الفتوى والاستفتاء في البرامج الإعلامية المباشرة


بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن الله تعالى أمر العباد بطاعته وعبادته فيما شرع لهم، وأمرهم أن يتعلموا ما تستقيم به عبادتهم، متابعين سنة نبيهم محمدٍ, صلى الله عليه وسلم، وقد جعل بعض العلم فرضًا عينيًا، يجب على كل فرد، وهو ما يحتاجه في تأدية عبادته الواجبة.

والفتوى من أهم سبل التعلم، إذ إن جميع فئات المجتمع المسلم تشترك في اتخاذها سبيلاً له، فإن الفتوى مشروعة للعامي، وطالب العلم الصغير والمتوسط، والعالم المقلد، وهذه الأصناف تشكل غالب المجتمع، أما العلماء المجتهدون فقد نُصَّ على عدم جواز تقليدهم مع علمهم بالأدلة (1).

ولهذه المكانة التي تبوأتها الفتوى عُنيَ بها العلماء عناية عظيمة، فبحثوا مسائلها في أبواب أصول الفقه، كما صنفوا فيها التصانيف المختلفة، المطولة والمختصرة.

ولهذه الأهمية العظمى، وشديد التصاقها في حياة الناس خصص لها في الوقت الحاضر برامج خاصة في قنوات الأعلام المختلفة، المقروءة والمسموعة والمرئية، وقد اختلفت مناهج تلك البرامج اختلافًا ظاهرًا، مما أوجد لكل منهج سلبيات وإيجابيات، كما أحدث تفاعلاً متفاوتًا من الجماهير، محمود وغير محمود، سأحاول في هذه الصفحات –بإذن الله تعالى عرض ذلك، منظرًا ومناقشًا.

 

 برامج الفتوى:

برامج الفتوى في الإعلام المعاصر تظهر في نوعين من الإخراج:

الأول: برامج الفتوى المسجلة: تستقبل هذه البرامج أسئلة الجمهور قبل بث الحلقة، وتعرض على المفتي، يتفحصها ويعد الإجابات والتوجيهات، ثم تعرض الحلقة على شكل أسئلة وأجوبة، يلقيها المفتي أو تلقى عليه الأسئلة ويتولى هو الإجابة.

ويتسم هذا الشكل بميزات عديدة، من أهمها عدم ارتجالية المفتي التي قد تؤدي إلى الغلط. وهذا النوع ليس موضع الحديث.

الثاني: البرامج المباشرة، التي يلقى فيها السؤال على المفتي أثناء عرض الحلقة، ويتولى الإجابة على الفور. وهذا موضع حديثنا..

 

 برامج الفتوى المباشرة:

والواقع أن هذا الشكل من برامج الفتاوى هو صاحب القدح المعلى في الفترة الأخيرة..لكثرة القنوات الفضائية التي تتسابق لكسب أكبر عدد ممكن من المشاهدين، مع كونها تتحرك في حرية تامة أو شبه تامة فيما تبث، فهذا الشكل هو الأوسع انتشارًا، والأكثر قبولاً، لما فيه من ميزات كثيرة، فهو يستجيب لداعي العجلة المغروس في كل فرد.. ويكفي المستفتي عناء الانتظار والارتقاب لحين عرض مسألته في البرامج المسجلة، كما أن المستفتي يختار بنفسه العالم الذي يطرح عليه أسئلته، وهذا يتخلف في البرامج التي تعرض الأسئلة فيها على أكثر من عالم.

ولهذه البرامج صورتان تقدم فيهما الأسئلة،

الأولى: أن يستقبل مقدم البرنامج مجموعة من الأسئلة، ثم يعرضها على العالم بعد ذلك واحدًا واحدًا،

والثانية: أن يستقبل المعد كل سؤال على حدة، ويعرضه على العالم مباشرة، وربما حاور العالم السائل، ولكل من الصورتين محاسن ومساوئ، أعرضه لها فيما بعد إن شاء الله تعالى.

 

 مع اختلاف الفقهاء:

لكل عالم مذهب معين ينتمي إليه، كما أن له اجتهادات خاصة يفتي فيها بما ترجح عنده من الأدلة، لهذا يحدث الاختلاف بين المذاهب، كما يحدث بين أقوال العلماء الخاصة المبنية على اجتهاداتهم. وكل بلد من البلدان الإسلامية يعتمد مذهبًا تعمل فيه مؤسساته الشرعية على اختلافها، ويفتي فيه علماؤه، أو يكون منطلقًا لاجتهاداتهم الشخصية، وعلى ذلك انبنت أعراف وتقاليد تلك البلدان، وعلى تلك الفتاوى سار أبناؤها، وتوارثوا عاداتهم جيلاً بعد جيل..

وكان الإفتاء بغير المذهب السائد يعد أمرًا غير مرغوب فيه، ويفضي إلى النزاع والاختلاف والتفرق، ولذا أشار إليه العلماء المتقدمون، وبينوا خطره وما يحدثه، قال الشاطبي رحمه الله، في معرِض حديثه عما في تتبع رخص المذاهب من المفاسد (أنه يفضي إلى ترك ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلومº لأن المذاهب الخارجة عن مذهب مالك في هذه الأمصار مجهولة) \"(2). وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي عليه رحمة الله في رسالته عن حكم شرب الدخان: ((والعوام تبع للعلماء، فلا يسوغ ولا يحل للعوام أن يتبعوا الهوى ويتأولوا، ويتعللوا أنه يوجد من علماء الأمصار من يحلله (يعني الدخان) فإن هذا التأويل من العوام لا يحل باتفاق العلماء، فإن العوام تبع لعلمائهم ليسوا مستقلين، وليس لهم أن يخرجوا عن أقوال علمائهم.. وما نظير هذا التأويل الفاسد الجاري على ألسنة بعض العوام اتباعًا للهوى لا اتباعًا للحق والهدى إلا كما لو قال بعضهم يوجد بعض علماء الأمصار من يبيح ربا الفضل فلنا أن نتبعهم، أو يوجد من لا يحرم أكل ذوات المخالب من الطير فلنا أن نتبعهم، ولو فتح هذا الباب فتح على الناس شر كبير،، وصار سببًا لانحلال العوام عن دينهم. وكل أحد يعرف أن تتبع مثل هذه الأقوال المخالفة لما دلت عليه الأدلة الشرعية، ولما عليه أهل العلم من الأمور التي لا تحل ولا تجوز))(3). والواقع المعاصر لا يعترف بالحدود الجغرافية والأعراف الإقليمية، وهذه إشكالية كبيرة، إذ يفتي المفتي بفتوى تبيح أمرًا قد استقر في أذهان فئة معينة تحريمه، فهذا يحدِثُ إشكالاً كبيرًا، فمن أمثلة ذلك: أن سائلة سألت مفتيًا في إحدى القنوات الفضائية، عن حكم كشف الوجه، فأفتاها أن النقاب هو الأفضل، لا سيما في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن، وأن كشفت وجهها وكفيها فقط فلا بأس.

هذه الفتاوى صالحة لمجتمعات معينة، لكنها لو عمل بها في مجتمعات أخرى مثل مجتمعنا السعودي، لأحدثت فوضى كبيرة، إذ إن أولياء الأمور، ورجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمجتمع بأسره لا يقبل كشف الوجه، بل يعاقب على ذلك، بل إن كثيرًا من النساء الحريصات على العفة والستر في مجتمعنا، لا يرضين بالظهور أمام الأجانب إلا بالعباءة السوداء، الساترة لجميع البدن، ولا يرضين بغيرها من الأغطية التي قد تستخدمها بعضهن أمام غير المحارم من الأقارب.

فمثل هذه الفتوى لو تعامل المجتمع معها بالرفض التام والتجاهل، لكان الوضع مقبولاً طبعيًا، إذ يستفيد منها غيره، لكن الواقع أن مثل هذه الفتاوى تجر وراءها محظورات متعددة، منها:

1ا- طلع إلى آراء العلماء الآخرين، ومتابعتها، لأنها وافقت هوى في نفوس البعض، وإن كان أولئك العلماء أقل علمًا وورعًا.

2- ف الثقة بعلماء البلد، الذين هم أعلم الناس بأحوال المجتمع وعاداته وتقاليده.

3- عمل ببعض هذه الفتاوى دون رضاً من المجتمع والسلطة، ممـا يسبب خللاً ظاهرًا، كالعمل بفتوى من جعل الطلاق الثلاث في مجلس واحد طلقة واحدة، أو العمل بفتوى من أباح كشف الوجه، في مجتمع كل نسائه يغطينه.

4-إنكار هذه الفتاوى، ورميها بالخطأ من قبل محافظي المجتمع، مع أنها قد تكون أقوى دليلاً مما تمسك به ذلك المجتمع.

5- رمي المفتين بهذه الفتاوى بالضعف، وقلة العلم والورع، واتباع الهوى، مع أنهم قد يكونون على خلاف ذلك تمامًا، فقد صدرت بعض الكتب في نقد بعض العلماء نقدًا لاذعًا، بسبب فتاويهم المخالفة لآراء هؤلاء المؤلفين.

6- أن المسارع للعمل بالفتاوى المُيَسِّرة المخالفة لمذهب البلد، هم من الفئة المتساهلة، التي يقل عندها جانب الورع الواجب، فتكون هذه الفتاوى سبيلاً للوصول إلى المحرم المتفق على تحريمه، أما محافظو المجتمع فالغالب أنهم لا يعملون بهذه الفتاوى إلا في حالة الضرورة أو الحاجة الملحة.

ولعل المسلك القويم، الذي ينبغي اتباعه، يتلخص في:

1- أن على المفتي إذا سئل عن مسألة من هذه النوع، أن يبين أقوال العلماء فيها، ووجاهة كل رأي، وأن يربط كل مجتمع بعلمائه، بحثهم على اتباع علمائهم، وعدم تتبع أقوال العلماء بدافع من الهوى، ثم يفتي بما يراه هو، إذ إنه بذلك يعطي كل مستمع ثقة بمفتيه الأول، ووجاهة رأيه، ويكون المحظور منتفيًا أو قريبًا من الانتفاء في هذه الحال، وخاصة إذا جعل هذا منهجًا له، وعرف به، أما أن يعمد بعض العلماء إلى تقليل أهمية الأقوال الأخرى، ووصم الخلاف بالضعف، مع قوته، فهذا خلاف الواجب، قال بعضهم: ‘‘هذه مسألة اتفق عليها العلماء، إلا واحدًا أو اثنين، وهذا لا يشكل شيئًا أمام إجماع الأمة’’، مع أن المسألة قد قال بها كثير من المتقدمين قبل المعاصرين الذين لم يأبه برأيهم.

2- أن يعمد علماء كل بلد (أو مجتمع) إلى بث برامج للفتاوى على غرار العلماء الآخرين، حتى يسهل توصل المستفتي إلى العالم الذي يحسن أن يستفتيه، ولا يضطر إلى علماء آخرين، قد يشوشون ثوابته\" \"(4).

 

 المفتي والهوى:

من المؤسف حقًا أن يكون بعض المفتين على غير ما يجب أن يتمثلوه من تحري الصواب، واتباع الحق، إن فئة منهم تتحرك بدافع من الهوى والشهوة، فتنجر إلى الإفتاء بما يتوافق مع الأهواء لمقاصد سياسية أو مالية، أو لكسب قبول الجمهور، أو غير ذلك، قال د. يوسف القرضاوي: ’’ومن أشد المزالق خطرا على المفتي أن يتبع الهوى في فتواه، سواء هوى نفسه أو هوى غيره، وبخاصة أهواء الرؤساء وأصحاب السلطة، الذين ترجى عطاياهم، وتخشى رزاياهم، فيتقرب إليهم الطامعون والخائفون، بتزييف الحقائق، وتبديل الأحكام، وتحريف الكلم عن مواضعه، اتباعا لأهوائهم، وإرضاء لنزواتهم، أو مسايرة لشطحاتهم ونطحاتهم. ومثل ذلك اتباع أهواء العامة، والجري وراء إرضائهم، بالتساهل أو بالتشدد، وكله من اتباع الهوى المضل عن الحق‘‘(5)

لقد عمد بعضهم إلى التقاط شواذ الأقوال، وأفتوا بها الناس، غير خائفين ولا وجلين من عواقب ذلك وما يترتب عليه، إن ترجيح آراء العلماء بدافع من الهوى مضاد لما أمر الله به، من الرجوع إلى الله ورسوله عند التنازع، قال الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله: ‘‘.. ولم يفلح من جعل من هذا الخلاف سبيلاً إلى تتبع رخص المذاهب، ونادر الخلاف، وندرة المخالف، واللتقاط الشواذ، وتبني الآراء المهجورة، والغلط على الأئمة، ونصبها للناس دينًا وشرعًا.. ومنها إصدار الفتاوى الشاذة الفاسدة، مثل الفتوى بجواز الفوائد الربوية، وشهادات الاستثمار، وسندات الخزينة، وفتوى إباحة التأمين، وفتوى إباحة السفور، وفتوى إباحة الاختلاط، وكلها فتاوى شاذة فاسدة، تمالئ الرغبات، وبعض التوجهات.. ’’(6).

 

 المَلَكات الاستقبالية للمفتي:

أهم الأركان التي يقوم عليها برنامج الإفتاء، هو المفتي، وبمقدار علو مرتبته (على المستويات كافة) يكون نجاح البرنامج، ويجب أن يتمتع المفتي بصفاتٍ, تمكنه من دخول قلوب الناس، وبلوغ ثقتهم فيه، والغالب أنه لا يتقدم لمثل هذه البرامج إلا من كان فيه من تلك الصفات.

ولكن هناك أمور تعرض، خارجة عن حد السيطرة، يفرضها جو البرنامج، من كونه مباشرة على الهواء، وكون المستفتين على فئات شتى من الثقافة والعلم والأخلاق.. هذه الأمور قد ينتُج عنها سلبيات كثيرة، تجر وراءها ما تجر، سببها فقدان بعض الملكات التي يجب توفرها عند المفتي.

إن البرامج المباشرة، تتطلب من المفتي سرعة الاستحضار للأحكام الفقهية وأدلتها، وهذه السرعة لا يمكن أن تتحقق إلا بعد أن يمارس المفتي الإفتاء لفترات طويلة، تكفل له الدربة على مثل ذلك، والمفتي يستقبل في هذه البرامج فئات متنوعة من الناس، فمنهم من انخفض مستوى العلم عنده إلى درجات البدائية، فيستفتي عن فروض الوضوء وشروط الصلاة، ومنهم من يشكل عليه أمور غامضة، يكثر فيها بين العلماء الاختلاف، ويتجاذب حكمها أدلة متعارضة ظاهريًا، أو مختلفة الصحة والصراحة، أو غير ذلك، فيجب على المفتي أن يكون مستعدًا لكل هذا..

ومثل ما تحتله سرعة الاستحضار من المكانة، تحتل قوة الإدراك، والتمكن من فهم السؤال، إن إدراك المفتي للسؤال لتنبني عليه الفتوى، وتتضاعف خطورة الإفتاء بفتوى غير ما سأل عنه السائل في مثل هذه البرامج، إذ إن المستمعين يربطون بين سؤال المستفتي وفتوى المفتي، وقد حصل من هذا القبيل مراتٍ, متعددة في هذه البرامج، منها:

1- أن أحد المستفتين سأل عن حكم من ترك شيئا من رمي الجمرات،

فقال المفتي: عليه عن كل واحدة دم، وكان المفتي يقصد عن كل جمرة، فظن المستفتي وبعض المشاهدين أنه عن كل حصاة، ثم كرر السؤال، فقال: (عن كل واحدة يا شيخ؟) قال: (نعم، عن كل واحدة)!

2- وحادثة أخرى، أظهر خطأً وأشد نتيجة، وهي أن سائلة قالت: إني أحرمت للعمرة، ثم لما وصلت مكة حضتُ، فلم أخبر أهلي بذلك حياءً، وأديت مناسك العمرة معهم، وأنا حائض، ثم تزوجت بعد عدة سنوات، وأنجبت أولادًا، فماذا عليَّ الآن؟

فرد الشيخ: يجب ألا يقربك زوجك، حتى ترجعين إلى مكة، وتؤدين العمرة، لأنك ما زلت محرمة، ثم إذا قضيت مناسكها، تعيدون عقد النكاحº لأنه عقد عليك وأنت محرمة، ولا ينعقد النكاح حال الإحرام.

فقالت: هل أؤدي العمرة أولاً أم أعيد عقد النكاح؟ فأجاب إجابة يفهم منها أن الأمرين مستويان!!.. انظر كيف أدى عدم الإدراك والسهو إلى مثل هذا الخطأ.

ومما يجب أن يتحلى به المفتي، ضبطُ النفس، وعدم الاندفاع وراء أي محاولة استفزاز من المستفتين، سواءً كانت متعمدة أم عفويةً، وقد حصل مثلُ هذا، وأدى إلى عواقب سيئة، فقد سأل سائل مفتيًا في برنامج مباشر مسألة تتعلق بأمور سياسية، وعرض بعلماء بلد ذلك المفتي، وانتقدتهم انتقادًا ظاهرًا، وإن لم يكن صريحًا، فما كان من المفتي إلا أن أجاب إجابةً جيدة منضبطة، لكنه لما وصل إلى موضع الانتقاد من السؤال، تغير نمط الإجابة جذريًا، حتى وصل إلى كلام مبهم، فهم منه الدعاء على ذلك السائل.

إن هذا الموقف أفرز سلبيات كثيرة، من أهمها:

1- اقتناع الجمهور بانتقاد السائل، وإن لم يكن صوابًا، تعاطفًا معه، وتمكن في أذهان كثيرٍ, أن استفزاز المفتي دليل على صحة ما ادعاه.

2- لقد صار تصرف ذلك المفتي مرتعًا خصبًا لمن يصطاد في الماء العكر، واستغل استغلالاً سيئًا، وحلل تحليلات متعددة، أكثرها مجانب للصواب.

3- كما عد ذلك التصرف منقصًا من قدر ذلك المفتي، مؤثرًا على مكانته في قلوب الناس، لأن كثيرًا من الجمهور لا يعمل العقل والمنطق في حياته، بل يتعلق بالظواهر الخادعة، ويبني تصورًا لا يغيره على موقف واحد، وربما يكون ذلك الموقف نتيجة أشياء عارضة، ولا ينم عن شيء من شخصية صاحبه.

إن ضبط النفس، يدفع بعد عون الله تعالى عواقب سيئة.. إنه سبيل إلى الوصول إلى قلب المجادل ومؤيديه، وإلى إقناعهم بما يُرى حقًا وصوابًا.

ومما ينقص بعض المفتين في هذه البرامج، النظرُ إلى حال المستفتي، وقت الفتوى، وإلى التغيرات التي طرأت في العصر، وإلى مناحي تفكير الناس، وقوة إيمانهم وورعهم من عدم ذلك، إن غفلة المفتي عن ذلك، تؤدي به إلى الفتوى بما يكون سببًا لانفتاح الناس على بعض المعاصي، واتخاذ تلك الفتوى ذريعة لمعاصٍ, كثيرة، وقد حدث مثل هذا، إذ سئل أحد المفتين عن عورة المرأة للمرأة، فأجاب أنها من السرة إلى الركبة، وهذا الجواب، عين الصواب، نص على ذلك الفقهاء(7)، ولكن الأمر أبعد من ذلك، فإن السائلة التي سألت هذا المفتي، كانت تسأل عن لباس النساء العاري، الذي يستر ما بين السرة إلى الركبة، ويظهر كثيرًا مما عداه، وهذا اللباس لا يقره ولا يبيحه من تأمل عظيم خطره، وكبير فتنته..

لقد انتشرت هذه الفتوى بين الناس انتشارًا عظيمًا، وتناقلها الناس على اختلاف نياتهم، فبعضهم نقلها استبشارًا بها، وبعضهم استغرابًا، وبعضهم نقلها بقصد الإنقاص من قدر ذلك المفتي، وقد اتصل بالمفتي جمع كبير جدًا من طلبة العلم وغيرهم، يطلبون منه توضيح فتواه، والتفصيل فيها، وما كان منه –جزاه الله خيرًا – إلا أن علق على تلك الفتوى في اللقاء الذي يليه، وبين خطر تلك الملابس العارية، وما قصد وراء السؤال من مقاصد.

 

 مقدم البرنامج ودوره:

إن برامج الفتوى وخاصة المباشرة تستلزم أن تتظافر فيها الجهود لأن يصل شرع الله تعالى إلى الناس بطريقة سليمة، فإن لها أهمية خاصة بسبب هذا الجانب، ولذا فهي تسلتزم الدقة والانضباط، ومقدم البرنامج يتحمل مسؤولية كبيرة، فهو حلقة الوصل بين المستفتين والمفتي، ويضطلع بدور كبير في إدارة الحلقة، وتوجيه الأسئلة، وانتقاء الموضوعات الأهم والأكثر قبولاً لدى الناس، كما أن له دور ظاهر في توجيه المفتي إن وهم، أو فهم خطأً، أو أجاب إجابة موهمة..

إن كثيرًا من المقدمين لا يعدو عمله أن يكون آليًا صرفًا، لا يتدخل في أي عمل جوهري للبرنامج إلا إلقاء الأسئلة، مع أن الحاجة إليه شديدة، وكثير من المستمعين يعلقون الرجاء عليه في أوقات متعددة، منها:

1- إذا سئل المفتي سؤالاً طويلاً، يتضمن فقرات عدة، فكثيرًا ما نسي المفتي بعض الفقرات، أو استطرد، حتى نسي عجُز السؤال، أو بدأ بآخر السؤال ونسي أوله، في هذه الأوقات يجب على مقدم البرنامج التدخل، ليأتي المفتي على كل فقرة.

2- وإذا أجاب المفتي إجابةً عائمة، أو عامة، فيجب على المقدم التدخل، ليحدد الإجابة.. أما إذا عمد المفتي إلى الإجابات العامة، وهو مضطر لذلك، فيجب على المقدم عدم التدخل إلا بما يعزز هدف المفتي من صرف النظر عن السؤال، لأن بعض الأسئلة لا يمكن الإجابة عليها، إما لأغراض شرعية، أو سياسية، أو اجتماعية، أو ربما تكون الإجابة غائبة عن المفتي، فهنا يجب على مقدم البرنامج صرف النظر عن السؤال، لذا عليه أن يكون فطنًا عارفًا حال المفتي وأسلوبه.

3- وإذا فهم المفتي السؤال خطأً، أو حاوره السائل، فاتضح أن السائل لم يفهم الإجابة، فعلى مقدم البرنامج إزالة الالتباس.

 

 المستفتي وما عليه:

والركن الآخر لعملية الفتوى هو المستفتي، وهو في الحقيقة، ركن هام، ويدور حوله أمور خطيرة، من أكثرها أهمية وتأثيرًا: اتباع الهوى، وتتبع الرخص...

إن اتباع الهوى قضية خطيرة، غفل عنها كثير من الناس، ورأوا أنه إذا وجدت الفتوى في إباحة محظور فقد حل، دون نظر إلى المفتي، ولا إلى وقت الفتوى، ولا إلى الملابسات التي قد تكتنف الأمر، ودون نظر إلى ضوابط الفتوى التي نص عليها العلماء..

 

فمن الصور الخاطئة التي تنتشر بين الناس:

1- أن ينتشر بين الناس أن في المسألة رأيين، فيعمد بعض الناس إلى أخذ الرأي الأقرب إلى هواه، دون استفتاء. وهذه الصورة من أكثر الصور تساهلاً، فربما تكون المسألة المختلف فيها لا تنطبق تمامًا على مسألة الشخص الخاصة، مثال ذلك: أن هناك رأيين في زكاة الحلي المعد للاستعمال، فيأخذ بعض الناس بقول من رأى أنه لا زكاة فيه، دون أن يستفتي ويوضح حال ذلك الحلي الذي عنده، وقد يكون ذلك الحلي غير مستعمل ولا معد للتجارة، بل هو قد احتفظ به ادخارًا وكنزًا.. فهنا يتغير الحكم، والغالب أنه لم يختر هذا القول مع ترك السؤال إلا لتساهله.

2- أن ينتشر أن في المسألة رأيين، فيعمد المستفتي إلى القائل بالرأي الأقرب إلى هواه، فيستفتيه، دون نظر إلى علمه ولا إلى ورعه، ولا إلى دليله، وهذا أيضًا حَكَّم الهوى في دينه.

3- أن يجهل حكم مسألة ما، فيستفتي عالمًا يثق به، ثم يفتيه بما لا يرغب، فيبحث عن عالم آخر ليفتيه بما يريد، وهذا أيضًا محكم للهوى في دينه.

وهذا هو عين تتبع الرخص المنهي عنه، وذلك لأنه يفضي إلى مفاسد كبيرة جدًا، مفاسد على الفرد ذاته، تفسد عليه دينه وعبادته وتعامله، ومفاسد يتعدى ضررها إلى المجتمع، فيحدث الفرقة والاختلاف، ويفضي إلى النزاع والتباغض، كما يضيع الحدود المعروفة المتفق عليها عُرفًا، ومعلوم أن للأعراف ميزان كبير في كثير من الأحكام، إذ إنه ضابط لجانب منها.

وقد ذكر العلماء جملةً كبيرة من مفاسد تتبع الرخص، ونُقل الإجماع على تحريم تتبع الرخص، وروي عن الإمام أحمد تفسيق فاعل ذلك(8)، ومما ذكر من تلك المفاسد:

1- الانسلاخ من الدين بترك العمل بالدليل إلى اتباع الخلاف (9)، والعبد مأمورٌ عند التنازع بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}(10). إن ‘‘الذي يلتمس التخفيفات، ويتتبع مواطن الرخص ورفع الحرج، بعيدًا عن الغاية الحقيقية، من تمام العبودية، وخالص الخضوع والطاعة لله وحده، والسعي في جلب المصالح ودرء المفاسد …مدعيًا أن لا حرج في الدين فقد أخطأ وضل السبيل، فلا يجوز أن تنقلب الوسائل غايات.. (11).

2- قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ‘‘.. ثم ذلك الخلاف قد يكون قولاً ضعيفًا، فيتولد من ذلك القول الضعيف الذي هو خطأ بعض المجتهدين، وهذا الظن الفاسد الذي هو خطأ بعض الجاهلين: تبديل الدين، وطاعة الشيطان، ومعصية رب العالمين، فإذا انضافت الأقوال الباطلة إلى الظنون الكاذبة، وأعانتها الأهواء الغالبة فلا تسأل عن تبديل الدين بعد ذلك، والخروج عن جملة الشرائع بالكلية (12).

3- إن تتبع الرخص قد يؤدي إلى خرق إجماع الأمة، بتلفيق قول من مجموعة رخص، مثال ذلك: أن بعض العلماء لا يشترط الولي في النكاح، وبعضهم لا يشترط الشهود، وبعضهم لا يشترط الصداق، فلو جمع بين هذه الأقوال لتولد قول آخر، بجواز النكاح بلا ولي ولا شهود ولا صداق، وهذا لم يقل به أحد، فهو مخالف لإجماع الأمة (13). نُقل عن إسماعيل القاضي أنه قال: دخلت على المعتضد أحد خلفاء بني العباس، فدفع إليَّ كتابًا، فنظرت فيه، فإذا قد جُمع له فيه الرخص من زلل العلماء، فقلت: مصنف هذا زنديق، فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: بلى، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء، وما من عالم إلا وله زلة، ومن أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه. فأمر بالكتاب فأحرق، وقال الأوزاعي: من أخذ بقول المكيين في المتعة، والكوفيين في النبيذ، والمدنيين في الغناء، والشاميين في عصمة الخلفاء، فقد جمع الشر (14).

4-  إن تتبع الرخص إسقاط التكليف في عامة مسائل الخلاف، فيعد كل أمر مختلف في وجوبه ليس واجبًا، وكل أمر مختلف في تحريمه مباحًا، ومعلوم كثرة المسائل المختلف فيها، فإذا اعتبر الخلاف في كل مسألة فسد دينهº لأنه لم يجعله ضابطًا له ومانعًا، وغير خافٍ, ما في هذا الفعل من الاستهانة بالدين، والتلاعب بحدوده، والخلود إلى آراء البشر، المعرضة للزلل والخطأ والضلال.

إلى غير ذلك من مفاسدها العظيمة.

إن هناك ضوابط كثيرة يجهلها كثير من الناس، وإلى الجهل بها يرجع التساهل في شأن تتبع الرخص، حتى إن بعضهم يراه أمرًا سائغًا جائزًا، لا يشك في حله، وأنا أريد أن أشير هنا إلى بعض تلك الضوابط

باختصار شديد، فمن ذلك:

1- أنه لا يجوز للمستفتي أن يستفتي إلا العالم الثقة المجتهد، ولا يجوز أن يستفتي من كان دون ذلك إلا أن يكون ناقلاً عن مجتهد.

2- فإذا وجد أكثر من مجتهد اختار أيهم شاء(15).

3- فإذا سأل مجتهدًا فلا يسأل غيره، إلا إن وجد أوثق منه، فلا بأس أن يستفتيه.

4- وإذا تعارض عنده فتوى مجتهدين وجب عليه الترجيح بينهما، بأن يختار فتوى أفضل المجتهدين علمًا وورعًا وتقوى. كذا فصل العلماء، وفرقوا بين هاتين المسألتين، وهما إذا لم يكن عنده علم بالحكم فله أن يستفتي من شاء بشرط أن يكون من أهل الاجتهاد، أما إذا علم أن مسألته قد أفتى فيها مجتهدان، وكان حكمهما مختلفًا، فأحدهما يحرم والثاني يبيح، مثلاً، أو أحدهما يوجب والثاني لا يوجب، وجب عليه أن يأخذ بفتوى أوثقهما علمًا وورعًا وتقوى(16).. وهذه المسألة من أكثر مسائل الفتوى اضطرابًا بين الناس، فقد أخطأ كثير، وظنوا أن المسائل الخلافية للعبد أن يختار أي الأقوال يوافق هواه، وهذا خطأ محض، بل يجب عليه أن يتقي الله فيما يأخذ وما يدع، قال الشاطبي رحمه الله: ((ومتى خير المقلدون في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم، لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة))(17)

5- كما أنه لا يجوز له أن يعمل بالفتوى دون أن يطمئن لها قلبه، فإن بعضهم يعمل بما وافق هواه، وإن اعتقد أن القول الآخر هو الصواب، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ‘‘لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه، وحاك في صدره من قبوله، وتردد فيها، لقوله صلى الله عليه وسلم: ‘‘استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك’’(18)فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولاً، ولا تخلصه فتوى المفتي من الله، إذا كان يعلم أن في الأمر الباطن بخلاف ما أفتاه … ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه، إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره، لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المفتي، أو محاباته في فتواه، أو عدم تقيده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة أو غير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه’’(19)

 

 نتيجة:

بعد هذا العرض السريع، والإشارات العابرة، أحب أن أذكر عددًا من النقاط، يمكن أن تضاف لتلك البرامج، لعلها تؤدي نتيجة أفضل، فمن ذلك:

1- أن يختار لهذه البرامج أفاضل العلماء، وأكثرهم علمًا وورعًا، وأخلاقًا وسمتًا وسكينةً وانضباطًا، وألا ينظر في ذلك إلى المصالح الدنيوية، كما يجب على هؤلاء العلماء أن يستجيبوا إذا دعوا لهذه البرامج وأمثالها، وأن يحتسبوا في ذلك، وأن لا يجعلوا الباب مشرعًا لغيرهم ممن هم دونهم.

2- أن يختار مقدمو هذه البرامج من طلاب العلم، الذين يضعون بصمات حسنة مفيدة على البرنامج، ولا يكون دورهم سلبيًا.

3- أن يستقبل المقدم الأسئلة على شكل مجموعات، ثم يفرقها على المفتي، حتى يتمكن المفتي من استحضار جوانب الفتوى لكل سؤال حال استقبال بقية الأسئلة، وهذه الطريقة تجنب المفتي بعض المفاجآت، وإن كانت تفوت محاورة السائل.

4- أن يبين المفتي عند المسائل الخلافية بعض جوانب الخلاف، باختصار دون إسهاب، وأن يثني على العلماء الآخرين، ويبين وجاهة أقوالهم، ثم يفتي بما يراه هو، وهذا يكفل غرس الثقة في أقوال العلماء الآخرين، ويقلص من خطورة تضارب الآراء.

5- أن يبين المفتي خطورة اتباع الهوى، وما ينتج عن تتبع الرخص من مفاسد، ويبين حرمة ذلك، كما يجب أن يبن ضوابط الفتوى العامة، أو يتولى ذلك مقدم البرنامج على مسمع من المفتي، وأن يكرر ذلك بعد كل عدد من الحلقات، حتى يستقر ذلك في أذهان الناس.

هذا.. واسأل الله تعالى أن يوفق الجميع لكل خير، وان يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علمًا، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

--------------------------------------------------------------

(1) نهاية الوصول إلى علم الأصول 2/687، والإبهاج في شرح المنهاج 3/271، ومجموع الفتاوى 19/261.

(2) الموافقات 5/102. (بتصرف يسير).

(3) حكم شرب الدخان: 1011.

(4) هي ثوابت باعتبار المستفتي لا باعتبار الواقع الفقهي.

(5) الفتوى بين الانضباط والتسيب: عن موقع المؤلف على الشبكة العنكبوتية.

(6) المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل وتخريجات الأصحاب 1/ 107، 108.

(7) شرح منتهى الإرادات 5/106.

(8) الموافقات 5/102 (هامش: 1).

(9) الموافقات 5/94، 96، 99، 102.

(10) سورة النساء من الآية: 59.

(11) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ضوابطه وتطبيقاته: 14.

(12) إغاثة اللهفان 2/146.

(13) الموافقات 5/ 103 (هامش: 2).

(14) التعالم وأثره على الفكر والكتاب: 108.

(15) هذه مسألة خلافية، فيها أقوال، منها أنه يأخذ بالأخفº لأنه أيسر والله تعالى يقول: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وقال بعضهم: يأخذ بالأثقل لأنه الأحوط، وبعضهم قال يأخذ بفتوى الأعلم والأوثق، وبقال آخرون: يسأل مفتيًا آخر ويأخذ بفتوى من وافقه منهما. ينظر: آداب المفتي والمستفتي لابن الصلاح: 164، ووالفتوى نشأتها وتطورها – أصولها وتطبيقاتها 2/630، والخلاف بين العلماء: أسبابها وموقفنا منه: 3536.

(16) ينظر في هذه المسائل روضة الطالبين 11/104، والمستصفى 1/373، وإرشاد الفحول 1/452، وغيرها.

(17) الموافقات 5/78.

(18) مسند الإمام أحمد 4/227.

(19) أعلام الموقعين 4/208.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply