد في الشرع، كان أفسد في العقل، فإن الحق لا يتناقض، والرسل إنما أخبرت بحق، والله فطر عباده على معرفة الحق، والرسل إنما بعثت بتكميل الفطرة لا بتغيير الفطرة، قال - تعالى -: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق {فصلت: 53}، فأخبر أنه سيريهم الآيات الأفقية والنفسية المبينةº لأن القرآن الذي أخبر به عباده حق، فتتطابق الدلالة البرهانية القرآنية، والبرهانية العيانية، ويتصادق موجب الشرع المنقول والنظر المعقول\".

وقال أيضًا: كل من كان إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين لهم بإحسان أقرب، كان أقرب إلى كمال التوحيد والإيمان والعقل والعرفان، وكل من كان عنهم أبعد، كان عن ذلك أبعد.

فما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - حق محض يتصادق فيه صريح المعقول وصحيح المنقول.

درء تعارض العقل والنقل:

بعد ذلك التقرير في التلازم بين العقل والنقل، يرد ابن تيمية على المعتزلة - ومن نحا نحوهم- الذين أحدثوا ذلك الانفصام المفتعل بين العقل والنقل، وبيّن أن النقل الصحيح لا يعارض العقل الصريح أبدًا، حيث قال في كتابه الفريد \"درء تعارض العقل والنقل\": \"أنزل الله الكتاب حاكمًا بين الناس فيما اختلفوا فيهº إذ لا يمكن الحكم بين الناس في موارد النزاع والاختلاف على الإطلاق إلا بكتاب منزل من السماء، ولا ريب أن بعض الناس قد يعلم بعقله ما لا يعلمه غيره، وإن لم يمكنه بيان ذلك لغيره، ولكن ما علم بصريح العقل لا يتصور أن يعارضه الشرع البتة، بل المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح.

ولقد تأملت ذلك في عامة ما تنازع الناس فيه، فوجدت ما خالف النصوص الصحيحة الصريحة شبهات فاسدة يعلم بالعقل بطلانها، بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع.

وهذا تأملته في مسائل الأصول الكبار كمسائل التوحيد والصفات، ومسائل القدر والنبوات والمعاد وغير ذلك، ووجدت ما يعلم بصريح العقل لم يخالفه سمع قط، بل السمع الذي يقال إنه يخالفه: إما حديث موضوع، أو دلالة ضعيفة، فلا يصلح أن يكون دليلاً لو تجرد عن معارضة العقل الصريح، فكيف إذا خالفه صريح المعقول؟! ونحن نعلم أن الرسل لا يخبرون بمحالات العقول بل بمحارات العقول، فلا يخبرون بما يعلم العقل انتفاؤه، بل يخبرون بما يعجز عن معرفته\". {قراءات في منهاج السنة النبوية: للصويان}.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply