القواعد الذهبية في أدب الخلاف


بسم الله الرحمن الرحيم

وسط ما نشاهده اليوم في واقع المسلمين من اختلاف كثير في الأمور الفقهية أو الشرعية بصفة عامة، وتمسك كل فريق برأيهº تكون الحاجة ماسة وشديدة إلى وضع منهج لأدب الخلاف أو الاختلاف ليكون بمثابة دليل ومرشد لآلية الحوار، وليقنن موضوع الخلاف، فهناك مفاهيم وأسس شرعية ليست محلاً للخلاف كالمعلوم من الدين بالضرورة.

في إطار تحديد محل الخلاف، ووضع القواعد التي تحدد آداب الحوارº قدم فضيلة الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في كتابه \"القواعد الذهبية في أدب الخلاف\" نصائح ذهبية، وقواعد شرعية مهمة جداًº يجب على المسلمين اتباعها عند الاختلاف، وقد أطلق المؤلف على هذه القواعد صفة الذهبية لأنه يؤكد أن القاعدة الواحدة منها أفضل لطالب العلم ومبتغي الحق من اكتساب الألوف من جنيهات الذهب.

وقسم المؤلف كتابه إلى ثلاثة أقسام: اهتم الجزء الأول بعرض القواعد العامة في الخلاف، بينما خصص الجزء الثاني للآداب التي يجب اتباعها للخروج من الخلاف، أما الجزء الثالث والأخير فتطرق إلى قواعد ما بعد الخلاف.

 

الاتفاق على المنهج:

يبدأ المؤلف في القسم الأول من كتابه بذكر القواعد العامة التي تحكم عملية الاختلاف، فذكر أن ما لا يتطرق إليه الخلل أو الشك أو الخلاف ثلاثة أمور: كتاب الله، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وإجماع الصحابة، وما سوى ذلك ليس بمعصوم، ومن القواعد أيضاً أنه لا يجوز لأحد أن يخرج عن الثابت دلالته من كتاب الله، وسنة رسوله، وما علم يقيناً أن الأمة قد أجمعت عليه، وأن ما تنازع فيه المسلمون يجب أن يردوا الخلاف فيه إلى كلام الله، وكلام رسوله، عملاً بقوله - تعالى-: ((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً)) النساء:59.

وأكد المؤلف في أكثر من موضع أنه لا يجوز الخلاف في حكم من الأحكام الثابتة في الإسلام، والثابت هو المتفق عليه إجماعاً لا شبهة فيه، والمعلوم من الدين بالضرورة كالإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله - تعالى-، وأن القرآن الذي كتبه الصحابة، ويقرأه المسلمون جميعاً إلى يومنا هذا هو كتاب الله، لم ينقص منه شيء، والصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، ووجوب الزكاة، والحج، وحرمة الربا، والزنا، والخمر، والفواحش، ونحو ذلك من المعلوم من الدين بالضرورة أنه من الإسلام، وكل ذلك لا يجوز فيه خلاف بين الأمة.

وأوضح المؤلف أن الخلاف جائز في الأمور الاجتهادية الخلافية التي وقع التنازع فيها بين الأمة في عصور الصحابة ومن بعدهم إلى يومنا هذا، ولا يجوز الحكم على من اتبع قولاً منها بكفر، ولا فسق، ولا بدعة.

 

اختلاف العلماء رحمة:

أشار المؤلف بعد ذلك إلى أن هناك حكمة من وراء هذا الاختلاف، فوقوع الاختلاف في الأمور الاجتهادية الظنية رحمة وسعة أحياناً، فذكر على سبيل المثال قول ابن قدامة - رحمه الله - في مقدمة كتابه المغني: \"أما بعد: فإن الله برحمته وطوله جعل سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام، مهد بهم قواعد الإسلام، وأوضح بهم مشكلات الأحكام: اتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة\".

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: \"أن رجلاً صنف كتاباً في الاختلاف فقال أحمد: لا تُسمِّه كتاب الاختلاف، ولكن سمه كتاب السعة\" الفتاوى 79/30.

ومن ضمن القواعد التي ذكرها المؤلف في كتابه بالجزء الأول أنه \"يجب اتباع ما ترجح لدينا أنه الحق\" طالما لا يخالف نصاً في القرآن أو السنة، كما ذكر أسباب الخلاف التي يعذر فيها المخالفون، ووجوب طاعة الإمام في الأمور العامة وإن أساء ما لم يخرج من الإسلام، كما  لا يجوز للإمام أن يحجر نشر علم يخالفه، ولكن يجب على الإمام أن يمنع نشر الكفر والبدع والزندقة، وأن يقيم الحدود الشرعية في ذلك، وأن لكل مسلم الحق بل عليه الواجب في إنكار المنكر والأمر بالمعروف.

 

آداب وسلوكيات المحاور:

في القسم الثاني من الكتاب \"الآداب التي يجب اتباعها للخروج من الخلاف\" استعرض المؤلف جملة من الآداب التي إذا اتبعها المسلمون فيما ينشأ بينهم من خلاف اهتدوا بقدرة الله ومشيئته ورحمته إلى الحق، وتتمثل هذه القواعد في التثبت من قول المخالف، وتحديد محل التنازع والخلاف، وعدم اتهام النيات، وشرح المؤلف الأخيرة بقوله: \"مهما كان مخالفك مخالفاً للحق في نظركº فإياك أن تتهم نيته، افترض في المسلم الذي يؤمن بالقرآن والسنة، ولا يخرج عن إجماع الأمةº افترض فيه الإخلاص، ومحبة الله ورسوله، والرغبة في الوصول إلى الحق، وناظره على هذا الأساس، وكن سليم الصدر نحوه\".

ومن القواعد والآداب أيضاً للخروج من الخلاف إخلاص نية المناظرة لله، واتباع الحق وإن كان مع الخصم، وهناك قاعدة اتهام الرأي وهي: \"أنه يجب على المسلم المناظر وإن كان متأكداً من رأيه أنه صواب أن يتهم رأيه، ويضع في الاحتمال أن الحق يمكن أن يكون مع مخالفه، وبهذا الشعور يسهل عليه تقبل الحق عندما يظهر، ويلوح له\" .

ومن قواعد الخروج من الخلاف أن قبول الحق من المخالف حق وفضيلة، ويجب الإصغاء إلى المخالف قبل الإجابة، ومنح المخالف فرصة مكافئة لعرض رأيه وحججه، وعدم المقاطعة وطلب الإمهال إذا ظهر أن هناك ما يحتاج فيه مراجعة النفس، وعدم المجادلة أو المراء، والاتفاق على تعريف المصطلحات، وقبول الحق وإن كان مع المخالف، وإذا قبل المخالف منك الحق فاشكره ولا تمن عليه، و لا تيأس من قبول مخالفك للحق، وأرجئ النقاش إلى وقت آخر إذا علمت أن الاستمرار فيه يؤدي إلى الشقاق والنفور، والإبقاء على الأخوة مع الخلاف في الرأي في المسائل الخلافية أولى من دفع المخالف إلى الشقاق والعداوة.

 

آداب ما بعد الحوار:

تعرض القسم الثالث من الكتاب للقواعد والآداب التي يجب اتباعها بعد المناظرة وإيضاح الحق أي بعد الخلاف، وتمثلت هذه القواعد والآداب في إعذار المخالف، وترك أمره لله - سبحانه وتعالى -، وتنزيهه من فساد النية، وإبقاء الأخوة فلا يجوز لمسلم أن يقاطع أخاه المسلم لرأي ارتآه، أو اجتهاد اجتهد فيه ما دام يعلم أنه تحرى الحق، واتبع ما يظن أنه الصواب، ولا يجوز في مثل هذه الحالة الهجران، ولا شك أنه لو أن كل مختلفين تهاجرا لم يبق مسلم مع مسلم، وكذلك لا تشنيع ولا تفسيق، ولا تبديع للمخالف في الأمور الاجتهادية، ويجوز بيان الحق وترجيح الصواب وإن خالف اجتهاد الآخرين فلكل من المختلفين أن يذكر ما يراه حقاً، وينشر ما يراه صواباً، ويرجح ما يراه الراجح، وله أن يبين أن قول معارضه مرجوح لأن كتمان العلم لا يجوز، وعلى كل مجتهد أن يذكر ما يعتقد أنه الحق وإن خالف من خالف من الأئمة والعلماء والأقران.

ومن قواعد هذا القسم أيضاً أنه لا يجوز حمل الناس على الرأي الاجتهادي، فلا يجوز لعالم مجتهد، ولا لإمام عامº أن يحمل الناس على رأيه واجتهاده.

ويتضح مما سبق أن هذا الكتاب \"القواعد الذهبية في أدب الخلاف\" يمثل بالفعل نصائح ذهبية يجب اتباعها للخروج من احتقان الاختلاف بتوضيح الحجج والأدلة الشرعية بالطرق الصحيحة، كما يعد الكتاب محاولة للاتفاق على الاختلاف، ولكن في ظل آداب خاصة، وقواعد وإطار يحكمه.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply