الضوابط المنهجية للحوار ( 1-2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تقييم:

الحوار أمر مشروع بلا نزاع، إذ هو الوسيلة الطبيعة والميسرة لإحقاق الحق وإبطال الباطل ولا يكون محظوراً إلا إذا كان لإبطال الحق أو لمجرد المراء.

والقرآن العظيم ملئ بالحوارات والمجادلات، كقوله - تعالى -: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير).

وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مشتملة على حوارات لا حصر لها، سواء بينه وبين المشركين، أو بينه وبين المسلمين، أو بينه وبين المنافقين، وسواء بينه وبين كبار الصحابة، أو بينه وبين صغارهم، أو الجهلة من البادية.

ثم جاء الصحابة مقتدين بهديه ومنتهجين نهجه في الحوار.

وحسبنا ذلك الحوار النزيه الذي دار في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة بشأن أكبر القضايا العامة وهي قضية الخلافة.

ونظراً لأهمية الحوار بين الناس وكونه الوسيلة إلى معرفة حقائق الأشياء في ذاتها أو في نفس المتكلم، ونظراً لارتباطه في المجال الفكري والعلمي بصفة خاصة بل ولتعلقه بتفكير الإنسان وتصوره وعقيدته ومقاصده وسلوكه.

وحيث إن الحوار أحد أهم جسور التعامل والتواصل بين الناس في المجالات الفكرية، أفردته بهذا المبحث: مركزاً هنا على الضوابط التي تضبط الحوار وتوجهه نحو المنهج السليم فلا ينحرف يمنة أو يسرة فتضل به الآراء الأحكام.

 

الضوابط المنهجية للحوار الفكري

سواء أكان الحوار مباشراً كالمناظرة بين طرفين أم كان غير مباشر كالردود بين مختلفين كيفما تم الحوار بحاجة إلى الضوابط المنهجية.

فمن الضوابط المهمة:

أولاً: ضبط النفس

من طبيعة الحوار أن يكون موضوعه مختلفاً فيه بين الطرفين، وربما ترتب عليه تخطئة الخصم أو تضعيف دليله، أو الرد عليه أو غير ذلك الامر الأتي قد يثير الغضب أو يلجئ المحاور إلى إتهام خصمه في علمه أو دينه أو شخصيته أو خلقه، يل قد يلجئ المحاور إلى سلوك أساليب غير منجية كالمراوغة أو الكذب أو غيرهما.

 ولذلك فإنه ينبغي على المتحاورين ضبط النفس، وشرح الصدر وأن يتوقع كل من الآخر بعض الجهل واحتمال الخطأ بل يفترض ذلك في نفسه هو.

قال - تعالى - عز وجل -: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين).

فهذه الآية على قصرها: \" تضمنت قواعد الشريعة المأمورات والمنهيات حتى لم يبق فيه حسنة إلا أو ضحتها ولا فضيلة إلا شرحتها ولا أكرومة إلا افتتحها \".

وروى البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قدم عيينه بن حصن فنزل على ابن أخيه لحر بن قيس وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر، ومشاورته كهولاً كانوا أو شباناً فقال عيينة لان أخيه يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير فستأذن لي عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينه فأذن له عمر فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم به، فقال له الحر يا أمير المؤمنين إن الله قال لنبيه، (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) وأن هذا من الجاهلين والله ماجوزها مر حين تلاها عليه وكان وقافاً عند كتاب الله.

قال الإمام الطبري رحمة الله معنى الآية خذ العفو من أخلاق الناس واترك الغلظة عليهم وأمر بالعرف أي المعروف.

وهكذا ينبغي للمسلم أن يعفو ويصفح عن الجاهلين.

والعفو في مثل هذه المواقف هو الشجاعة بمعناها الصحيح كما جاء في الحديث: \" ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عن الغضب\".

وإذا قدر أن المحاور غضب فعليه أن يتقي الله وأن يعمل بالأسباب التي تذهب عنه الغضب وألا يصدر الحكم وهو غضبان.

ففي الحديث: \" لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان \"

والمحاور هو أشبه بالقاضي.

 

ثانياً: القول الحسن

وهو: أن يكون الإنسان نزيها في أقواله وأفعاله، غير فاحش ولا بذئ ولا شاتم ولا مخاصم بل يكون حسن الخلق واسع الحلم مجاملاً لكل أحد صبوراً على ما يناله من أذى الخلق امتثالاً لأمر الله ورجاء ثوابه \".

قال الطبراني عند قوله - تعالى -(وقولوا للناس حسناً) بعد أن ساق الأقوال في تفسيرها وهذا كله حض على مكارم الأخلاق فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينا، ووجهه منبسطاً طلقاً مع البر والفاجر والسبي والمبتدع من غير مداهنة ومن غير أن يتعلم معه بكلام يظن أن يرضى مذهبه..ثم قال فيدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي يعني المسلم.

ومن القول الحسن هنا:

1- نداء الإنسان بأحب الأسماء والكنى إليه.

2- مخاطبته بالألقاب المناسبة التي لا إطراء فيها.

3- عدم السب مطلقاً.

وقد اشتملت هذه الآية على أمهات أصول الدين والخلق وهذه الامة مأمورة بها كغيرها من الأمم السابقة.

والإسلام يعتبر الكلمة الطيبة صدقة كما في الحديث: \" الكلمة الطيبة صدقة \".

فالقول الحسن إذا محمود على كل حال، في حال الرضا والغضب ومع العالم والجاهل ومع المسلم وغير المسلم ومع التقى والفاجر ومع الصغير والكبير.

ويتأكد ذلك في المناظرات والمحاورات لأنها من أساليب الدعوة ووسائلها ولا يجوز أن يتوصل إلى المشروع بالممنوع، قال الخطيب البغدادي: ينبغي له أن يعود لسانه لين الخطاب ولا الملاطفة في السؤال والجواب، ويعم بذلك جميع الامة من المسلمين وأهل الذمة \".

كما جاء في الحديث أن النبي، - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه أن يدعي الرجل بأحب أسمائه إليه وأحب كناه.

كما خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - هرقل بـ عظيم الروم.

وقد نهى الإسلام عن التنابز بالألقاب بين المسلمين: (ولا تنابزوا بالألقاب).

فقد جاء رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له إعهد إلي قال: \" لا تسن أحداً\".

 

ثالثاً: تحرير محل الوفاق والخلاف

إن تحرير محل الوفاق والخلاف من الأمور المهمة التي تضيق نطاق الخلاف، وتحصره في دائرة معينة ومن ثم يقل النزاع ويختصر الوقت والجهد وهذه مطالب عالية وأماني عزيزة ينشدها كل طالب للحق وقل مثل ذلك في تحرير سبب الخلاف وتنقيحه وتخريجه. فكل ذلك مما يجلي الحقائق ويميز بين الأشياء المختلفات.

وبدون مراعاة هذه الأمور يطول الحوار وقد لا ينتهي ولا يعرف له طرف، بل قل لا يعرف له هدف.

 

 

 

رابعاً: عدم قبول الدعوى بدون دليل

وهذه قاعدة كبيرة من قواعد أحكام الشرع:

قال - عز وجل -: (وقال لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، تلك أمانيهم، قل هاتوا برهانكم إن كنت صادقين) وفي الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: \" لو يعطي الناس بدعواهم لا دعني ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعي عليه\"

فكل دعوى تحتاج إلى دليل وبرهان وإلا سقطت.

والدعاوي إن لم يقيموا عليها *** بينات أصحابها أدعياء

ولهذا قيل: \" من ادعى شيئاً بلا شاهد لابد أن تبطل دعواه

فالمحاور لابد أن يستحضر أدلته ليعزز بها دعواه، وإلا كان كلامه كالهباء تذروه الرياح، وكان مجرد صيحات وتهويش ليس له أثر.

 

خامساً: الاستدلال بالأدلة الشرعية فالعقلية

تمتاز الأمة الإسلامية بمصادر المعرفة الصحيحة والمعصومة التي لا يتطرق إليها الاختلاف والتغير وهذه المصادر يمكن إجمالها بشئ واحد هو الوحي الذي أنزله الله على قلب محمد، - صلى الله عليه وسلم - سواء أكان محفوظاً ومتعبداً بلفظة ومعناه وهو القرآن العظيم أما كان محفوظاً ومتعبداً بمعناه وهو السنة

ولذلك كان حق هذا الوحي أن يتقدم مصادر المعرفة، وهذه قضية معلومة بالضرورة من دين الإسلام.

فالمحاور ينبغي أن يتأدب مع الله ورسوله فيقدم كلامهما على كلام الآخرين في أي من أمور الدين.

قال - سبحانه -: \" (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم) (سورة الحجرات، الآية: 1)، وقال: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (سورة الأحزاب، الآية: 36)، وقال: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم…) (سورة النور، الآية: 63)، وقال: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلاً) ((سورة النساء، الآية: 59).

قال ابن عباس رضي الله عنهما-: \"يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقولون: قال أبو بكر وعمر\".

ولذلك قال أهل العلم لا اجتهاد مع النص.

 

سادساً: الاستدلال بالأقوى

وإذا كانت الأدلة الشرعية مقدمة على الأدلة العقلية، فإن على المستدل أن يختار الأدلة القوية سواء أكانت شرعية أو عقلية، مما يقيم الحجة، ويبين المحجة ويسكت الخصم.

وهذا منهج مهم ينبغي لداعي الحق أن يلتزمه.

\"لأن الأدلة الشرعية متفاوتة في مراتب القوة فيحتاج المجتهد إلى معرفة ما يقدم منها وما يؤخر، لئلا يأخذ بالأضعف منها مع وجود الأقوى فيكون كالمتيمم مع وجود الماء وهذا ما يعرف عند علماء أصول الفقه بترتيب الأدلة ووجوه الترجيح بين الأدلة المتعارضة.

ومن جملة الترتيب ما يأتي:

يقدم الإجماع القطعي فالنص المتواتر من القرآن أو السنة، ثم أخبار الآحاد، ثم القياس.

ومن وجوه الترجيح:

يرجح النص على الظاهر، والظاهر على المؤول، والمنطوق على المفهوم، والمثبت على النافي، والناقل عن الأصل على المبقي عليه، وصاحب القصة على غيره، والإجماع القطعي على الظني والقياس الجلي على الخفي وهكذا.

إذ كلما كان الدليل قوياً سالماً من الاعتراض كان أقوى تأثيراً في الخصم وأحرى أن يذعن للحق أو يستسلم.

والعكس بالعكس، فمتى كان الدليل ضعيفاً وجد الخصم مجالاً واسعاً للنقد والاعتراض، ومن ثم فلا أمل في إقناعه.

ولذلك كان على داعي الحق أن يمحص أدلته فيستبعد الضعيف منها سنداً كالحديث الضعيف والمرسل، والضعيف متنا ودلالة.

وفقاً لعبارة العلماء المشهورة: \"إذا كنت ناقلاً فالصحة، وإن كنت مدعياً فالدليل\".

 

سابعاً: توثيق المعلومات

المعلومات التي يعرضها المحاور أو يتعرض لها كثيرة لا نهاية لها

ولعل من أبرز أنواعها:

أ- النصوص الشرعية.

ب- المنقولات المنسوبة إلى الصحابة أو التابعين أو الأئمة أو غيرهم.

ج- المعلومات الأخرى كالآراء أو المؤلفات أو الأرقام أو الحوادث أو الأخبار، ونحو ذلك وكل ذلك يحتاج إلى توثيق وتحرير وتحرّ للدقة والصحة، وبخاصة عند الكتابة.

دون الاعتماد على الكتب الناقلة أو الجامعة ولذلك أساليبه وطرقه المعروفة عند أهل الاختصاص.

أما دراسة الأسانيد ومعرفة فقه المتون فتلك مهمة أخرى غير التوثيق

فأما النصوص الشرعية فثمة مهمتان لابد منهما:

أ- تحريرها والتأكد من سلامتها من الأخطاء، ولا سيما الآيات القرآنية.

ب- تخريجها والإحالة إلى مواضعها، فالآيات القرآنية تعزي إلى مواطنها في السور مع ذكر رقم الآية.

وأما الأحاديث النبوية فتستخرج من مصادرها الرئيسية

وأما المعلومات الأخرى فتحتاج إلى التأكد من صحتها وسلامتها، لئلا يعتبر الغلط صحيحاً، والخطأ صواباً، والباطل حقاً.

ذلك عن النصوص الشرعية، وأما عن المنقولات أو النقول فبالإضافة إلى المهمتين السابقتين (التحرير والاستخراج)، تحتاج إلى التأكد من نسبتها إلى قائليها.

إذ كثيراً ما تنسب أقوال إلى أناس هم منها براءة الذئب من دم يوسف.

فتكون الأسس ضعيفة أو منهارة، ومن ثم تكون النتائج المترتبة عليها خطأ.

ولذلك يقول الله - سبحانه -: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) (سورة الحجرات، الآية: 6).

وقال البخاري - رحمه الله - في صحيحه: باب ما يكره من قيل وقال: ثم روى بسنده عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه- قال: \"كان، - صلى الله عليه وسلم -، ينهى عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال، ومنع وهات، وعقوق الأمهات ووأد البنات\".

 قال النووي - رحمه الله - في المراد بقيل وقال: \"هو الخوض في أخبار الناس وحكايات مالا يُعني من أحوالهم وتصرفاتهم\"، وجاء الذم لمن ينتهج هذا المنهج فيبني على مجرد الظنون والأوهام. فقد جاء في الحديث: \"بئس مطية الرجل زعموا\" ومن هنا فإن من غير اللائق بالمحاور الذي ينشد الحق أن يلقى الكلام على عواهنه، ويذكر الأقوال أو الأخبار بصيغة التمريض.

 

ثامناً: الأمانة العلمية

الأمانة كل ما ائتمن عليه الإنسان في أمور الدين كلها.

قال الله - عز وجل -: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً). (سورة الأحزاب، الآية: 72)، وضد ذلك الخيانة وهي من كبائر الذنوب.

ومن الأمانات: الأمانة العلمية، وهي مصطلح حديث.

ويقصد بها: أن يكون المحاور أو الباحث أميناً في عمله، صادقاً نزيهاً، بعيداً عن الخيانة، والكذب وتزوير الكلام وتحريفه.

وإذا كان يلاحظ تداخل هذه النقطة بسايقتها فإنما أفردت هنا لأهميتها البالغة.

ولعل من أبرز صور الأمانة العلمية التي تجدر الإشارة إليها:

1- إسناد الأفكار والآراء إلى صحابها، بحيث لا يجوز أن يجحد الحق ويهضم أهله، فينسب الشيء إلى نفسه هو، أو إلى طائفته بدافع العصبية مع علمه أنه لا علاقة لهم به. وحسبنا قول الحق - تعالى -: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها). (سورة النساء، الآية: 58).

وإن من بركة العلم وشكره كما يقول السيوطي: عزوه إلى قائله.

 

2- ومن الأمانة تحري الدقة في نسبة الآراء والأفكار إلى أهلها فلا يتسرع بنسبة الشيء إلى غير صاحبه، ولا يجوز تحريف الكلم، ومهما كان الخصم عدواً فلا يجوز الكذب عليه.

قال - سبحانه -: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) (سورة المائدة، الآية: 8).

 

3- عدم إدعاء شيء ليس له: ومن ذلك ما يعرف بالسرقات الأدبية في العصر الحاضر.

 

4- ومن الأمانة توثيق كلام الخصم من المصادر المعتبرة كمؤلفاته هو مثلاً، وألا يكتفي بمجرد كلام الخصوم عنه، لأن الخصم متهم فقد يزيد أو ينقص أو يحرف بحسن نية، أو يخطئ في النقل أو الفهم- ومن ثم لا بد أن تكون هناك مداخل وثغرات كثيرة مما يترتب عليه ضعف في النتائج.

 

5- ومن الأمانة عدم التكلف والتظاهر أمام الناس بالعلم والورع يقول الله - عز وجل -: (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) (سورة ص، الآية: 86).

قال النسفي في قوله: \"وما أنا من المتكلفين\": من الذين يتصفون ويتحلون بما ليسوا من أهله، وما عرفتموني فقط متصنعاً بما ليس عندي حتى انتحل النبوة وأتقول القرآن\".

وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور\".

 

6-ومن الأمانة العلمية أيضاً: التورع في إصدار الحكم على الأشخاص والهيئات ونحوهم جرحاً أو تعديلاً، وعدم المجازفة في ذلك، أو تعميم الحكم على من يستحق ومن لا يستحق.

قال - سبحانه وتعالى -: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا) (سورة النساء، الآية: 94).

 

وقال: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أ، تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) (سورة الحجرات، الآية: 6).

ويؤخذ من هذه الآيات: \"أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر لا على القطع واطلاع السرائر\".

كما يؤخذ منها: وجوب التثبت في الحكم على الأشياء.

ومما ينبغي التنبيه إليه هنا ما يقع فيه بعض الناس عند الحكم على الجماعات أو الهيئات أو الحكومات، فحينما يرى مخالفة من بعض المنتسبين إليها فإنه يصدر الحكم العام على المجموعة كلها، وهذا لا شك أنه ظلم أو جهل، وهو يتنافى مع مبادئ الإسلام القائمة على العدل والحق والعلم.

ومن يتأمل القرآن العظيم يجد فيه الدقة في الأحكام على الجماعات من الناس. ولنتأمل بعض الآيات القرآنية الكريمة في هذا الصدد قال الله - عز وجل -: (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون) (سورة البقرة، الآية: 101).

(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) (سورة آل عمران، الآية: 23)، ) من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ((سورة التوبة، الآية: 117).

(وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) (سورة التوبة، الآية: 146).

حيث تشير هذه الآيات ونحوها إلى أن فريقاً من الناس هم الجماعة المتفرقة عن آخرين- تقوم بتلك المخالفات دون البقي، وفي هذا إنصاف وعدل.

 

7- التحري في باب الجرح والتعديل:

وذلك بأن ينظر في كل ما قيل في الشخص أو الفئة من مدح وقدح وما نسب إليه من خير وشر، ولا ينظر من زاوية واحدة ومن منظار واحد، فإن ذلك إجحاف وليس فيه إنصاف ولا يتفق مع الأمانة العلمية.

ولا شك أن إلقاء الكلام والأحكام هنا على عواهنها من أخطر الأمور، وستحمل صاحبها تبعاتها، قال الإمام ابن عبد البر وهو يتحدث عن كلام أهل العلم بعضهم في بعض: \" هذا باب قد غلط فيه كثير من الناس وضلت به نباتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك، والصحيح في هذا الباب: أن من صحت عدالته وثبتت في العلم أمانته وبانت ثقته وعنايته بالعلم لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات وأما من لم تثبت إمامته ولا عرفت عدالته ولا صحت لعدم الحفظ والإتقان روايته فإنه ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه \".

وحتى يكون التجريح والتعديل مناسباً للمقام (مقام المحاورات والمناظرات وما أشبهها)، أرى ضبط ذلك بالأتي:

1- إتقاء الحسد والحقد اللذين يجران إلى دفن الفضائل، ونبش الأخطاء، ثم تكبير هذه الأخطاء، بل قل إن ذلك يجر إلى البغض المطلق.

فعن الزبير بن العوام - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: \" دب إليكم داء الأمم الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين.. \". قال الحافظ أبو حاتم: الحسد من أخلاق اللثام وتركه من أفعال الكرام، ولكل حريق مطفئ ونار الحسد لا تطفأ، ومن الحسد يتولد الحقد والحقد أصل الشر \" وقال: أكثر ما يوجد الحسد بين الأقران أو من تقارب الشكل، لأن الكتبة لا يحسدها إلا الكتبة كما أن الحجبة لا يحسدها إلا الحجبة \".

 

ب- الحذر من العصبية الجاهلية الممقوتة التي تجعل الإنسان عبداً لهواه فإذا مدح أسرف وإذا ذم أسرف. سواء أكانت هذه العصبية لإمام أو لمذهب أو لحزب أو لجماعة أو لقوم أو لوطن أو غير ذلك.

 

فكل ذلك مذموم وهو اتباع للهوى، وقد قال الله - تعالى -: ) فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا (.

 

وفي الحديث الشريف: \" حبك الشئ يعمي ويصم\".

وهو غير لائق بطالب الحق سيما العلماء وطلاب العلم قال ابن القيم - رحمه الله -: - والمتعصب ليس في زمرة العلماء\". وذلك لأن فكره معصوب منغلق لا يقبل إلا ما يعجبه على حد قول القائل.

 

وعين الرضا عن كل عيب كليلة *** كما أن عين السخط تبدي المساويا

وقد يؤدي به هذا التعصب إلى أن يحب الأشياء الكريهة لتجانسها مع محبوبه، كما قال الشاعر:

أحب لحبها السودان حتى *** أحب لحبها سود الكلاب

أما الانتصار للحق وابطال الباطل وإزهاقه فذلك مطلب شرعي لا غبار عليه، وهو غير العصبية، بل هو الموضوعية الحقيقية.

وما يسميه بعض المستشرقين بالموضوعية بمعنى التجرد المطلق من تبني أي رأي أو حكم، فذلك لا وجود له على الحقيقة، حتى عندهم هم ولكنهم يريدون بذلك الضغط على علماء الإسلام ومفكريه باسم موضوعية البحث ليتخلوا عن المسلمات البدهية في الشرع والعقل.

 

ج- ونظراً لأن المقام وهو مقام المحاورات والمناظرات ونحوها ليس مقام التجريح لذلك فإنه ينبغي الإشادة بما عند المخالف من مميزات موجودة من فطرة سليمة مثلاً أو عقيدة صحيحة أو علم غزير، أو خلق حسن وغير ذلك، إذا كان يقربه إلى الحق لأنه هو الهدف من وراء المخاورات.

 

د- كلام الأقران بعضهم في بعض يطوي ولا يروي، كما يقول أهل العلم.

 

إذا تبرهن أنه يدافع الهوى والعصبية، فإن المعاصرة سبب المنافرة والمعاصرة حجاب قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: \" استمعوا علم العلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعض، فو الذي نفسي بيده لهم أشد تغايراً من التيوس على زريها \".

وروي نحو ذلك عن مالك بن دينار (ت 131هـ) وعبد العزيز بن حازم.

 

تاسعاً: إفساح المجال للخصم

ليتكلم ويفصح عن مراده ويورد أدلته ولا يستأثر أحد الخصمين بالوقت أو يقاطع خصمه.

وإذا وقع له شئ في أول كلام الخصم فلا يعجل بالحكم به، فريما كان في آخره ما يبين أن الغرض بخلاف الواقع له فينبغي أن يتثبت إلى أن ينقضي الكلام وبهذا أدب الله - تعالى -نبيه، - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما ً).

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply