لم لا نفكر ..؟!


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

فهذا مبحث أرجو أن يكون مبادرة موفقة لدعم مزيد من التفكير بمنهجية، بعيداً عن الرتابة والتقليد، فما كان من خير فهو من الله وحده وما كان من شر فهو من نفسي والشيطان.

إن الفئة المسلمة بحاجة ماسة إلى العقول الناضجة المستنيرة القادرة على التفكير والإبداع وعلى المربي أن يستشعر أهمية ذلك فيحيي هذه الملكة في نفوس أتباعه، فلأن يقود أسوداً متوثبة يقظة، خير له وأنفع من أن يقود قطيعاً من الخرفان التي لا تعي ولا تدرك، ولن يقوى المربي على ذلك إلا إذا كان أسداً، فهل من أسود!!

ويكاد المرء الناظر للواقع الإسلامي يقطع بأن من الأسباب الرئيسة للتخلف الفكري والمنهجي الذي تمره به الفئة المسلمة هو أننا جعلنا التفكير ورسم الخطط مهمة آحاد من الناس، أما البقية فهم متفرجون، لا يتجاوز دورهم تكثير السواد.

ولعل من أبرز مقومات نجاح العمل الإسلامي أن تستحث تلك الطاقات الكامنة الخاملة، إلى النظر والتأمل، وفق الأسس والموازين الشرعية، فلأن تفكر الأمة بمئة عقل خير لها وأنفع من أن تفكر بعقل واحد...!

إن الفئة المسلمة بحاجة ماسة إلى العقول الناضجة المستنيرة القادرة على التفكير والإبداعº و على المربى أن يستشعر أهمية ذلك فيحي هذه الملكة في نفوس أتباعه.

 

القرآن يدعو إلى التأمل والتفكير:

إن الخطاب القرآني ليس خطاباً وعظياً مجرداً وإنما هو في أصله خطاب برهاني يعتمد على البيان التفصيلي الدقيق للحجج والبراهين "قُل هَاتُوا بُرهَانَكُم إِن كُنتُم صَادِقِينَ"(البقرة: من الآية111).

وتتوالى النصوص الشرعية للتأكيد على ضرورة التعقل والتدبر والنظر في ملكوت السماوات والأرض، وتستحث العقل البشري على ضرورة البحث والمراجعة والتأمل وتنعي على المقلدة منهجهم وتذمهم على جمودهم وعجزهم وقصورهم، ويأتي اليوم الذي يتحسر فيه القوم ويندمون على مناهجهم وطريقتهم "وَقَالُوا لَو كُنَّا نَسمَعُ أَو نَعقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصحَابِ السَّعِيرِ"(الملك: 10).

 

الرسول -صلى الله عليه وسلم- يربي تربية القادة لا تربية العبيد:

حرص الرسول -صلى الله عليه وسلم- على تربية أصحابه تربية القادة لا تربية العبيد، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يستشير أصحابه ويدع رأيه لرأيهم، ففي بدر يتكلم (الحباب بن المنذر) بشأن المكان الذين ينزلون فيه، فينهض الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويتحول إلى المكان الذي يسير به الحباب -رضي الله عنه-.

وفي غزوة أحد إستشار النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه في الخروج لملاقاة العدو أو البقاء في المدينة، وكان رأي كثير من الصحابة ممن لم يكن لهم شرف حضور بدر الخروج لملاقاة العدو خارج المدينة، ولم يزل أصحاب هذا الرأي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى وافقهم عليه ثم ندموا، وقالوا: "استكرهناك يا رسول الله ولم يكن لنا ذلك، فإن شئت فاقعد، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته (درعه) أن يضعها حتى يقاتل".

وفي غزوة الخندق قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشورة سلمان الفارسي بحفر الخندق وكان -صلى الله عليه وسلم- يعمل إلى جانب العاملين...

في كل هذه الأمثلة نرى تربية الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه واعترافه برأيهم ورضاه بصراحتهم وجراءتهم في الحق، وهذه التربية تنتج قادة يحملون التبعات، لا أتباعاً يسيرون وراء كل ناعق، ومن أمثلة هذه المواقف موقف الصحابي أبي حذيفه حين قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "من لقي منكم العباس بن عبد المطلب عم النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يقتله فإنما أخرج مستكرهاً. فقال أبو حذيفه بن عتبة بن ربيعة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وعشائرنا ونترك العباس؟ والله لأن لاقيته لألجمنه بالسيف" إنه لموقف يتجلى فيه الصدق والصراحة والجراءة. ما كان الأصحاب ليقفوا مثل هذه المواقف لولا ما عهدوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حسن استقباله للقول الذي يندفع به صاحبه ما يدفعه إلا الصدق والإخلاص في القول.

هكذا كانت تربية الرسول -صلى الله عليه وسلم- تربية لروح النقد والصراحة بالحق والجهر به تربية تهدف إلى إنشاء قادة يستطيعون أن يضطلعوا بأعباء القيادة حين تغيب القيادة وفي هذه التربية يشعر كل فرد بأنه مسئول عن الدعوة الإسلامية حتى ولو كان وحده، وكل فرد مسئول في وظيفته الخاصة في الجماعة كما هو مسئول عن سير الجماعة كلها، ولأدنى فرد في هذه الجماعة أن يقف أمام خليفة المسلمين ليدلي برأيه وليعارض أي رأي يجد فيه خطأ.

 

عمر رضي الله عنه يطبق الميزان:

تأمل حال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حينما يقول على المنبر: (إذا أصبت فأعينوني، وإذا أخطأت فقوموني، فقال له رجل من بين الناس: إذا أخطأت قومناك بسيوفنا!".

عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لا يرضى بتعبيد الناس للناس ومصادرة عقولهم، وتغييبهم عن الساحة، بل يطالبهم بالمشاركة والناس لا يرضون بالتبعية والعجز.. وهكذا تبنى الأمم.

 

أسباب مرض الرتابة وعدم التفكير والاتكال على الغير في التفكير:

1. تأثير العادات والأعراف:

إن من أخطر العوامل المؤثرة سلباً على طريقة التفكير والتحليل بناء المعارف العلمية على العادات والأعراف التي ينشأ عليها الإنسان فهو يعتقد صحة المسألة لكثرة تكرارها وتداولها في بيئته التي نشأ فيها، فهي معارف مبينة على التقليد والمحاكاة وليس على التفكير والتدبر، وكثيراً ما نعتقد صحة فكرة ما من الأفكار حتى تصبح مسلمة عندنا حتى إذا خرجنا إلى بيئة أخرى اكتشفنا بطلانها وخطأها، وقديماً كان يقال: (لا يعرف الإنسان خطأ شيخه حتى يجلس عند شيوخ آخرين)، إن الشعور بالسلامة المطلقة للبيئة التي يعيش فيها الإنسان واعتقاده بكمالها وخلوها من الأمراض يقوده إلى التبعية وحبس العقل عن التدبر والتأمل، وسوف يؤدي هذا إلى الضمور والتآكل، وأما الإحساس بضرورة النمو والتحسين وليس بالضرورة الخطأ، فإنه يقوده إلى الإبداع والتجديد وتطوير الطاقات، فالتفكير المبدع هو الذي يحول الركود والرتابة والتلقائية إلى حركة حية منتجة تتطلع دائماً إلى المزيد، وكما قال الفضل: "التفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك"(دار السعادة)، وقال ابن القيم: "التفكر والتذكر بذار العلم، وسقية مطارحته، ومذاكرته تلقيحه"((دار السعادة)، فالتفكير الصحيح وسيلة من وسائل الانفتاق من آثار العادة والاتكال على تفكير الآخرين، ولهذا تضمنت دعوات الأنبياء جميعاً عليهم الصلاة والسلام دعوة للتفكر والنظر، والتخلص من إرث الآباء والأجداد. قال الله تعالى: "إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ, أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِن جِنَّةٍ, "(سـبأ: من الآية46). 

الخروج من إطار القوقعة الفكرية وعدم الاقتصار على فرد بعينه، بل يجب الانفتاح على الأفكار الناضجة التي تثير ملكة العقل للتفكير والابتكار 

2. التربية الحزبية:

لقد نجحت التربية الحزبية في صناعة الببغاوات والقطعان الهائمة التي لا تجيد إلا فن التصفيق والإشادة واجترار الشعارات ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً في بناء العقول الحية المبصرة القادرة على بناء المواقف وصناعة الأحداث، فالتربية الحزبية أفضل طريقة لوأد العقل وإماتة البصائر هذه التربية التي تبنى على ضرورة التسليم والانقياد دون النظر والتفكير (ومن قلد عالماً لقي الله سالماً)، هكذا هم يقولون، أخزى الله التبعية الصماء كم قتلت من الطاقات؟!

لذلك فإن العمل الإسلامي ينبغي أن يكون على هيئة (إطار عمل) وليس (إطار انتماء). 

3. الهزيمة النفسية:

أصيب كثيراً من المسلمين بمرض فتاك، وهو الهزيمة النفسية، ولهذا المرض شق يختص بموضوعنا وشق آخر يتعلق بالانقياد بالأعداد والتشبه بهم، أما فيما يتعلق بموضوعنا فنجد أن كثيراً من الطيبين على الساحة الإسلامية يقولون بذلنا ما في وسعنا لإمامة دولة الإسلام ولم تقم منذ كم ونحن ندعو ونربي؟!... إلخ. وتدعو هذه النفسية المنهزمة إلى الانغلاق على النفس والتفكير ببلاده بدلاً من أن يفكر في إيجاد حلول عملية إيجابية لترشيد الأخطاء وتصحيحها حتى يتم التمكين لهذا الدين في أسرع وقت وبأقل طاقة ممكنة ومن مشاهد الهزيمة النفسية مشهد التقليد وعدم الابتكار فنجد كثير من المسلمين لا يفكر في قضية الابتكار والاختراع في النواحي العلمية ولا يفكر في يوم من الأيام أين يكون مخترعاً أو مفكراً أو مبتكراً فتجد أنه في كثير من الدول لا يستطيع حتى صناعة الأمور البسيطة من حاجياتها ولله الأمر من قبل ومن بعد...

وعلى إثر تحديد الداء يكون تحديد الدواء أيسر بإذن الله - سبحانه وتعالى -.

 

بـعــض الـحـلـــول:

1- الخروج من إطار القوقعة الفكرية وعدم الاقتصار على فرد بعينه بل يجب الانفتاح على الأفكار الناضجة التي تثير ملكة العقل للتفكير والابتكار.

2- التربية على علو الهمة كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يربي أصحابه، وقد ذم النبي -صلى الله عليه وسلم- التواني والكسل ويعلمنا الدعاء "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال" رواه البخاري. فالمسلم يجب أن تكون عنده نفسية قوية فإذا أخطأ أو حدثت له مشكلة، فيقول: "قدر الله وما شاء فعل" ويبدأ من جديد ويعمل للمستقبل، فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يربي أحد أبنائه إلى التطلع للأحسن، فقد ورد عن علي بن أبي طالب: (أنه سأل ابنه: تريد أن تكون مثل من؟ فقال له أحد أبنائه: أريد أن أكون مثلك، فقال له: لا بل قل إنك تريد أن تكون مثل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأنك إذا كان هدفك أن تكون مثل علي فلعلك لا تصل إلى علي؟ ولو كان هدفك الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو قدوتك، قد تكون أفضل من علي بن أبي طالب). (يقول المحقق: إنه لم يجد له أصلاً، والله أعلم). 

3- الابتعاد عن التشاؤم والمتشائمين لأنهم من الذين يثبطون الهمم، فهذا ابن عباس رضي الله عنه حبر الأمة يلتمس أخاً له ليسلكا طريق العلم فيثبطه بمقولة: (فما جدوى ذلك والأمة الإسلامية مليئة بالعلماء أمثال ابن مسعود وغيره)، فيتركه ابن عباس رضي الله عنه حتى يكون له الباع في العلم ويفتتح جامعته الذي كان فيها مديرها وأستاذها فهكذا تصنع الهمم العالية بأصحابها.

والله المستعان وعليه التكلان...

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

الـمـصـــادر:

- مجلة البيان العدد (82) مقال للشيخ أحمد بن عبد الرحمن الصويان بعنوان (لم لا نفكر؟! ).

- الهزيمة النفسية عند المسلمين - د. عبد الله الخاطر.

- سبيل الدعوة الإسلامية د. محمد أمين المصري.

- رجع إلى مبحث ((أزمة العقل المبدع)) للباحث.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply